تدوين- ذاكرات
نشرت مجلة النفائس، وهي مجلة أدبية فكاهية تاريخية، كانت تصدر في القدس لصاحبها خليل بيدس، في عددها/ الجزء العاشر، بتاريخ تشرين الثاني سنة 1923، مقالاً بديعاً للمربي خليل السكاكيني، يتنقل فيه برشاقة على اللهجات العربية، موضحاً كيف تطور اللغة وأساليب هذا التطور راصداً بعض الخطأ وبعض الصواب في بعض الاستعمالات اللغوية.
وفيما يلي نص المقالة التي كتبها السكاكيني
لتطور اللغة في ألفاظها وأساليبها تطورا مستمرا في توؤدة وخفآء فلكل عصر بل لكل إقليم في كل عصر لغته وأسلوبه حتى أنك لتستطيع أن تعرف القول من أي عصر او من أي إقليم هو وإن كنت لا تعرف قائله.
وإذا كنت ممن أولعوا بالأدب العربي فلا بد أن تكون قد رأيت آثار هذا التطور في العصور العريقة.
في القدم أيام كانت الأمة الواحدة تنقسم إلى قبائل متعادية تعيش في أقاليم مختلفة في الخصب والجدب والاعتدال والانحراف والشدة والرخاء وما إلى ذلك من اختلاف المجاورات والحالات الروحية والعقلية والاجتماعية والسياسية سببا لتفرع اللغات بعضها من بعض، تنقسم به اللغة إلى لهجات ثم تستقل كل لهجة لغة بنفسها، كما ترى آثار هذا الاختلاف لعهدنا هذا في اللغتين المحكية والمكتوبة. فإن لكل إقليم من الأقاليم العربية لغة محكية ولغة مكتوبة تخالفات ما لغيره كثيرا أو قليلا واللغتان خاضعتان للتطور المستمر.
فلغتا مصر المحكية والمكتوبة اليوم غيرهما قبله وكلتاهما غير لغتي سوريا..
ومن أمثلة ذلك في اللغة المحكية أنهم يسألون في فلسطين إذا لقي الواحد الآخر عن حاله وفي دمشق عن لونه وفي مصر عن زيه وفي لبنان عن خاطره.
وقد كان الناس قبل هذه النهضة الأخيرة، قبل انتشار لغة المدرسة ولغة الصحافة ولغة التمثيل ولغة الغناء، لو سار السوري في مصر أو المصري في سوريا لسار بترجمان بل لو تغيب السوري أو المصري عن بلاده إلى بلاد لا يسمع فيها لغته لعشرين سنة أو أقل ثم رجع إلى بلاده لرأى من تطور اللغتين المحكية والمكتوبة فيها ما لم يكن له به عهد وما يحس أنه أصبح غريبا في قومه.. ومن أمثلة ذلك في اللغة المكتوبة أن السوريين يجمعون لفظة "ميل" بمعنى الهوى على أميال كسيف وأسياف وقد شاع هذا الجمع في سوريا ومصر دهرا طويلا، ثم رأينا أن المصريين أخذوا يجمعونه على ميول كسيف وسيوف وكلا الجمعين صحيح ولعل السوريين يعدلون مع الأميال عن أميال إلى ميول بحكم التقليد. ومن ذلك أن السوريين يقولون بحث عن الأمر او في الأمر، ولكن رأينا كثيرين من كتاب مصر يقولون بحث الأمر بدون حرف جر، ومن ذلك أن السوريين يقولون سمى فلان ولده على كذا وعلى وزن فعَّل ولكن المصريين عدلوا في الزمن الأخير وزن فعل إلى وزن أفعل فيقولون أسمى فلان ولده كذا وكلا الوزنين صحيح وقد استعمل المتنبي في قوله.
يقولون لي ما أنت في كل بلدة......... وما تبتغي؟ ما أبتغي جَلّ أن يُسمى
ولكن وزن فعَّل أشهر وأشيع .. ومن ذلك لفظة فحسب فإنها درجت في هذه الأيام على ألسنة المصريين فتابعهم في استعمالها بعض السوريين وقد يستعملون لفظة فقط. ومن ذلك النسبة إلى طبيعة وبديهة فإن السوريين يقولون فيهما طبيعي وبديهي جريا على الاستعمال دون القياس. وأما المصريون فجعلوا يقولون طبعي وبديهي جريا على القياس دون الاستعمال..
ومع ذلك فإن السوريين يقولون تمدن الرجل أي تخلق بأخلاق أهل المدن وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والإنس والمعرفة.
لو تغيب السوري أو المصري عن بلاده إلى بلاد لا يسمع فيها لغته لعشرين سنة أو أقل ثم رجع إلى بلاده لرأى من تطور اللغتين المحكية والمكتوبة فيها ما لم يكن له به عهد
أما المصريون فيقولون في ذلك تمدين .. وهناك ألفاظ وتعبيرات كثيرة انفرد بها أحد الفريقين دون الآخر بما تستطيع معه أن تعرف القول هل هو سوري أو مصري، بل قد تعدّى هذا الاختلاف لغة الأدب والصحافة إلى لغة العلم فإذا قابلت كتب سوريا في الطبيعة أو الكيمياء أو الحساب أو الجغرافيا أو غير ذلك رأيت أنه يكاد يكون هناك لغتان، ولولا وحدة الأصل واعتبارات كثيرة تربطنا بذلك الأصل فلا نخرج عنه إلا رجعنا إليه لاتسعت مع الأيام شقة الاختلاف إلى أن تصبح اللغة العربية لغتين لا تكادان تتشابهان في شيء.. هذا في اللغة وأما الأساليب فهناك مذهبان مذهب قديم ومذهب جديد وإني أحاول هنا أن أشير إلى الفرق بين المذهبين على قدر ما تُعين عليه البصيرة الضعيفة.
مما أولع به أصحاب المذهب القديم إلى يومنا هذا تكرار الكلام في غير مواطن التكرار والإسراف في استعمال المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.
فهم لا يأتون بكلمة إلا اتبعوها بمرادفاتها فإذا قالوا تمادى الرجل في ضلاله قالوا ولج في غوايته وعمه في طغيانه ومضى على غلوائه، وإذا قالوا أحزنني هذا الأمر قالوا وشجاني وأمضني وأرمضني وأقلقني وأقض مضجعي، وإذا قالوا سرني أمر كذا قالوا وأفرحني وحبرني وأبهجني وأبلجني، بل استأذن القارىء الكريم في تقديم مثل على ذلك من رسالة أمامي لكاتب كبير قال: "يا إخواننا إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية قد بدأت مع الأقوام ونشأت مع الأمم مذ الكيان ومذ وجد الاجتماع البشري وتساكن الانسان مع الانسان" وقال " مهما انتبذ لنفسه مكانا منزويا وتنحى جانبا معتزلا" وقال "مهما ترامت به عن منبته الأقطار وتباينت بينه وبين أهله الأوطان والأوطار" وقال "وإن هذه النعرة الجنسية والحمية القومية وان هم أمرها جميع الأمم ولم يخل منها عرب ولا عجم فقد اختص منها العرب بالشِقص الأوفر والحظ الأكمل" فتأمل. وسبب ذلك إما قلة البضاعة ونزارة المادة الفكرية وأصحاب هذا المذهب يحسبون أن اللغة هي كل شيء فإذا حمل أحدهم على ظهر قلبه مقامات الحريري وديوان الحماسة والمعلقات والمفضليات فقد صار كاتباً تحريريا، وإما أن يكون ذلك متابعة لما ورد في بعض أقوال العرب من التكرار لضرورة كقول الشاعر "فألفى قولها كذبا ومينا" وتقليد لأحمد فارس الشدياق في كتابه "الساق على الساق" ولكن أحمد فارس لم يأت بالمترادفات لأنه يذهب على هذا النوع من الكتابة وإنما أراد أن يضع كتابا في المترادفات ككتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن ابن عيسى الهمذاني فبدلا من أن يسرد المترادفات لغير مناسبة أتى بها في سياق كلام على اعتقاد منه أن ذلك أشوق للقارىء... ومهما يكن السبب فإن هذا النوع من الكتابة غير طبيعي او غير عربي او على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر.
إذا قالوا أحزنني هذا الأمر قالوا وشجاني وأمضني وأرمضني وأقلقني وأقض مضجعي
الكلام ثلاثة أنواع إما ان يكون مساويا للمعنى المراد لا ينقص عنه ولا يزيد عليه وهو المساواة، وإما أن ينقص عنه وهو الإيجاز. وإما أن يزيد عليه وهو الإطناب. أما المساواة فمقبولة مطلقا. وأما الإيجاز والإطناب فلهما مواطن وشروط نص عليها البيانيون وليس في ما نصوا عليه ما يجيز أن يكيل الكاتب بالمترادفات كيلا. وأنت إذا تفقدت كلام العرب في أشعارهم وأمثالهم وخطبهم ورسائلهم علمت أنهم يميلون إلى الإيجاز وأنهم يكرهون التطويل الممل، بل إن عندهم نوعاً من الحذف يقال له الاكتفاء فبدلا من أن يقولوا " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" قالوا لا حول ولا .. ومنهم من يختصر هذا أيضا فيقول " لا ولا" فما قولك في عصر كادت تتغلب فيه لغة التلغرافات . فلو كان الكاتب يدفع ثمن كل كلمة يقولها لما سلك من طرق الأداء إلا أقصرها وأوضحها.. ولو كان ينقد عن كل كلمة يقولها لما وجد من يشتري له قولا. بل نحن في عصر تغلبت فيه روح الاقتصاد فإذا لم يراع الكاتب الاقتصاد فيما يكتبه في وقته ووقت القارىء، لم يجد من يقرأه.. بل نحن في عصر المعنى فيه الأول واللفظ المحل الثاني وبعبارة أخرى إذا لم يرتكز الأدب فيه على العلم فلا قيمة له.