تدوين- سوار عبد ربه
يشكل الموروث الثقافي الفلسطيني أحد أهم الشواهد على الهوية والوجود الفلسطيني، الذي سعى الاحتلال لتشويهه وسرقته وطمسه من ذاكرة ووعي الشعب الفلسطيني، بما يشمله من موروث مادي محسوس كالثوب وشجرة الزيتون وغيرها، ومعنوي كالأغاني والحكايا والأمثال والأساطير، وغيرها.
وعلى مدى سنوات جرت محاولات أغلبها فردية سخرت طاقاتها لتكون سدا منيعا أمام الطامعين في انتحال هذا التراث وادعائه وسلبه، ووضعت نفسها في خدمته وحفظه من الضياع والنسيان والسرقة، وقامت بجمع العديد من جوانبه على اختلاف أنواعها، وسط صعوبات كثيرة وتساؤلات عن الدور الرسمي والمؤسساتي في هذا الجانب.
الباحث في التراث الفلسطيني فادي عبد الهادي من قطاع غزة، اختار أن يركز في مشروعه على التراث والفلكلور الغنائي، ضمن مشروعه البحثي الذي بدأه منذ سنوات طويلة، استطاع خلالها جمع آلاف المواد المرئية والمسموعة.
وفي لقاء خاص مع تدوين قال عبد الهادي "إن الأرشيف هو جزء مهم من الذاكرة الجامعة لشعبنا الفلسطيني من كل النواحي، وكما نعلم سيطرة العدو على كمّ مهم من أرشيفنا المختلف والمتنوع في الفترات والحروب ( 1948م-1967م-1982م ) بما في ذلك أرشيف بعض المؤسسات والمعاهد ومراكز الدراسات، ومن هنا بدأ العمل والإصرار على إنقاذ ما يمكن إنقاذه لكل مادة، لأنها تعتبر إرثا وتراثا، وتاريخا".
وأضاف: "أعمل منذ سنوات في موضوع التراث والفلكلور الفلسطيني الغنائي، نظرا لعلاقاتي وصداقاتي مع عدد من الفرق الفلسطينية العريقة أبرزها فرقة أغاني العاشقين الفلسطينية، ذلك من خلال توثيق تجربتهم الفنية، إضافة لقصص بعض الأغاني الشعبية والمطالع الشعبية".
ومن بين عشرات قصص الأغاني التي وثقها الباحث في التراث الفلسطيني كانت قصة أغنية "يا نبض الضفة" التي تناولت حكاية الشهيدة لينا النابلسي، تلك الفتاة التي خرجت في السادس عشر من أيار عام 1976م رفقة صديقتها شروق جعارة لتقدم امتحان الثانوية العامة، وبعد انتهاء الامتحان خرجت مسيرات شعبية نتج عنها مواجهات ورشق حجارة، فأسرعت لينا مع صديقتها للاختباء في محل للحدادة وبعد مرور نحو 10 دقائق وحين هدأت الأوضاع قليلا، خرجن واختبأن في أحد المنازل المجاورة، فلحق بهن جندي صهيوني وكسر باب البيت ثم أطلق رصاصاته على صدرها ووريدها الأيمن.
وبحسب ما وثقه عبد الهادي في اليوم التالي لاستشهاد لينا، كان الفنان أحمد قعبور برفقة صديقه حسن ظاهر يسيران في شارع عفيف الطيبي، وعلى أرصفته تباع الكتب والصحف، وفي الأثناء لفتت انتباه قعبور صورة لفتاة على إحدى الصحف اليومية فقرأ حينها قصة استشهادها، فقال من غير المعقول أن تبقى هذه الصورة على صفحة جريدة، دون أن يشار إليها بأغنية وقصيدة لتكون رمزا لكل الأطفال الذين تم اغتيالهم وقتلهم من العدو الصهيوني.
ولاحقا كتب حسن ظاهر تلك الأبيات التي صارت أغنية "يا نبض الضفة لا تهدأ" وقد لحنها وغناها أحمد قعبور. ولأنها لم تكن قصيدة عامودية كانت صعبة التلحين إلا أن قعبور أصر على إنجازها، ولحنها وهو يعزف على آلة الجيتار، ثم سجلت لاحقا في استوديو في بيروت بإمكانيات وآلات متواضعة جدا، منها آلات الفلوت والجيتار والإيقاع، وقد كان الكورال مؤلفا من أصدقاء لقعبور بينهم زوجته، ولاحقا كانت الأغنية ضمن كاسيت يضم مجموعة أغاني منها: أناديكم.
وقدمت الأغنية لأول مرة في حفل في قرية كفرفيلا الحدودية مع فلسطين المحتلة، واستخدمت أغنية نبض الضفة في الانتفاضات والهبات الفلسطينية لاحقا، لما في من ذكر لرموز كالحجر وغيره.
وبدأ عبد الهادي مشروعه في البحث عن الأرشيف المصور والمرئي والمسموع ليكون مرجعا له للاستفادة منه في عمله، ثم أخذ الأمر يتطور حتى وصل لأرشيف يضم آلاف المواد.
ويعمل الباحث بعد جمعه للمعلومات والمواد المطلوبة على كتابة مقالات حولها، وإعداد فقرات وحلقات إذاعية تتناول ما تمكن من جمعه.
يصف عبد الهادي في لقائه مع تدوين رحلة البحث عن الأرشيف وجمعه وتصنيفه وتفقد الأنواع المختلفة من الأشرطة وبكرات السينما وتوفير متطلبات التحول الرقمي من أجهزة ومشغلات وتوصيلات وكروت وهاردات، بالعمل الشاق والمتعب، والمكلف ماديا، ويرى أنه يتطلب جهدا مؤسساتيا رسميا ليدعمه ويرعاه، بل يتبنى بشكل كامل هكذا مشاريع.
ومن بين الأعمال النادرة التي شارك في إعدادها عبد الهادي كان كتابا يتناول القصائد الغنائية لعبد الله حداد الملقب بفنان الثورة الفلسطينية، من خلال عمل توثيقي يسلط الضوء على مسيرته الفنية تلحينا وكتابة ودبلجة، وذلك عبر توثيق ونشر وطباعة كم مهم من قصائده الملحنة والمغناة خلال مسيرته الطويلة وأعماله الخاصة مع عدة من الفرق.
وبحسب عبد الهادي انطلقت فكرة الكتاب بعـدما قـام بتجميع أغاني الفنان عبدالله حداد، التي أدتها عدة فـرق فنيـة فلسطينية عـلى مسارح عالمية وإقليمية ومحلية، وذلك لحفظهـا في أرشـيفه الخاص، الذي يعمل عليه منذ سنوات طويلة.
وفي سؤاله عن الإنتاجات الغنائية الموجودة على الساحة الفلسطينية اليوم، مقارنة بما بين يديه من أرشيف، لاحظ عبد الهادي أن الأغنية المقاتلة والثائرة التي تحرض الجماهير غابت بشكل كبير.
ويتابع: في الماضي وبالرغم من قلة الإمكانيات إلا أن الأعمال كانت على قدر كبير من الأهمية، أما ما يقدم اليوم ليس بالمستوى المطلوب، واصفا ما يقدم اليوم من أغانٍ بـ "المايعة" والركيكة، سيما في ظل كل ما يعانيه شعبنا في القدس وجنين ونابلس وغزة.
وبالرغم من أن الطابع العام للأغاني المعاصرة تغلب عليه الركاكة إلا أن عبد الهادي استشهد بأغنية معاصرة وهي "شفتوا البطل" لفرقة أغاني العاشقين التي سجلت ونفذت بجهود فردية متواضعة، وتفاعل معها الجمهور بشكل كبير، وأعادت للأغنية الثورية وهجها.
ويرى عبد الهادي أنه منذ الانقسام وحتى وقت قريب هناك تجاهل كبير من كل المؤسسات الرسمية الفلسطينية وحتى المؤسسات الخاصة لموضوع الأرشيف وخاصة الأرشيف المرئي والمسموع باستثناء تحرك محدود وقليل من بعض المؤسسات، منها المتحف الفلسطيني الذي اقتصر عمله على الأرشيف المصور فقط.
ويشير عبد الهادي إلى أن التحرك الرسمي الفلسطيني يكاد يكون ضعيفا جدا، إذ تعتبر فلسطين من الدول المتأخرة في هذه المسألة، وهناك الكثير من الدول تسبقنا بسنوات.
وعرج الباحث في التراث الفلسطيني على التحرك الذي قامت به وزارة الثقافة الفلسطينية في موضوع الأرشفة، قائلا: "وزارة الثقافة الفلسطينية تحركت قبل بضع سنوات ولمرة واحدة في تحويل بكرات سينما لبعض الأفلام التي تتحدث عن القضية لكن الموضوع توقف للأسف ولنا أن نتخيل مثلا أن المكتبة الوطنية الفرنسية تمتلك كما من المواد الأرشيفية عن فلسطين نحن لا نملك نسخا عن جزء كبير منها".
ويسعى عبد الهادي لحفظ ونشر الأرشيف للجمهور والاستفادة منه في بعض البرامج، بالإضافة لجعله متاحا أمام الباحثين الذين يتواصلون معه لطلب المواد والمعلومات اللازمة لهم في مشاريعهم.
وتمكن عبد الهادي ضمن عمله في الأرشيف الغنائي للفنانين والفرق المختلفة أن يجلب معلومات دقيقة عن الكثير من الأعمال والحفلات والإصدارات المختلفة، بالإضافة لعمله على الأرشيف للمسرح الفلسطيني وبعض الأعمال المسرحية وأيضا أرشيف الأفلام كأرشيف مؤسسة السينما الفلسطينية - وحدة أفلام فلسطين، أرشيف الأفلام والسهرات التلفزيونية لدائرة الإعلام والثقافة لمنظمة التحرير، وأرشيف الأفلام الخاصة أو المشتركة لجهات عربية ودولية.
ولجمع هذه المواد كلها، تواصل عبد الهادي مع أصحاب الشأن وبعض من عملوا في تلك الأفلام والإنتاجات المختلفة، لتوفير كم مهم من المعلومات والتفاصيل ذلك لحرصه على توثيق العمل بشكل صحيح، ودقيق وكامل، وفقا لقوله.
أما فيما يتعلق بالجهود الفردية في هذا الشأن فيرى الباحث أنه قليل جدا وتجري متابعته من بعض الأشخاص والهواة، قليلي العدد والذين يتعاونون مع بعضهم ويتبادلون المواد الأرشيفية المختلفة، والمتفرقين في عدة مناطق داخل الأرض المحتلة والشتات.
وفي تجربة مشابهة لما يقوم به عبد الهادي، يعمل المخرج رامي السعيد من سكان مخيم النيرب في حلب، من خلال أرشيف مؤسسة بيت الذاكرة الفلسطينية والنادي العربي، على حفظ كم مهم من الأرشيف الفلسطيني المنوع خاصة المرئي والمسموع ومنه الأرشيف الفني، وأيضا التوثيق والتسجيل لمراحل نضالية مهمة.
وقال السعيد عن مشروعه: "عملت على الذاكرة الشفوية الفلسطينية، وسجلت أول مقابلة عام 1998، مع مختار بلدة ترشيحا، اللاجئ في مخيم النيرب من مواليد 1904، ثم أجريت مقابلات بالمحافظات السورية المختلفة، كحلب، حماة، اللاذقية، ودمشق".
ويمتلك المخرج في رصيده ما يزيد عن 1000 مقابلة، بالإضافة لعدد ضخم من الأفلام الفلسطينية التي جمعها بطرق متعددة من أرشيف منظمة التحرير، والتلفزيونات العربية، وغيرها.
وركز المخرج على جمع أفلام الثورة الفلسطينية، أفلام منظمة التحرير، أفلام الكفاح المسلح، وأفلام السينما الصادرة عن الفصائل الفلسطينية، مثل أيام الفلسطينيين عن عملية معالوت (1974) إنتاج الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، البندقية والكلمة من إنتاج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بالإضافة لفيلم مشترك بين جبهة النضال الشعبي والاتحاد السوفييتي، وغيرها.
وأوضح السعيد أن الأرشيف جمع بشكل فردي وشخصي في مكتبة بيته، إلى حين تأسيسه لمجموعة عائدون فرع حلب، التي تحولت فيما بعد لمؤسسة بيت الذاكرة الفلسطينية.
ويشمل الأرشيف عددا ضخما من كاستيات المسجلات، أسطوانات، كاسيتات فيديو، سلايدات، وكل ما يتعلق بالموروث الفلسطيني.
وكان جزءا منه قد تعرض للتلف، نتيجة الحرب على سوريا بفعل صاروخ سقط على منزله، ثم تعرض جزء آخر منه للضرر بفعل زلزال 6 شباط الذي ضرب سوريا.