تدوين- نصوص
يُعرض في شهر رمضان الحالي، مسلسل يحمل عنوان "سرُّه الباتع"، للمخرج المصري خالد يوسف. المسلسل مستوحي عن قصة تحمل نفس الاسم للأديب الراحل يوسف إدريس ضمن مجموعته القصصية الشهيرة «حادث شرف» التي نشرت للمرة الأولى في يناير 1958 وتتكون من 7 قصص وهي: "محطة، شيخوخة بدون جنون، طبلية من السماء، اليد الكبيرة، تحويد العروسة، حادثة شرف، وسره الباتع".
وكانت قصة «سره الباتع» أطول القصص في المجموعة والتي مزجت بين الواقع والأسطورة بعمق وسلاسة، ويتم تقديمها حاليًا من خلال مسلسل «سره الباتع» الذي يدور حول زمنين متوازيين دراميًا؛ الأول العصر الحاضر، أما الثاني فهو عصر الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، ويشارك فى بطولته أكثر من 60 ممثلًا وممثلة من مختلف الأجيال، وأبرزهم: أحمد فهمي، ريم مصطفى، أحمد السعدني، حنان مطاوع، حسين فهمي، نجلاء بدر، عمرو عبدالجليل، صلاح عبدالله، هالة صدقى، وأحمد عبدالعزيز. كما يشارك فى بطولة المسلسل أيضًا أحمد وفيق، منه فضالي، أحمد عبدالعزيز، محمود قابيل، عايدة رياض، خالد سرحان، مصطفى درويش، علاء حسني، ناهد رشدي، أيمن عزب، أيمن الشيوي، مفيد عاشور، مجدي فكري، محمد الصاوي، ميسرة، صبري عبدالمنعم، عمر زهران، خالد طلعت، شريف حلمي، محمود عزت، عفاف مصطفى، وهايدي سليم.
وفيما يلي قصة "سره الباتع"
١
لم تكن علاقتي بالسُّلْطان تتعدَّى مجرَّد نظرة غير مُحِبَّة للاستطلاع أُلْقِيها عليه كلَّما مررْتُ به في ذهابي وإيابي، نظرة سريعة كأنما لأطمَئِنَّ بها فقط على وجوده هناك، فقد كان علامةً رئيسية من علامات البلد، مثله مثل محطة السكة الحديد، وسراية آل ناصف، والبقعة المسكونة التي قُتِل فيها سيد إبراهيم.
ولكني ذات يوم اضطُررتُ أن أشغل نفسي بالسلطان، فقد فُزْتُ يومَها بأول نجاح في حياتي ونُقِلتُ من السنة الأولى الابتدائية، وفرحتي بالنجاح يومها كانتْ أكبر من كل فرحة أحسستُ بها لأي نجاح حدث لي بعد هذا، فرحة تمنَّيْتُ معها أن أعود من المدرسة إلى بيتنا على جناح طائر، لأزفَّ الخبر إلى جدي الأكبر، والد جدي، وكان عجوزًا جدًّا، له ظهر شديد الانحناء، وتجاعيد كثيرة لطيفة تغطِّي وجهه ورقبته وصدره وكل جسمه، تجاعيد تبدو من كثرتها وتناسُقها وكأنه وُلد بها.
وما كاد جدي يسمع الخبر حتى قال لي في صوته الجاد: «أوفِ النذر حالًا.»
وكنتُ قد نسيتُ حكاية هذا النذر تمامًا، فقد حدث خلال العام أن انتابتني حالة يأس وأنا أذاكر، واعتَرَاني شبهُ يقين أنني مهما فعلتُ فلن أنجَحَ أبدًا، وكدتُ أبكي ساعتها، ولكني ذهبتُ إلى جدي، وصنعتُ له قهوة زائدة السكر كما يحبها وحملتُها له خلسة (إذ كان يحب القهوة، وكان جدي الأصغر، ابنه، يَمْنَعُه عن شربها، فكان بيننا شبه اتفاق، أن أسْرِق له البن والسكر، وننتحي مكانًا قصيًّا نصنع القهوة فيه، في مقابل أن يحدِّثني هو بعد أن يَزِنَ رأسه عن زمان وأيام زمان الحلوة)، يومَها حملتُ له الفنجال، وانتظرتُ إلى أن شربه كلَّه شفطةً شفطةً، ولحس كل البن المترسِّب في القاع، ثم سألتُه إن كان يعتقد أني سأنجح، والشيء الغريب أني كنت متأكِّدًا أن جدي الأكبر هذا لا يعرف ما هي المدارس، ولا ما هو النجاح، ومع هذا فحين قال لي لحظتها إنني سأنجح بإذن الله، أحسستُ أنني لا بد سأنجح، وكدتُ أطير فرحًا، غير أنه اشترط لنجاحي يومها أن أنذر للسلطان حامد نصف دستة شمع أُوقِدها في ضريحه.
ولم يتركني إلا بعد أن نذرتُ النذر أمامَه، وأعدْتُه مرارًا حتى أطمأنَّ إلى أنني لم أخطئ في قوله.
ولم تكن مشكلةً أن أحصل على ثمن الشمع؛ فقد كنتُ ناجحًا، وطلبات الناجح، خاصة في يوم نجاحه، لا تَلقَى معارضةً تُذكَر.
ولم أغفر لنفسي أنَّ الشيطان يومَها راوَدَني حين ذهبتُ إلى الدُّكَّان، وفي الحقيقة لم يكن هو الشيطان، كان «البرطمان» الذي يحتوي كمية هائلة من «الكراملة» ويرقد على جانب البنك هو الذي راوَدَني.
وقسمتُ العرب عربين كما يقولون، واشتريتُ بنصف ما معي ثلاث شمعات وبالنصف الآخَر «كراملة».
وبينما كنتُ آخِذًا طريقي إلى حافة «الجبَّانة» حيث مقام السلطان كنتُ لا أزال أؤنِّب نفسي، بل أحيانًا كنتُ أتصوَّر أنَّ السلطان حامد سينتقم للثلاث شمعات التي اغتصبتُها من نذره بأن يزورَني في المنام مثلًا، أو يُصِيبني بداء الصفرة.
ولستُ أدري أكان هذا هو السبب في اضطرابي أم شيء آخَر كان السبب، فقد بدأتُ أُحِسُّ باضطراب شديد حين أشرفتُ على الجبَّانة ورأيتُ مقام السلطان حامد من بعيد، وشيء غريب هذا، فآلاف المرات رأيتُ مقام السلطان حامد من بعيد، دون أن أحفِلَ به، حتى لون الضريح لم أكن أعرفه، ولا كان يهمُّني مَن السلطان في قليل أو كثير، ولكني مع هذا كنتُ مضطربًا، حتى فكرتُ أكثر من مرة في أن أوَلِّيَ الأدبارَ وأطلق ساقي للريح عائدًا إلى بيتنا، خاصة وأنَّ مسألة النذر هذه لم تكن قد دخلتْ إلى عقلي، وأنا متأكِّد أن السلطان هذا ليس له أيُّ علاقة بنجاحي، وأنه لم يُساعِدني في الإنجليزي ولا غشَّشَني في مسألة القسمة المطوَّلة، والنذور والعفاريت وشم البصل يوم شم النسيم، أشياء لم أكن أؤمن بها، لا لأنَّنا كنا قد أخذنا في المدرسة أنها بِدَعٌ ورِجسٌ من عمل الشيطان، ولكن لأنَّ الناس كلَّهم يأخذونها كالقضايا المسلَّم بها، فكيف أفعل أنا هذا؟! وما فائدة تعليمي حينئذٍ وبدلتي؟!
ورغم شدة اضطرابي فلم أرجع، لا خوفًا من جدي، ولكن خجلًا من نفسي وخوفًا من أن أبدو أمامَها كالجبان، والظاهر أننا ونحن أطفال نخجل من الفرار أيضًا مثلما يفعل الكبار.
وهكذا ظلِلْتُ أخاف وأتحدَّى الخوف وأتقدَّم تدفعني الرغبة في القيام بتجربة جديدة حتى وصلتُ إلى مقام السلطان حامد، كان قائمًا في ركن من الجبَّانة، وبجواره طريق مقطوع لا يمر به أحد، وكانتْ أول مرة أرى فيها الضريح عن قُرْب، ولم يكن ضريحًا بالمعنى المفهوم، كان أهل بلدنا يسمُّونه المقام، ولهم حق، فلم يكن يُشبِه من قريب أو بعيد أضرحة أولياء الله في القاهرة، وكنتُ قد زرتُها مع أبي، ورأيتُ رَوْعَتَها، وسجاجيدها السميكة الفاخرة، وشبابيكها المذهبة، ونجفَها الفخم الكبير والرائحة الغريبة الغامِضة التي تملأ جوَّها وتُوحِي بالرهبة والخشوع والإجلال، أمَّا مقام السلطان فقد كان عبارة عن حجرة قديمة وكأنَّها مبنية منذ الأزل، ذهب الطلاء عن كل جدرانها وبقيتِ الحجارة الحمراء بارزة متآكِلة كضلوع الميت العجوز، ولم يكن يُميِّز المقام عن بقية المقابر إلَّا أنه مبنيٌّ من الحجر؛ إذْ إنَّ معظمها مبنيٌّ من الطين، والأغنياء وحدَهم هم الذين يطلونها بالجير، ويكتبون أسماء موتاهم عليها، يكتبها لهم عم محمد البنا بطلاء الزهرة وبخطِّه العاجِز الركيك.
ثمَّتَ فرقٌ آخَر بين المقام وبين القبور، فدونًا عنها كانتْ هناك أشجار كافور طويلة قد زُرِعتْ حول المقام، ويبدو أنها زُرِعتْ أيضًا منذ الأزل، فقد كانتْ طويلة طولًا لا حدَّ له، وجذوعها سميكة لا يستطيع عملاق أن يحتَضِنَها، وكانتْ مزروعةً بنظام حتى بدَتْ كالسُّور العالي المهيب.
وكان كل شيء يدعوني إلى أن أنتهي من مهمتي بسرعة وأعود، فالعصر يضيق، والظلال تمتدُّ بشكلٍ مخيفٍ، وحقول القمح واسعةٌ كبحرٍ أبيض لا شاطئ له، والناس فيها مجرد نقط غامقة صغيرة لا تكاد تُرى.
ودُرْتُ حول المقام، لم يكن له سوى باب كالِحٍ قديم، ونافذة واحدة يتيمة، كانت لا بدَّ هي النافذة التي حدَّثني عنها جدي، وتقدَّمتُ منها، ولكن، قبل أن أصِلَها، فوجئتُ ببحيرات وأنهار من الشمع المتجمِّد قد ملأتِ الأرض، كان الشمع الذي سال من النذور على مرِّ الزمن قد ملأ حافة النافذة، وسال على الجدار حتى غطَّى أحجاره العارية، ووصل إلى الأرض.
وأدركتُ أنَّ آلافًا قبلي لا بد قد نذروا للسلطان حامد، ومَن يدري، ربما ملايين (والملايين في لغة الأطفال لا تعني دائمًا ملايين).
وكدتُ أضحك على سذاجة أهل بلدنا الذين ذابَتْ نقودُهم واختلطَتْ بالرمال، لأجل ماذا؟! لأجل هذا السلطان الذي لا خادم له ولا مسجد ولا مستجيرين، ولا حتى ضريح يوحي بالاحترام؟!
كدتُ أعود وأحتفظ بالشمع لنلعب به أنا وأصحابي في الليل ونُوقِده ونسهر حوله، وكم يكون هذا مسلِّيًا وجميلًا! بل أنَّبتُ نفسي لأنني أضعتُ القرشَ في الشمع ولم أشتَرِ به «كراملة» هو الآخَر وسمحتُ لنفسي أن تصنع مثلَما يصنع أهل بلدنا الجهَلة، الذين لا يقرءون ولا يكتبون.
ولكني يومها، احتفظتُ بشمعةٍ واحدةٍ فقط، وأوْقدتُ الاثنتين، لستُ أدري لم! ربما تنفيذًا لتعليمات جدي ليس إلَّا، وربما رغبة في تقليد أهل بلدنا، فقط في تقليدهم، بل لماذا لا أعترض وأقول إنني، بعد أن قرأتُ الفاتحة، ودعوتُ لجدي ولوالدي، نذرتُ للسلطان إن أنا نجحتُ في العام التالي أن أوْقِدَ له دستة شمع بأكملها؟
ورغم أنني قلتُ لنفسي وأنا عائد إنني نذرتُ الدستة فقط لتفاؤلي بمسألة النذر إلَّا أنني من يومِها بدأ السلطان حامد هذا يشغل عليَّ تفكيري بشكل ما.
كان أحيانًا يصعب عليَّ، ذلك الوَلِيُّ الفقير المدفون في تلك البقعة النائية الموحِشة، وأحيانًا كنتُ أفكِّر في المؤمنين به، الفقراء مثله، الذين يتمنَّوْن أمنياتهم الصغيرة الطيبة، ويرفعون بصرهم إلى السماء، وينذرون للسلطان حامد، ويحقِّق السلطان أمانيهم فيُسرِعون إلى نافذته، ويُشعِلون شمعاتهم، وليلة وراء ليلة تضيء نافذة السلطان حامد بشمعة، أمنية صغيرة تحقَّقتْ، وقلب فقير رأى لحظة سعادة، ولو لليلة، وأحيانًا كنتُ أفكِّر في الكمية الهائلة من الشمع المتجمد بجوار المقام، كيف لم يسرقها أحد؟! كيف لا، والسلطان ليس له خادم يحرسه، والطريق إليه خالٍ من المارَّة، والناس في بلدنا لا يتركون طوبة تنفع ولا حجرًا إلَّا قلْقَلوها وحملوها إلى بيوتهم؟!
أحيانًا كنتُ أفكِّر في تجريد عصابة من أصحابي للسطو على الشمع، وأحيانًا كنتُ أخاف، وأحيانًا كنتُ أسمع اسم السلطان، لم أكن أسمعُه كثيرًا ولا مسبوقًا بتكبير أو محفوفًا بتقديس خطير، وإذا جاءتْ سيرته لا يتوقَّف الواحد من أهل بلدنا عن الكلام مثلًا ويقرأ له الفاتحة بخشوع، ينفض الواحد منهم بلغته وهو يستعدُّ للقيام ويقول: «معلش، أهه كله من عضم النهار، شالله يا سلطان حامد! شالله!»
و تتربَّع الولية من الولايا أمام مقطف السمك وتقول لعم علي الصياد: «بكام؟» فيقول: «بعشرة»، فتعود تقول: «وللسلطان حامد بكام؟» فيخفض عم علي حينئذٍ وجهَه ويغلق عينيه وكأنما غُلِب على أمره ويقول: «عشان السلطان بتمنية، وعشانك انتي بتسعة»، أو يرفع الرجل جوال الطحين على رأس زوجته، ويقول وهو ينتعه: «إيدك يا سلطان!»
وكنتُ أعرف أهل بلدنا جيدًا، كانتْ لا تُخِيفني منهم وجوههم المكشرة على الدوام، ولا ذقونهم التي تشوِّك أو نظراتهم التي تظن أنها خالية من الرحمة والشفقة، كنتُ أعرفهم تمامًا، وأعرف أنهم لا يقولون ما يعتقدونه إلَّا بينهم وبين أنفسِهم، أمام العمدة أو الموظفين، يقولون كلامًا عاليًا كثيرًا، ويحلفون الإيمان المرتفعة المغلَّظة، وإذا سألهم الغريب عن شيء قالوا عكس ما يُضمرونه، هم لا يُخرِجون ما في أعماقهم إلَّا رغمًا عنهم، في كلماتهم المتناثِرة، في همساتهم الخافِتة وراء ظهور موظفي الحكومة، في حديث الرجل إلى زوجته بعد العشاء حين يركبن بظهره إلى الحائط ويمدِّد ساقَيْه على طولهما، ويقول: «ليلة امبارح يا بت، حلمت خير، اللهم اجعله خير، أن السلطان حامد جاني وقال لي: «أنت نايم للضهر ليه؟! قوم، الشمس طلعت، قوم!»
٢
وتعودتُ أن أرثِي لأهل بلدنا هؤلاء، كنتُ قد زرتُ السلطان، ورأيتُ مقامَه عن قُرْب، ولم أحسَّ برهبة ما، ولا اقْشَعَرَّ جسدي أو وقَفَ شعري، أو ظهرتْ لي كرامةٌ من كراماته، أربعة جدران قديمة تكاد تنهار، ماذا فيها حتى يستقرَّ صاحبها في أعماق صدورهم؟! وحتى يتحدَّثوا عنه كما لو كان كائنًا حيًّا ضخمًا يَحْيَا في مكان م؟! ماذا فيه حتى يتحدَّثوا عنه بلا تكليف هكذا كما يتحدث الجار إلى الجار؟! وكنتُ أعرف خطورة هذا الحديث، فالفلاحون لا يرفعون الكلفة إلَّا بصعوبة شديدة، وإذا خاطبوك بلا ألقاب، وتحدثوا إليك كما يتحدث الجار إلى الجار كان معنى هذا أن احترامَهم لك يرتفع إلى مرتبة التقديس.
والحقيقة بدأتْ تنتابني الغَيْرة من السلطان حامد، بدأتُ أحسُدُه على تلك المكانة التي يحتلُّها في قلوب الناس، مع أنَّه لم يكن يملك لهم حولًا ولا قوة، هذه الكمية من الحجارة القائمة عند حافة الجبَّانة، كيف يكون لها كل هذا الاحترام والتقديس؟!
وقلتُ لنفسي ذات يوم: ربما أكون مخطئًا، وربما هناك شيء داخل المقام هو السبب في تلك المكانة، ولم أكن — من شدة استخفافي بأمر السلطان — قد اهتممتُ بإلْقاء نظرة على الداخل من خلال النافذة حين كنتُ أوقِدُ الشمع، وأنَّبتُ نفسي كثيرًا لأني لم أفعل، وقرَّرتُ أن أذهب وأرى المقام من الداخل، وحين خطرتْ لي تلك الفكرة لم أتحمَّس لتنفيذها في الحال، فلم تكن حكاية السلطان حامد كلها تهمُّني إلى تلك الدرجة، كانت مجرد أفكار تعنُّ لي إذا جاءتْ سيرته، وتشغلني قليلًا ثم تمضي، وأعود إلى ما كنتُ فيه.
غير أنني في صباح يوم الجمعة سمعتُ امرأةً ماشية في الشارع تندُب حظَّها، وتكاد تولول وهي تقصُّ لكلِّ مَن تستوقِفُها من النساء قصة ابنها المريض، وتختم قصتها كل مرة بدستة شمع للسلطان إن هو طاب، وكدتُ أخرج لها وألْعَنُها، وأُفْهِمها أنَّ سلطانَها حامد هذا لا علاقة له بمرض ابنها، ولا بركة فيه، ولا يملك حتى أن يمنع البلى عن مقامه، ولكنني لم أفعل، بل سألتُ نفسي بصراحة لماذا يُضايِقني شيء كهذا؟! وما الضرر في أن تنذر له نذرًا؟! هل سيَمْنَعُ نذرُها الشفاءَ عن ابنها إن كان سيشفى؟! وأدركتُ أن حماسي كان فقط لأنها ذكرتِ اسم السلطان حامد، ولم تذكر اسمي مثلًا، حماسي كان مبعثه هو تلك المكانة الهائلة التي كنتُ يومًا فيومًا أحسُّ بالسلطان حامد يحتلُّها في قلوب أهل بلدنا، كنتُ أخاف على نفسي منها، وأخاف أن يأتي اليوم الذي أؤمن أنا الآخَر به وأقدِّسه دون أن أعرف سبب الإيمان به وتقديسه.
وتأكيدًا لاستخفافي به قررتُ أن أذهب في الحال، وأرى مقامه من الداخل، وأرى السِّرَّ المزعوم، وأشبع بعد هذه سخرية من السلطان وأهل بلدنا على حدٍّ سواء.
ولكن، لا أدري ماذا حدث، فحين أصبحتُ قريبًا من المقام، ورأيتُ أنهار الشمع المتجمِّد وبحيراته، أحسستُ أني مُقْدِمٌ على شيء حرام، وكأنني سأعبث بشيء يخص أهل بلدنا أجمعين وهم غائبون، إحساس اقشعرَّ له جسدي ولم أستطع أن أتغلَّبَ عليه، وكأنَّك في اجتماع عام حافِل وتهمُّ أن تمزِّق علم المجتمِعين، وعلى هذا وقفتُ في مكاني متردِّدًا وقد أحسستُ لأول مرة أني في سبيلي إلى القيام بعمل غير مشروع، وتلفَّتُّ حولي مرارًا مع أني كنتُ متأكِّدًا من خلوِّ المكان وأنَّ أحدًا لا يفكِّر في المجيء إليه خاصة في الصباح.
وخفت!
فقد أدركتُ لحظتَها فقط أن السلطان حامد هذا مارد كبير، والبركة في أهل بلدنا الذين جعلوه هذا المارد الكبير، فمع أني كنتُ واقفًا في مكاني لا أستطيع الاقتراب من النافذة إلَّا أنَّني لم أكن أتصوَّر أن المسألة ممكن أن تبلغ هذا الحد، وأنَّني فعلًا لا أجرؤ على الدنوِّ، وربما الخوف هو الذي دفعني إلى النظر إلى مكان السلطان حامد من جديد، كان كل شيء كما هو في المرة السابقة، الحجرة البالية القِدَم، والجدران البارزة الأحجار بغير طلاء، ولا شيء بالمرة يُخِيف، وكل ما أراه يدفع إلى الاستخفاف، وتقدَّمتُ من النافذة متلصِّصًا، كانتْ أعلى من قامتي، وكان عليَّ لأرى ما في الداخل أن أتشبَّثَ بحديدها وأرفع نفسي.
وأمسكتُ الحديد، كان ناعِمًا زلقًا من آثار الشمع المتجمِّد، ومرة واحدة رفعتُ نفسي ثم في الحال هبطتُ وقلبي يدقُّ، لم أكن قد رأيتُ شيئًا غير ظلام في ظلام، ومع هذا خفتُ، فالظلام في النهار وفي داخل السلطان حامد شيء يخيف.
وكنتُ لا أزال أمسك بالحديد في انتظار أن أجمع أنفاسي وألْقِي نظرةً أخرى، ولم يكن لديَّ أية فكرة عمَّا يمكن أن أجِدَه في الداخل، ربما المقام خالٍ، ربما لا شيء غير الظلام.
وبقوة رفعتُ نفسي رفعةً عالية ودُرْتُ بعيني دورات سريعة مذعورة، ووقف شعري من الرُّعْب، ومن كثرة رعبي لم أستطِعِ الهبوط وتجمَّدَتْ يداي على حديد النافذة بينما أغلَقْتُ عينيَّ عن أن تَرَيَا، ورحتُ أصرخ في فزع، وتركتُ نفسي أسقط على الأرض وأنا ألهثُ وأكاد أموت.
لقد رأيتُ السلطان حامد نفسه في الداخل، كان ضخمًا جدًّا أضخم من الجمل، وله رقبة طويلة جدًّا وبارزة من جسده الضخم بطريقة مخيفة، وتنتهي بكتلة خضراء كبيرة تلمع في الظلام، كان السلطان باركًا في الداخل يتلمَّظ ويكاد يمدُّ رقبته الطويلة ويقضم رأسي.
ظلِلْتُ مُخْفِيًا رأسي في حجري وعيناي مغلقتان وأنا لا أستطيع الجري أو التفكير أو حتى قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم، وحولي آلاف العفاريت التي لم أؤمن بها قط وخُدَّام الفناجين، وإبليس، وشقيقاتي اللائي تحت الأرض، وكل ما ارتكبتُه من ذنوب وكل ما سخرتُ به من معتقدات.
واعتقدتُ أني حالًا سأموت، ولكني عجبتُ حين مرَّ وقتٌ طويل ولم أَمُتْ، ثم ضحكتُ من نفسي لأني ظننتُ أني سأموت، ثم فتحتُ عينيَّ ورأيتُ أشجار الكافور العالية والحقول الممتدَّة البعيدة، والناس الرائحين الغادين كنجوم النهار، وكل شيء غير خائف، وكل شيء يسخر مني ومن خوفي.
والشيء الذي لم أكن أتصوَّر مطلقًا أن يحدث، وجدتُ نفسي أفكِّر فيه، لماذا لا أُلْقِي على المقام نظرة أخرى؟!
تطلعتُ إلى النافذة وتردَّدتُ، ولم ألبَثْ أن وجدتُ دافعًا أقوى منِّي يدفعني للإمساك بحديدها من جديد، ربما الهلع، وربما حب الاستطلاع، وربما الاستخفاف بأمر السلطان، كنَّا جيلًا معفرتًا، كما يقول عنَّا آباؤنا وأجدادنا، والمسائل الغامضة مثل العفاريت وخلافها مسائل تدور على ألسنتنا فقط، ونتذكَّرها ساعة الغرق، ولكنَّا لا نؤمن بها في أعماق قلوبنا، وكان آباؤنا يقولون عنَّا هذا؛ لأننا لم نكن نخاف مما يخافونه، وحتى إذا خِفْنا كان خوفنا يدفعنا إلى السخرية بالشيء الذي نخاف منه، كنَّا جيلًا معفرتًا كفَّ عن لعب الكرة «العميو» بيده، وأصبح يلعب الكرة بقدَمِه، ويمضي فوق قضبان السكة الحديد المحرَّمة دون خوفٍ أن يَظهَر له القطار فجأة ويدهمه، وحتى إذا ظهر له القطار، كان فقط ينتحي جانبًا وقد جهز له في يده زلطة، يقذفه بها إذا مرَّ، ثم يعود يجري فوق القضبان.
٣
وتبيَّنتُ أنِّي كنتُ على حقٍّ؛ فالذي كان باركًا في الداخل لم يكن هو السلطان حامد، بل كان قبره، والرقبة الطويلة كانتْ رقبة القبر، والشيء الأخضر الذي يبرق كان عمامته.
بل أكثر من هذا، كانتِ الكسوة الموضوعة على القبر كسوة قديمة باهتة لا تكاد تستطيع أن تتبيَّنَها من كثرة ما علاها من غبار، وكانت «القراضة» قد تولَّتْ نهْشَ حروف الآيات القرآنية المكتوبة بالقماش فوقها، وكانتْ رائحة العطن تشيع من المكان، والظلام الرابض تحس أنه ليس ظلامًا ولكنه نور قديم، من طول ما مكث مدفونًا تحوَّل إلى ظلام.
وعدتُ أدراجي ومعي قطعة كبيرة من الشمع، اقتلعتُها من الأرض، ونفضتُ عنها الرمال، على أمل أن تصلح لشيء ما.
ولكني حين عدتُ إلى بيتنا احترتُ ماذا أصنع بها، صنعتُ منها كرةً ثم قُلَّةً، ثم أفقتُ لنفسي فوجدتُني أصنعها على هيئة قبر له رقبة طويلة وعمامة خضراء.
وأعجبني التمثال الذي صنعتُه للقبر إلى درجة استخسرتُ معها أن أغيِّره أو أُلْقِيَه، وأصبح كل همِّي أن أحتَفِظ به في مكان أمين، وظلِلْتُ أفكِّر حتى وجدتُ أنَّ أحسن مكان له هو طاقة من الطاقات التي تُستَعمل في برج الحمام.
وكنتُ أعجب لنفسي طوال اليوم، وأستغرب لماذا لم أعُدْ أفكِّر في السلطان حامد؟! ولماذا يرفض عقلي أن يخوض في مشكلته؟! كنتُ أحسُّ به غريبًا عن نفسي تمامًا، وكأنَّه لم يخطر لي أبدًا، وكأنني لا أعرفه ولا يهمُّني أن أفكِّر فيه، وأحيانًا كان يدفَعُني العجب وأحاوِل أن أُرْغِم نفسي على التفكير فيه، فلا أستطيع.
وقلتُ لنفسي: ربما أفكِّر غدًا.
ولكن الغد جاء ولم أفكِّر فيه.
بل مضَتْ مدة طويلة جدًّا، ربما عام، ربما أعوام، والسلطان حامد لا يخطر لي على بال.
أتأخذ عقولنا أحيانًا كل هذا الوقت الطويل لكي تفكر في أمرٍ ما؟!
لقد استيقظتُ ذات صباح وأنا أفكِّر في السلطان حامد، وكنتُ أفكِّر فيه بطريقة أخرى؛ فهل كان هذا السلطان واحدًا من أهل بلدنا؟ ومِن أيِّ عائلة هو إن كان؟ ومَن هم أحفاده وذريته من بعده؟
ووجدتُني أسأل كبار المعمَّرين في بلدنا هذا السؤال، وأجمعوا كلُّهم أنَّ السلطان حامد بالتأكيد لا يَمُتُّ بصلةٍ إلى أحدٍ من بلدنا، وربما يكون غريبًا، ولكنَّ أحدًا على وجه الدقة لا يعلم، كل ما يعرفونه أنَّ بلدَنا، والحمد لله، لم ينشأ فيها وليٌّ من أوليائه، ولا بُنِي لأحدٍ من موتاهم مقام.
ولم يتصوَّر أحدٌ ممَّن سألتُهم أية دهشة كانتْ إجابتُه تُحدِثها.
فإذا كان السلطان حامد غريبًا، فلماذا اختار بلدنا دون سواها ليُدْفَن فيها، ثم مَن بَنَى له هذا المقام الحجري وكلُّ قبور بلدنا من الطين؟ ومَن اشترى الكسوة؟ ومَن صنع له تلك الرقبة الطويلة ووضع فوقها القمامة؟ ومَن زرع هذا الكافور الطويل؟
أغرب شيء أنَّ المعمَّرين في بلدنا كانوا يَرَوْن أسئلتي هذه ويسمعونها، وأحسُّ أنَّهم يحسبونني مخبولًا؛ لأنني أعجب من هذه الأشياء، وكأنني أسأل عمَّن حفر البحر أو اختار اسم بلدنا أو حدَّد ميزان النقطة، لماذا أسألهم عن شيء كان موجودًا قبل أن يُولَدوا، شبُّوا فوجدوه قائمًا، ومن المحتمل أنَّه سيظلُّ قائمًا إلى يوم الدين؟
وأنا بدَوْري كنتُ أعجب وأظنُّهم هم المخرِّفون المخبولون؛ إذ كيف لم يتبادَر إلى أذهانهم أبدًا أن يعرفوا لماذا دُفِنَ السلطان حامد في بلدنا دون سواها، ولماذا يُبنَى له مقام؟
وكان النقاش بيننا يطول، أنا بجلبابي الإفرنجي ورأسي العاري ولساني الذي لا يكفُّ عن الخوض في أي موضوع، وهم بلِحاهم الطويلة ونظرهم القليل وعُرْفهم الذي يعرف حدوده، ويعرف أين يقِفُ ومتى يسير، حتى جدي، كم صنعتُ له فناجيل القهوة، وكم انتظرتُ حتى يَزِنَ رأسَه وتعود الابتسامة إلى وجهه، وما أكاد أفتح فمي أسأل حتى يقول: «قلت لك ميت مرة فكَّر في اللي ينفعك انت، فكَّر في كتبك، مالك انت ومال الحاجات دي؟!»
وإذا أحسستُ أني أوشك أن أُثِير غضبَه أدَّعِي أمامَه أنِّي اقتنعتُ، ولكني لم أكن أقتنع، فالأسئلة التي كانتْ تُراوِدني عن السلطان حامد لم يكن يستطيع عاقل أن يسكت عنها، كائن ضخم عملاق مثله له في كل بيت جدار، وذكْرُه على ألسنة الناس باستمرار، ومكانته لا يَرْقَى إليها أكبر واحد من الأحياء أو الأموات، ومع هذا لا يعرف عنه أحدٌ شيئًا، ولا يريد أن يعرف عنه؟! أليس هذا أمرًا محيِّرًا يدفع إلى الجنون؟! أو بالقليل يدفع إلى الغضب؟!
وماذا يدفع إلى الغضب أكثر من أن أسأل واحدًا من شباب القرية أو رجالها مثلًا، وأضع أمامَه تلك المشكلة المحيِّرة فيقول: «أهه، شالله يا أهل الله!»
وبدأتُ أضيق بالسلطان حامد، وأضيق أكثر بأهل بلدنا، وكأنَّه جمع ثروةً من حرام لا حق له فيها، وكأنهم تنازلوا له عن قروشهم ليجعلوه غنيًّا، هكذا، بكل سذاجة وعبط.
وذات مرة سألتُ الشيخ شلتوت صاحب الكُتَّاب، فلم أظفر منه بطائل، وكنت أعرف أني لن أظفر من وراء سؤاله بطائل، فما سألتُه مرةً عن شيء إلَّا وصاغ إجابتَه بطريقة لا تُسْمِن ولا تُغْني من جوع، سألتُه لِمَ يحتلُّ السلطان حامد تلك المكانة الضخمة عند الناس، فقال لي: «لأنه كان رجلًا تقيًّا ورعًا.»
قلتُ: «إذن، أنت تعرفه؟ لا بدَّ أنك سمعتَ عنه، قل لي؟»
فقال: «كل ما أعرفه أنه كان لا بد صالحًا، وإلَّا لَمَا كان له مقام.»
قلتُ: «ولكن مقامَه فقير قديم ليس كمقام السيدة زينب أو الحسين.»
قال: «المسألة مش بضخامة المقام المبني يا بني، المسألة بضخامة المقام عند الله.»
فقلتُ: «ماذا أفعل إذن لأعرف سرَّ السلطان حامد؟»
قال: «بالوصول، بذكر الله.»
ووجدتُني أفكِّر فيما قاله طويلًا مع أنَّ ما قاله لم يشفِ غليلي، بل وجدتُ نفسي أتردَّد كثيرًا على كُتَّابه، ومناقشاتي معه لا تقرِّبني قليلًا أو كثيرًا من أمر السلطان.
وقلتُ لنفسي: ربما كان صحيحًا ما يقوله، ربما كان سرُّ السلطان حامد لا يفتح إلَّا لبعض الناس، للصالحين، وربما لو ذكرتُ الله، ووصلتُ، أصل إلى مكانٍ أرى منه السلطان، وأرى أمرَه بوضوح، وبدأتُ أتردَّد على حلقة الذكْر التي يُقِيمها الشيخ شلتوت في بيته كل ليلة إثنين، ولم أهضِم ذهابي إلى هناك أبدًا، وكنتُ أذهب سِرًّا؛ حتى لا يراني أحد زملائي ويسخر مني، كنَّا نجتمع عشرة رجال أو أكثر، أندسُّ بينَهم وهم يرمُقونني بترحيب كبير؛ إذ إن حلقتهم قد ضمَّتْ أخيرًا أحدَ المتعلِّمين، والمتعلِّمون كان بينهم وبين الدِّين — على حدِّ قول الشيخ شلتوت — بحر من سم ودم، كنَّا نجلس على الحصيرة ونستغرق في التفكير في الله، ثم نذكُرُه في سِرِّنا، ثم نجهر بذكْرِه، ثم نتمايَل لاسمه، ثم يدفَعُنا الحماس إلى الوقوف، ويُمْسِك لنا الشيخ شلتوت المجلس وقد حَمِيَ، وأصوات الرجال الخشنة تتصاعَدُ من صدورهم في تهدُّج باك يجأر في طلب العفو والشفاعة والتوبة، وقد اندمجتْ أنفاسهم المتلاحِقة في صرخة مبحوحة واحدة منغَّمة تقول: «الله، الله، الله!»
ولكنني انقطعتُ عن الذهاب فجأة، فقد أدركتُ أنَّ استغراقي في الذكر لا يمكن أن يوصلني أبدًا إلى حلٍّ للمشكلة، وعليَّ أنا أن أحلَّها بنفسي إذا أردتُ لها حلًّا.
ثم إنني كنتُ قد فطنتُ إلى شيء، فقد أدركتُ أنَّ السلطان حامد ليس وليًّا من أولياء الله، فالأولياء يسمُّونهم مشايخ، فلماذا يسمُّونه هو السلطان؟!
ورحتُ أعجب كيف لم أفطن إلى تلك الحقيقة البسيطة الواضِحة وضوحَ الشمس من قبلُ؟! صحيح كيف لم أفطن إليها؟! ووقفتُ طويلًا أتأمَّل هذه النقطة وأعذر أهل بلدنا الذين كنتُ أتَّهِمهم بالعبط؛ لأنهم لم يحاولوا أبدًا أن يتساءلوا عن سرِّ السلطان حامد، أحيانًا يكون من الصعب بل المستحيل أن نفكِّر في أشياء تعوَّدْنا أن لا نفكِّر فيها، وتعوَّدْنا أن نأخُذَها كما هي، فتعذيب الحيوانات حرام أمَّا ذَبْحُها فحلال، والمرأة تُطْلِق شعرَها والرجل يَحْلِق شعره، ولا تعامل الحافي بمثل ما تُعامِل به راكب العربة مع أن كليهما إنسان، وأن يبدأ الواحِد في مراجعة إيمانِه بالقضايا المسلَّم بها مسألةٌ صعبةٌ، بل تكاد تكون مستحيلة.
٤
واعتقدتُ أنَّه لن يدلَّني على حلِّ هذا اللُّغْز إلَّا الأحمدي أفندي، فهو يعرف كل شيء عن كل شيء، ولا بد أن يكون لديه تفسير لحكاية السلطان الذي له مقام، مع أنَّه ليس من أولياء الله، كان الأحمدي أفندي أول مَن لبس البدلة والطربوش في بلدنا، وأول مَن ركب القطار وسافَر إلى القاهرة، وأول أفندي لم يعمل في الحكومة وأشتغل رأسًا في البنوك والشركات، وكان قد تعدَّى الثمانين وترك العمل نهائيًّا، وأقام في البلد على حسِّ أفدنته القليلة، وكنَّا كثيرًا ما نُصادِفه سائرًا في البلدة بقامة معتدلة لا اعوجاج فيها ولا انحناء وقد استبدل بالبدلة جلبابًا أبيض نظيفًا له جيب على الصدر، ولكنه لم يتنازل عن الطربوش ولا عن ساعته ذات الكتينة التي تمتدُّ من عروة الجلباب وتنتهي في جيب الصدر.
وكنَّا نحن الصبية والأولاد إذا ما صادَفْناه مارًّا ننتحي جانِبًا تأدُّبًا ولا نجرؤ على النظر في وجهه إلَّا مِن بعيد، وجه قد اكتسى من طول ارتداء البدلة والطربوش ملامح جادة متَّزِنة، وشارب دقيق معتنًى بكل شعرة فيه، وفم مطبق لا ينفك، وأصداغ غائرة لا تسندها أسنان، وكل شيء فيه جادٌّ، كلامُه جدٌّ، وزعيقه جدٌّ، وهزله جدٌّ أيضًا، ولم يكن يضحك إلَّا إذا تحدَّث مع العمدة.
وكانتْ جرأةً كبيرةً منِّي أن أذهَبَ وأسأَلَه، فلا يَلِيق بمثلي أن يُخاطِب الأفندية كبار السن من أمثاله، تلك قضية أخرى مسلَّم بها في بلدنا.
وانحنى الأحمدي أفندي ليضَعَ أذنَه ذات السمع الذي بدأ يثقل بجوار فمي الذي كان يتكلَّم في تردُّد ولعثمة وخفوت.
وكلَّما ألقيتُ عليه السؤال قال: «إيه؟ بتقول إيه؟»
فأُعِيد السؤال.
وأخيرًا أدركتُ أنَّه سمِعَني، فقد اعتدَلَ في وقفته، وأمسك بعصاه ذات العقفة بعناية، وحدَّق فيَّ بعينَيْه الضيقتين الغامقتين اللتين لو كانتا عينيَّ لَمَا استطعتُ أن أرى بهما أبدًا، واشتدَّ ارتباكي.
ولم أنظر إلى غير كتينة ساعته التي أدركتُ أنها بفرعين وأنَّ بينهما حلية ذات بلورة خضراء.
حدَّق فيَّ طويلًا حتى فكرتُ أن أتركه واقفًا في مكانه وأجري، ولكنه قال: «براوة عليك يا ولد! جدع اللي فكرت في دي! أنت ابن مين يا شاطر؟»
وازداد ارتباكي واضطرابي، وأنا أشرح له ابن مَن أنا، ومِن أين جئتُ، وحينئذٍ قال: «بتسأل السؤال ده ليه؟»
قلتُ في تردُّد، وهو يستعيد كلماتي كلمة، كلمة: «علشان أعرف، هو سلطان والَّا ولي.»
قلب عصاه فوضع العقفة على الأرض وأمْسَكَها مِن أسفلها وهو يقول: «لا ولي ولا سلطان ولا دياولو! أوعَ تصدَّق الكلام الفارغ ده! سلطان حامد إيه؟! أنا أعرف السلطان حسين سلطان مصر، الله يرحمه ويحسن إليه، أعرف السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين، أعرف السلطان الغوري أعظم سلطان في زمانه، إنَّما سلطان حامد دا إيه؟! دا حتى اسمه ما ينفعش لواحد سلطان! ده تلقاه صعلوك، ولا كان ولي ولا خلافه، دا أنا أسمع أنه كان بيدِّي عهود للنسوان في أوضة ضلمة، وكان مايدِّيش العهد إلَّا وهو شارب قزازة كان بيملا نصها سبرتو ونصها خل علشان يبقى طينة مطينة! إنَّما أنا مبسوط منك، أنت في الابتدائية؟ أخدتم إنجليزي لغاية فين؟ وبتاخدوا أجرومية والا لأ؟ أنا مبسوط منك، أنت باين عليك ولد نَبِيه، سلِّم لي على أبوك، قول له: جدِّي الأحمدي أفندي بيسلِّم عليك، ح تقول له: جدِّي مين؟»
ولم يتركني الأحمدي أفندي يومها إلَّا بعد أن سألَنِي في العربي والإنجليزي والأحياء والصحة وأثبت لي أنَّ عِلْمَنا لا يُساوي قُلامَةَ ظفرٍ بالقياس إلى العلوم أيام زمان، وفي النهاية أوصاني أن أطْرُدَ من عقلي حكاية السلطان، وإلَّا فإنه سوف يشكوني إلى أبي حين يقابله.
ولم أطرُدْها من عقلي، بل كبرت وأصبحتْ مشكلة عويصة.
هذا الإنسان الغريب، الذي ليس وليًّا من أولياء الله، لماذا خصَّه أهل بلدنا بهذا التكريم؟! ولماذا بُنِي له مقام؟! وكيف احتلَّ تلك المكانة الهائلة في صدور الناس دون أن يعرفوه؟!
هل هو سلطان؟
وإذا كان سلطانًا، فعلى أي شيء كان سلطانًا، ثم إنَّ كلمة سلطان كلمة كبيرة تكاد تساوي كلمة الملك، فكيف يُدفَن سلطان كهذا في بلدنا، بلدنا الصغيرة التي لا يعرفها أحد؟! لماذا بلدنا بالذات؟! وكيف يكون مدفن السلطان متواضِعًا إلى هذا الحد؟!
للاطلاع على الجزء الثاني اضغط هنا: "سره الباتع من 5-8"