السبت  21 كانون الأول 2024

ذات الإنسان.. مرجعيته المثلى

2023-03-14 11:19:12 AM
ذات الإنسان.. مرجعيته المثلى

تدوين- سعيد بوخليط

يأتي الإنسان وحيدا إلى هذا العالم، يرحل وحيدا، يتحمل مصيره وحيدا؛ بعد كل شيء. أيضا، وحيدا، يعيش خلال حياته، تجاربه الوجودية النوعية، ولا يمكنه بل ليس في مقدور الآخر تحمّل كاهل تلك المسؤولية الثقيلة بدلا عنه.

إذن، قوام الوحدة أصل حقيقة الإنسان، في حين تظل الآخرية، تجليا عابرا، تنسج خيوط سياقه ذات الإنسان بحكم انفتاح مشروعها صوب أفق ممكنات الموضوعي المفترضة، التي تطويها الذات ضمنيا.

ماهية وجود الإنسان محض وحدة، حيث الذات بمثابة المصدر والغاية، المنطلق والمنتهى، البداية والمآل، إنها حضن ولادته وكذا مرتع مماته. نواة إشكالية الوجود، خريطة الجدليات بين الإنسان وذاته، ذهابا وإيابا، فتأخذ مظاهر متنوعة، أساسها المطلق والجوهري: كيف يستثمر الإنسان ذاته في خضم تعددية العالم؟ ويقدم على خوض معركته المصيرية تلك، قبل أن تدوِّي صاعقة الموت.  

إذن، تكمن المرجعية الأولى والمطلقة للإنسان، في ثراء ومتانة ذاته؛ تبعا لمختلف تفاصيل ممكنات حمولتها. يستلهم وفقها رؤاه، يحدد عبرها وجهته، يرسم من خلالها جسرا نحو العالم. لأن أصالة وضعية الوجود الإنسان، تحيل بالمطلق على سيادة مرجعية الذات قياسا لأيِّ سند ثان، بالتالي، لا يمكنه الرهان خلال سيرورته الحياتية على حقيقة أخرى؛ غير بوصلة ذاته.

ماهية وجود الإنسان محض وحدة، حيث الذات بمثابة المصدر والغاية، المنطلق والمنتهى، البداية والمآل

يصبح الوجود تائها، بل زائفا ومجرد سراديب متاهة أخطأت منفذها، إذا توارت الذات إلى الخلف لصالح نفوذ أوهام أخرى. تتجلى ماهية الإنسان ومكمن جوهره؛ رغم كل شيء في علاقة بذاته دون وسائط. ربما عكستها تقريبا، شذرات ثاقبة من قبيل:

كن أنت، كن نفسكَ، ما جدوى أن يكسب الإنسان كل العالم وقد خسر ذاته؟، مصيركَ بين يديكَ، لا تعتمد سوى على ذاتكَ، أن تجد نفسكَ، كن سيِّدا على ذاتكَ، أنت ذاتكَ.    

لا يختار الإنسان والديه، وطن ولادته، جنسه، شكله، أسرته، محيطه المجتمعي، على الأقل طيلة سنوات عجزه الذهني وقصوره الفيزيائي، لكن عندما يتحقق وعيه بذاته ويبلغ مرحلة النضج والإدراك الشفاف، يمكنه حينئذ باختياره لموطن ذاته أساسا، تصحيح كل المنظومة الاعتباطية الملقاة على عاتقه سيزيفيا ويستعيد مضماره الجدير بإنسانيته، حرا في ذاته، يحيا كي تكون ذاته هوية لحضورها.

مختلف الهويات الاعتباطية التي أثقلت سلفا وجود الفرد؛ بغير إرادته، تأخذ وضعا مغايرا حين استعادة الذات، بمعنى الإنسان الخالص، الشفاف، الوجودي بامتياز، الماسك بزمام مصيره، التماهي مع أسئلة كينونته. أن يكون الإنسان ذاته، أول الدروس الأخلاقية وآخرها، فلا حقيقة تعلو على انتصار من هذا القبيل.

ينزلنا القطار وسط هذا العالم، يلقى بنا وسط هذا الجحيم عبثا، نغترب عن ذواتنا جراء مفعول متاهة أشياء عدَّة تستغرقنا، تجعلنا نبتعد عن المركز الأصيل والنواة المبدئية لمختلف حيثيات وجودنا، فيصبح مجرد حقيقة تائهة خلف أوهام شتى، تضاعف تقعير مسافة تمويه الإنسان عن مرجعيته الباطنية.

الإنسان حالة وجودية خاصة، منظومة سيكو- فيزيائية معقدة للغاية، لذلك يستحيل اختزاله إلى نماذج عِلِّيَة مباشرة ذات بعد واحد يكتسي منحى خطِّيا متواصلا، مثلما تؤكد أدبيات التنمية الذاتية لاسيما في صيغتها الإعلامية الربحية، التي تراهن دائما وفق استسهال سطحي على مقولتي الانسجام والتصالح. أساسا ''تصالح'' الفرد مع الآخر والعالم، ثم ضرورة تحليه لزوما بخاصية التفاؤل.

يتجسد ''الكائن المتفائل'' حسب تلك التأويلات في امتثاله اللاإرادي لمنظومة ما يحدث، والانقياد دون توتر كياني خلف موضوعية المصير الشخصي، مما ينم وفق مقتضى حال التصور، عن توازن ذهني وصحة نفسية مثالية. جدير بالاهتمام، ذاك المستكين إلى واقعه، المطمئِنِّ بسذاجة إلى قَدَرِه، وقد توقف حسه الوجودي عن التساؤل وإبراز الإشكالات المُلِحَّة، مكتفيا وعيه بمناصرة ثقافة محيطه منسجما مع تبريرات منظومتها، دون أن تشعر قط ذاته بتقويض لسلطتها.

مختلف الهويات الاعتباطية التي أثقلت سلفا وجود الفرد؛ بغير إرادته، تأخذ وضعا مغايرا حين استعادة الذات، بمعنى الإنسان الخالص، الشفاف، الوجودي

إذن، معنى وجود الإنسان، حضوره في ذاته ومماثلته لها، يملؤها مسؤولية، ويمتلكها بحرية مسؤولة. حتما، يستعيد استطراد أفكار هذا النقاش، مسألتين أساسيتين:

تتعلق الأولى، بالحيز الذي تكتسيه تعددية العالم الخارجي، المسماة اختزالا بالآخر.

أما السؤال الثاني، فيستلهم ثانية وأبدا حقيقة إدراكنا للعالم: حقيقي أو محض وَهْمٍ؟ هل يمتلك العالم فعلا واقعا ماديا، قائم الحيز حقا، أم فقط يظل سرابا ذهنيا ووجدانيا ترسم أبجديات أطيافه تمثُّلات الفرد.  

سجال مستفيض، تمتد فصوله بعيدا جدا، منذ  أن وعى الإنسان وعيه؛ ثم ارتقى به صوب الأفق الوجودي، تمحورت باستمرار أطروحاته حول علاقة الذات بما يتجاوز باطنيتها، وأيهما أولى سَبَبِيا، كي يشغل مكانة الأصيل والمنبع: الذات أو الموضوع؟

عموما، أنا من المؤمنين بأطروحة نحن ذواتنا، كل ما نعيشه ونحياه بمثابة ذهاب وإياب إليها، إنها المنطلق والمنتهى، حيث تبدأ اللعبة وتنقضي.