الجمعة  15 تشرين الثاني 2024

أدونيس: «المعرّى» أفضل من «دانتى» وأهم منه و«أبونواس» أهم من «بودلير»

2023-03-18 09:16:49 AM
أدونيس: «المعرّى» أفضل من «دانتى» وأهم منه و«أبونواس» أهم من «بودلير»
أدونيس

تدوين- حوارات

أدونيس شاعر من وزن شعرية ورؤى مختلفة ونقدية. علي أحمد سعيد إسبر؛ أو أدونيس، مثلما فضل تسمية نفسه منذ الوهلة الأولى، مستلهما الميثولوجية الفينيقية المتضمنة لكل معاني الجدة والحياة، في حوار جديد أجرته معه صحيفة الأهرام المصرية في باريس، بتاريخ 17 آذار/مارس 2023.

أجرى الحوار الصحفي المصري محمد القزاز.

ادونيس

وفيما يلي الحوار:

ما الذى ربحته وما الذى خسرته فى معاركك الشعرية والفكرية خلال مشوارك المديد؟

أنا لا أحب الطريقة العربية فى الحديث عن الذات، والحديث عما أنجزته، أنا شخص أتعلم، وكلما تقدمت فى العلم أشعر بأننى لا أعرف شيئا، ولذا لا أحب أن أتحدث عما أنجزته; لأن ما أنجزته إذا قيس بالعظماء الذين أنجزوا ما أنجزوه، أرى أن ما قدمته متواضع جدا. ثمّ أنت فى العالم العربى وفى الثقافة العربية السائدة لا ذاتية للإنسان، بل مجرد مجموعة من التعاليم، إفعل هذا ولا تفعل ذاك، فالإنسان العربى لا ذاتية له، وكل ما فعلته فعلته مع أصدقاء من مشروعات لأقول «لا» لهذه الثقافة، لأن هذا أمر مرتبط بالثقافة العربية السائدة، فالأساس هو الجمع والأمة، الذاتية لا وجود لها، وهناك مقولة للفارابى: كل موجود فى ذاته فذاته له، وكل موجود فى آلته فذاته لغيره، ونحن العرب لا موجودين ذاتيا، بل موجودون فى آلة دينية أو آلة سياسية لا فى ذواتنا، أو هما معا: آلة دينية وسياسية، وأنا ما زلت أبحث عن ذاتى، وقد نجحت حينا وفشلت حينا آخر، غير أنه لا يمكن النجاح أبدا على فكرة تقوم جوهريا على محو الذات، وثقافتنا قائمة على محو الذات، وقائمة على الجمع وعلى الأمة، وأنت كفرد فى أمة لا رأى لك.

الفارابي
كيف؟
إعلم، لا أحد ضد الدين، الدين حاجة إنسانية ويجب احترامها، لكن الدين تجربة فردية وليس تجربة جماعية، أنت حرٌ تعبد من تشاء وكما تشاء، لكن لا تفرض دينك على أحد، فالمواطنون فى المجتمع لابد أن تكون لهم قيم واحدة، وأن تكون القيم مدنية لا دينية، فالدين ملزم أنا آكل هذا وأنت لا تأكله، أنا أقوم بذلك وأنت لا تقوم به، وإذن يستحيل أن تكون لك وحدة مدنية فى مجتمع كل واحد لديه عالمه الخاص. المشترك يجب أن يكون مدنيا لا دينيا، وما لم يتم ذلك يستحيل أن تكون عندنا مجتمعات حقيقية.

محمد علي

لقد سقطت الخلافة العثمانية عام 1923، نحن الآن فى 2023، أى قرن كامل، بداية الخروج كانت محمد عليّ، فإذا وضعت هذا التاريخ ودرسته منذ محمد على وحتى الآن فسوف ترى أن محمد علىّ كان أكثر تقدما من كل من جاء بعده.

لماذا؟
إذا نظرت إلى القرن الفائت فستجد أنه عصر الانقلابات المعرفية الكبرى، وعصر الخروج من الظلمات إلى النور، فكل دول العالم تقدمت فى هذا القرن، وانقلبت من سيىء إلى أقل سوءا، أو من حسن إلى أحسن، إلا العرب فى هذا القرن ازدادوا تخلفا، ينبغى أن تعلم أن الأمة لا تنتج قصيدة، الفرد هو الذى ينتج قصيدة، الذات والأمة لا تنتجان لوحة، الفنان هو الذى ينتج لوحة، الأمة لا تبدع سيارة، الفرد هو الذى يبدع سيارة، الأمة: لا توجد أمة، والسؤال كيف تخرج من هذه المفاهيم؟ كيف تخرج من هذا العالم الآلى القاتل؟

الشعر هو أعظم تعبير عن الإنسان.. ولا نزال فى عصر الشعر لا الرواية

على مستوى آخر فإن العرب موجودون فى قارتى آسيا وإفريقيا، تاريخ عريق من الفرعونية والفينيقية وغيرهما، أساس العالم موجود فى هذه المنطقة على جميع المستويات أساسه الفنى والدينى والأخلاقى والعمرانى، فهو مؤسس العالم، منْ بحاجة أكثر الآن، العرب لأمريكا أم أمريكا للعرب، أمريكا فى حاجة للعرب، والعرب ليسوا فى حاجة إلى أمريكا على الإطلاق، وعلى أى مستوى، ولا يحتاجون إلى فرنسا أو أوروبا، هم فى حاجة إليهم، هذه هى أزمتنا ومشكلتى ياسيدى، وأنا أتصارع مع هذه المشكلة.
 

وكيف سبيل الخروج؟
يجب أن يخرج العرب من السردية الدينية المكبلة، ومن السردية الغربية المهيمنة، وإذا لم يتم هذا الخروج فنحن ذاهبون إلى الانقراض بالمعنى الرومانى للحضارة.

فى معرض الكتاب بالقاهرة عام 2015 أثرت قضية لإعادة قراءة الموروث العربى الإسلامى، وهو مشروعك منذ زمن طويل منذ كتاب الثابت والمتحول، هل ترى أن تجديد الخطاب الدينى لن يحدث إلا من خلال تلك القراءة؟

من حيث المبدأ نعم، قد يتغير نوعيا فيصير أوسع وأعمق، هذا مشروع حياتى، وقد حاولت أن أعيد كتابة التاريخ الذى أنا وأنت جزء منه، أعيده بشكل صحيح، لأنه بالأخير أن الدين وجد من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل الدين، هذه قاعدة، الإنسان هو الغاية العليا، والدين يجب أن يخدمه، وإلا ما كان فيه إله واحد وديانات متعددة، فالله يقول «مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» فالله نفسه عنده الحسن والأحسن، ويخاطب نبيه فيقول له «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ» و«لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» و«فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ». وهذه الآيات ليست منسوخة، فلماذا لا يقرأ المؤمنون القرآن فى هذه الأشياء، ومن هنا يجب العودة كليا إلى النص المشترك وهو النص القرآنى، وأنا أقول هذا للمسلمين فأنا لست متدينا، لكنى أحترم الدين واحترم حقوق الإنسان فى الدين، يجب العودة إلى النص القرآنى، الذى يتفق عليه الجميع شيعة وسنة، ومذاهب وطوائف إلى آخره، وترك كل ما عداه.

الشعر الذى تكتبه المرأة اليوم وبعض الشباب أكثر أهمية من جيلنا كله​

لكن تجديد الخطاب الدينى نردده ولا نقترب منه، مع أن الفكرة قديمة جدا، لكنها لا تزال إلى اليوم موضع جدال، كيف نخرج من تلك الدائرة الجدلية ونبدأ تجديدا حقيقيا لذلك الخطاب؟

أنا أنصح بذلك فقط، ودون ذلك سيشوه الدين نفسه ويتحول إلى مجرد أداة وآلة، لن ننتج أى عمل عظيم على الإطلاق، وأول ما يجب القيام به والخروج منه هو الوصاية، لا وسيط بين الإنسان وبين الله، لا شيخ ولا مؤسسة، كل هذا مختلق، لنترك الإنسان لخالقه.

قلت إن داعش هى ابنة الإسلام والمسلمين الفاشيين، وليست ابنة الاستعمار وحقوق الإنسان، وأليست داعش من صُنع أمريكا كما قالت هيلارى كلينتون؟

نعم هى من صُنع أمريكا، ومن صنع المسلمين أيضا، المسلمون مولوها. داعش قامت بأعمال مهينة أولا للإسلام، لأنه ثبت للبشر أنهم لا ذنب لهم، واغتصبت النساء وشردت شعوبا بأكملها، وما حدث للإيزيدية شىء مهين للدين ومهين للإنسانية، والأصعب من ذلك أن أى مؤسسة دينية لم تقل لا ولم تنتقد ما فعلته داعش، ولم يصدر أى بيان من المفكرين المسلمين – إن كان هناك مفكرون – يدين هذا العمل، لأن ما فعلته هو ضد الإسلام فى المقام الأول، وهذا هو الأصعب، فدائما هناك مجرمون فى الشعوب، لكن أن يُسكت عن الجريمة فهذا هو الأصعب. سكت المسلمون عن كل هذه الجرائم التى دمرت سوريا والعراق واليمن وليبيا، ودمرت كل شىء.

الإمام محمد عبده

الإسلام الصوفى وسط كل تلك الأزمات فى مواجهة داعش أو ما تبقى منه فى الفكر والتيارات الأصولية الأخرى، هل يمكن للصوفية أن تكون بديلا أو سبيلًا للخلاص من التوجهات الدينية المتشددة؟

ليس هناك إسلام صوفى، هذه شائعة، لأن التصوف كدروشة فيه إساءة فهم، ويجب على كل عربى أن يقرأ تاريخه، العرب لا يقرأون تاريخهم ولا يعرفونه، يتحدثون عن التصوف ولا يعرفون ما هو التصوف، التصوف جوهريا نظرة مخالفة بالأساس للنظرة الإسلامية، وأول شىء فإن الله فى الإسلام قوة مجردة من خارج العالم تدير العالم، وفى التصوف الله طاقة،؟ عضويا موجود فى كل شىء وفى العالم، وهذه غيّرت مفهوم الله فى الصوفية، وثانيا غيّرت مفهوم العلاقة بالآخر، فالآخر فى الإسلام التقليدى كافر ما لم يصير مسلما، وفى التصوف لايوجد كافر ومسلم، فيه إنسان عارِِ وإنسان غير عارِِ، ولا يوجد كفر بالتصوف، هناك إنسان، وهناك ذات وهناك آخر. ثالثا غيرت مفهوم الهوية، فالهوية ليست إرثا، إذا كنت مسلما تصير مسلما، الهوية ابتكار يبتكرها الإنسان، بعمله وأفكاره، فكل إنسان له هويته الخاصة، فالهوية مسألة صلاحية سياسية، فهى بالمعنى العميق هى هوية إبداع، وجميع المفكرين يرون أن التصوف ثورة عظيمة فكريا، لكن لا علاقة لها بالإسلام، هى عاشت فى الإسلام وهناك من قُتل ومن دُمر، فأبو حيان التوحيدى وهو من كبار المفكرين فى العالم، ألقى فى أواخر عمره كتبه فى البحر ضنّا بها على من لا يقدرها بعد وفاته، واشتكى من تجاهل إبداعاته، ولحسن الحظ أن لدينا نسخا منها كان أصدقاؤه قد نقلوها منه قبل إلقائها، وهو من كبار الكتاب فى العالم وليس فى العرب فقط، والمعرّى أفضل من دانتى وأهم منه، وأبونواس أهم من بودلير، لأن ما قاله بودلير بعد ألف سنة من أبى نواس قاله أبو نواس، هذه السردية الغربية هى التى دمرتنا ثقافيا، واستعمرتنا عقليا، فالآن أى شاعر غربى تافه لا قيمة له تضعه الصحف العربية فى صدارة صفحاتها الأولى.

لا أرى روائيا عربيا خارج «نجيب محفوظ».. والروائيون الآخرون سجناء القص والسرد

ليس فقط السياسيون مستعمرين فى السردية الغربية، المفكرون أيضا مُستعمرون، ولماذا المعرّى أهم من دانتى؟ لأنه كان إنسانا، بينما دانتى كان عنصريا، لكننا نحن العرب ندافع عن دانتى لأن من قام بالترجمة له حذف كل شعر له علاقة بالعنصرية ووضعوا رقابة على أبياته كى يظهر بالصورة التى يتمنونها. دانتى كان عنصريا ومتدينا بالمعنى الكنسى، ولم تكن له قيمة سوى أنه كتب باللغة الإيطالية الدارجة، فقيمته ثقافيا لا شعريا ولا إنسانيا.

أبو نواس
بخصوص الشعر، لماذا تذهب إلى أن الجيل الشعرى الراهن أفضل من جيلكم،؟ فلماذا الآن نشعر بغياب الشعراء واختفاء الشعر خلاف الوضع سابقا؟

سأعقد مثالين من الشعر العربى، الأول من مصر أو ما يسمى عصر النهضة أو خلاصة عصر النهضة، فشوقى سميناه «أمير الشعراء» إذا وضعته الآن أمامنا مع أبى تمام والبحترى والمتنبى الشعراء الذين استعادهم، وإن كانت الاستعادة بلغة عالية، لكن إذا قارنته كرؤية شعرية مع شاعر تتحاور معه وقارنته بهؤلاء ستجد أنه لا شىء بالنسبة لهؤلاء، لم يضف أى شىء، وإن من سميناه أمير الشعراء كان تقليديا جدا ولم يضف للشعر العربى شيئا على الإطلاق، وإذا قارنت شوقى بصلاح جاهين فستجد أن الأخير هو الأفضل، فصلاح جاهين حتى الآن يحاورنى ويحكى معى، أما شوقى فلا أستطيع أن أقرأه أبدا، وأنا أفضل صلاح جاهين عن أحمد شوقى.

الجواهري

المثال الثانى: محمد مهدى الجواهرى سميناه «شاعر العرب الأكبر» الشىء نفسه أقوله أنه ليس لدى الجواهرى أى شىء جديد على الإطلاق، مُظفر النواب أفضل منه. لماذا؟ لأن وراء شوقى الإيديولوجيا والدين والتراث، والشىء نفسه لدى الجواهرى.

إذن أنت تضع صلاح جاهين على رأس كل الشعراء فى هذا العصر؟

طبعا، هو أفضل الشعراء فى مصر، وهو الأكثر أهمية شعرية وأعمق إنسانية وأبعد أفقا من أمير الشعراء شوقى، والشىء نفسه للجواهرى، فالإيديولوجيا مثل الدين تشوه كل شىء، وتعطى الحق لمن لا حق له، فالشعر الأيديولوجى الذى كتب فى الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية وكل الثورات أين هو الآن؟ إنه لا قيمة له على الإطلاق.

 

صلاح جاهين