تدوين- فادي أبو ديب
ترجمة: فارس النجّار
كثيرًا ما يُقال إنّ الخلاص من أنانية الفردانية يكمن في التمسّك بالقيم التقليدية المتعالية على الفرد، والتي يُزعم أنّها تتجلّى في الكيانات الجماعية الراسخة. ولا غرو أن الخطاب المعاصر، الذي ينهض من جديد بشيء من القِدم، يأخذ في ذمّ الفردانية ومسعاها الوجودي للبحث عن معنى الحياة، في الوقت الذي يُروّج فيه لأشكال شتّى من الجماعية وللقيم التقليدية. سواء كانت هذه الجماعة متمثّلة في الأمة، أو المجتمع، أو الكنيسة، فإنّ الفرد الإنساني، وفق هذا المنظور، لا يُعدّ جوهرًا ذا شأن، بل إنّ القيمة الحقيقية إنما تستقرّ في الجماعة التي يُفترض بالجميع أن يخضعوا لها.
قيم المتعالية ليست من جنس القيم الجماعية، بل تنتمي إلى قطبٍ نقيض في طيف العلاقة بين الفرد والجماعة
وقد يبدو للسامع منطقًا سليمًا أن يُقال إنّ هنالك ما هو أسمى من هموم الوجود الفردي المحدودة؛ فثمّة الحق والخير والجمال، أو غيرها من الحقائق الكونية الكبرى. أفيمكن للمرء أن يزدهر في غياب البيئة الاجتماعية أو الروحية؟ أليست الأخوّة والصداقة وسائر العلاقات القِيَمية هي ما يمنح الوجود البشري معناً وإشباعًا؟ أليس في هذا ما يدلّ على أنّ الوجود الجمعي للإنسان هو الوجود الحق، الذي يجب أن تُضحّى من أجله جميع المساعي الفردية؟
بيد أنّ التأمّل المتأنّي في مفهوم الوجود الجماعي وآلياته يكشف عن خلل جوهري في مساواة الجماعية بالقيم المتعالية أو البين-شخصية؛ فالقيم المتعالية ليست من جنس القيم الجماعية، بل تنتمي إلى قطبٍ نقيض في طيف العلاقة بين الفرد والجماعة. وعليه، فإنّ ترويج الكنيسة لما يُسمّى بالقيم التقليدية أو الجماعية لا يعني بالضرورة أنّها تُعلي من شأن القيم المتعالية أو الأبدية، بل قد يكون الواقع، على النقيض من ذلك تمامًا.
وقد بيّن الفيلسوف الروسي نيقولاي برديائيف الطابع المتناقض للعلاقة بين الجماعية والفردانية الأنانية. فإنّ التهمة التي كثيرًا ما تُوجَّه إلى البروتستانتية، أعني تركيزها على خلاص الفرد بمعزل عن الجماعة، يُوسّعها برديائيف لتشمل الأرثوذكسية التاريخية كذلك. ففي تأمّله في روحانية الأرثوذكسية الروسية في عصره، يرى أنّ الكنيسة الأرثوذكسية، في وجودها المؤسسي، ما تزال تدعم الملكية والسلطة المطلقة، وتُخفق في تبرير الفعل الإبداعي للإنسان في العالم الحديث العلماني، مما يجعلها، من حيث لا تدري، تمهّد السبيل لنمط من الفردانية المسيحية. [1]
إنّ الشخصية الحرّة المبدعة لا تقود إلى التمركز حول الذات، بل على العكس، فإنّ التمركز حول الذات يتميّز أساسًا بالنزعة الامتثالية، أي بالتماهي مع جماعة معيّنة
ومن المفارقة، أنّ الكنيسة، كلّما ازداد دفاعها عن النزعات القومية، والملكية بوصفها رمزًا للروح الدينية الجمعية، والطاعة بوصفها قيمة عليا في ذاتها، ازداد معها تعميق الفردانية والأنانية. وتتجلّى هذه النزعة، بحسب برديائيف، في النظرة إلى الكنيسة بوصفها "مستشفىً للمرضى"، أي كمؤسسة منغلقة، تنأى بنفسها عن العالم، غير معنية بمصير الإنسان بوصفه كائنًا حرًّا وخلاّقًا، ولا ساعية إلى تحوّل الكون ولا إلى خلاص الخليقة جمعاء.
ويُعبّر برديائيف عن هذه الملاحظة على نحو مغاير حين يتناول اقتران الأنانية والفردانية من جهة، والامتثال لروح الجماعة من جهة أخرى. فهو يرى أنّ الشخصية الحرّة المبدعة لا تقود إلى التمركز حول الذات، بل على العكس، فإنّ التمركز حول الذات يتميّز أساسًا بالنزعة الامتثالية، أي بالتماهي مع جماعة معيّنة أو مع التيار الاجتماعي السائد. وبعبارة أخرى، فإنّ الذين يتوجّهون خارجيًّا نحو المجتمع ويخضعون لقوانينه وروحه، هم على الأرجح أكثر الناس أنانية. فهم لا يملكون حرّيتهم الذاتية التي تمكّنهم من خدمة الآخرين في روح المحبّة. ومن اللافت أنهم لا ينتمون إلى الجماعة حبًّا فيها، بل حرصًا على سلامتهم ومصالحهم الشخصية.
الإنسان الفرد لا يحقق حريته وإبداعه الحق إلا بقدر ما يتجه صوب القيم المتعالية
ويُلاحظ برديائيف أنّ هؤلاء الامتثاليين قد يثورون على الجماعة، ولكن لا باسم الروح أو الشخص الإنساني، بل باسم أشكال أخرى من السلط الجماعية. فهم يفعلون ذلك لأنهم يسعون إلى تأكيد ذواتهم والحصول على اعتراف المجتمع بهم. وهؤلاء، في منظور برديائيف، هم الفردانيون الذين، وعلى النقيض من الأشخاص الحقيقيين، يتجذّرون في المجتمع الخارجي لا في الروح، تلك التي تتجلّى في "وحدة الحياة الروحية"[2].
وبعبارة أخرى، فإنّ هؤلاء الأفراد لم يتجاوزوا بعد "تحديدهم بالجماعة الاجتماعية"، ولو فعلوا، لكان ذلك في ذاته مظهرًا من مظاهر الشخصية الإنسانية الأصيلة[3].
وقد رأى بعض دارسي فكر برديائيف، ومنهم المؤرخ الروسي ڤي. ڤي. زينكوڤسكي، أنّ الشخصانية التي يدعو إليها برديائيف لا تقود إلى وحدة بني الإنسان[4]. غير أنّ برديائيف، في الحقيقة، لا ينزع إلى هدم البنى الاجتماعية والسياسية ذاتها، بل إنّ همّه الأعمق إنما يتمثّل في إنكار ما يُزعَم من قداسةٍ لتلك البنى، وسعيه لتحرير الوعي الإنساني من الوهم القائل بأنّ إرادة الله تتجسّد في هذه الجماعة أو تلك ضمن سياق التاريخ. ولذا، فهو لا يسمح أن تكون الأوهام أو الأكاذيب "المقدّسة" وسيلة لتحقيق "غاية خيّرة" كجمع الناس ووحدتهم.
وفي هذا السياق، تطرح الفيلسوفة الفرنسية سيمون ڤايل تصورًا بالغ النفع لتوضيح العلاقة بين القيم المتعالية على الفرد وبين الجماعية. تنتقد ڤاي التركيز المفرط على الشخصية الإنسانية، وتدعو إلى الالتفات لما هو غير شخصي[5]، غير أن نقدها هذا لا يختلف كثيرًا عن نقد برديائيف للفردانية، لا للذاتيّة الشخصانية. فهي لا ترى في الجماعة أو الكيان الجمعي تمثيلًا لما هو لا-شخصي، بل تقدّم طيفًا من القيم يتقابل فيه ما هو لا-شخصي وكوني مع القيم الجماعية، وتضع القيم الشخصية في منزلة وسطى بينهما. وتُصرّح ڤاي بأنّه "لا سبيل من الجماعة إلى اللا شخصي؛ فلا بدّ للجماعة أن تنحلّ إلى أفرادٍ متمايزين قبل بلوغ ما هو لا-شخصي"[6].
وبعبارة أوضح، كلّما اتجه الإنسان نحو الجماعة، ابتعد عن القيم المتعالية واللامَشخصية كالحقيقة، والخير، والمحبة، وسواها.
وتذهب ڤايل إلى أبعد من ذلك فتؤكد أن الشخصية الإنسانية "أقدس" من الجماعة، لأنّ الجماعة إنما تدّعي على نحو زائف أنها تجسّد اللامَشخص[7]. بل ترى كذلك أنّ ما هو لا-شخصي يُمثّل السبيل الوحيد لخلاص الفرد من قبضة الجماعة[8]، فالقيم العظمى والتقليدية لا يُمكن السعي إليها ضمن حدود الجماعة، لأنها بطبيعتها نفعية وملتبسة.
تنتقد ڤاي التركيز المفرط على الشخصية الإنسانية، وتدعو إلى الالتفات لما هو غير شخصي
وفي ضوء فلسفة برديائيف، فإنّ الإنسان الفرد لا يحقق حريته وإبداعه الحق إلا بقدر ما يتجه صوب القيم المتعالية، نحو "السوبورنوست" Sobornost، أي وحدة المحبة الحرة بين الأفراد. وهذا النمط من الوجود يتعارض جوهريًّا مع "راحة" الجماعة ومع قداساتها الزائفة المستمدة من تقاليد العالم "الموضَعيّ". وباستعمال مصطلحات أخرى، استقاها برديائيف من الفلسفة الوجودية، يمكن القول إنّ "الآخر" في السوبورنوست هو "أنت" أو المخاطب الحميم، في حين أنّ الجماعة تمثّل "الهم" أو "هم الناس"، أي الصوت الموروث والمجهول الذي لا يحاور الشخصية الإنسانية، بل يفرض سلطته من خارجها. وتلك السلطة تنتمي، في جوهرها، إلى عالم القوة والحسابات السياسية التي تسعى إلى السيطرة على الجموع. بل إنّ المجال الذي تتحرّك فيه السلطة الجماعية، عمليًّا، هو أيضًا مجال للقوة الفردية، لكنها ليست الفردانية المبتذلة لعامة الناس، بل فردانية المتسلّطين وأصحاب النفوذ المطلق.
الإنسان الفرد لا يحقق حريته وإبداعه الحق إلا بقدر ما يتجه صوب القيم المتعالية
على أي حال، فإنّ نداء برديائيف إلى الكنيسة الأرثوذكسية بضرورة الانخراط في العالم، هو، في جوهره، دعوة إلى احترام حرية الفعل الإنساني وكرامة الشخص الإنساني. ويجب دائمًا أن يُفهَم هذا النداء في ضوء مفهومه عن "السوبورنوست" Sobornost، أي روح الجماعة الحرة الموحّدة بالمحبّة. فليس المراد أن تخرج الكنيسة إلى العالم لتعمل كجهاز شرطة يراقب المجتمع ويحاكمه، ناشرة أخلاقياتها النسكية خارج جدران الأديرة. بل على العكس من ذلك، ينبغي أن يُفهَم هذا الانفتاح كفرصة تمكّن الكنيسة من تجلّي السوبورنوست الحقّ في الحياة البشرية، وأن تبرّر وتشارك في الإبداع الشخصي الإنساني في شتى مجالات الحياة، كالفكر، والفنون، والتحوّلات الاجتماعية، وسواها. إنّ هذا النشاط، بالنسبة إلى الكنيسة، لا بدّ أن يُنظر إليه على أنّه ذو طابع ديني، إذ يُسهم في تحويل العالم بالمحبّة والأخوّة. ولهذا، حين يقول برديائيف: "يمكن فهم الحياة كلّها بوصفها حياةً كنسية"، فلا يعني ذلك بالضرورة أنّ العكس صحيح أيضًا[9] .
فليس كلّ ما هو كنسيّ يُماثل الحياة كلّها. فالمعادلة هنا أحادية الاتجاه: إذا جاز أن تُفهَم الحياة بوصفها حياةً كنسية، فلا يعني ذلك أنّ الحياة الكنسية تشمل وتُحدِّد الحياة برمّتها. وهنا تكمن الفروق الجوهريّة بين هذين التصورين: ففي الرؤية الأولى، أي منظور برديائيف، يمكن للتجربة الإنسانية الخلّاقة أن تصبح جزءًا من الكنيسة، بل على الكنيسة نفسها أن تتحوّل لتتّسع لأخلاق جديدة ونظرة روحية متجددة. أمّا في الرؤية الثانية، فإنّ الفهم الكنسي للأشكال التاريخية للأخلاق، ورأي الكنيسة في الشؤون السياسية والاجتماعية، يهيمنان على التجربة الإنسانية، ويكبحان انطلاقتها الحرة.
إنّ التصوّر الأول يذكّرنا بالتصوّر الصوفي في العصور الوسطى لما يُعرف بـ"كنيسة يوحنا"، والذي ظهر لاحقًا في فلسفة الألماني فريدريش شيلنغ، بينما يؤدي التصوّر الثاني إلى العزلة الفكرية والانغلاق، وإلى رؤية ارتكاسية للحياة والتاريخ. وفي هذه الكنيسة المرجوّة، تتطوّر المسيحية لتتجاوز مظاهرها التاريخية السابقة، وتستبدل مركزية اللاهوت العقائدي بتحوّل باطني، وتطوّر روحي فعلي، بحيث يصير العالم نفسُه كنيسةً كونية[10].
وقد عبّر برديائيف عن ذلك بقوله: "إنّ الخطيئة لا تُهزَم إلاّ بجهادٍ عظيم، ولا تُقهر إلاّ بقوة النعمة. لكنّ طرق هذا الانتصار، وسبل نوال النعمة، متعدّدة، وتشتمل على كمال الكينونة برمّتها"[11].
وعليه، فإنّ الكنيسة مطالبة بأن تُحسن قراءة "علامات الأزمنة"، وأن تدرك متى وأين ينبغي لها أن تتخلّى عن بعض أشكالها وتعاليمها التاريخية، لتواصل مسيرتها حيّةً ومتحرّكة. فإن هي أخفقت في ذلك، فإنّ مستقبلها سيكون، على الأرجح، متأرجحًا بين المأساوي والعبثي.
الهوامش:
[1] نيقولا برديائيف، «الخلاص والإبداع (فهمان للمسيحية)»، الطريق، العدد 2 (يناير 1926): ص 29.
[2] نيقولا برديائيف، العبودية والحرية، ترجمة: ر. م. فرينش (نابولي: منشورات ألباتروس، 2019)، ص 132 وما بعدها.
[3] المصدر نفسه، ص 24.
[4] فاسيلي زينكوفسكي، تاريخ الفلسفة الروسية، المجلد الثاني، ترجمة: ك. أندرونيكوف (باريس: منشورات غاليمار، 1955)، ص 335.
[5] سيمون فايل، «الشخصية الإنسانية»، ترجمة: ريتشارد ريس، ضمن: مختارات من سيمون فايل، تحرير: سيان مايلز (لندن: دار بنغوين، 2005)، ص 71، 74.
[6] المصدر نفسه، ص 76.
[7] المصدر نفسه، ص 76.
[8] المصدر نفسه، ص 77.
[9] برديائيف، «الخلاص والإبداع (فهمان للمسيحية)»، ص 30، "يمكن فهم الحياة كلها بوصفها حياةً كنسية".
[10] انظر: شون ج. ماغراث، «شيلنغ المتأخر ونهاية المسيحية»، دراسات شيلنغ، العدد 2 (2014): ص 69.
[11] برديائيف، «الخلاص والإبداع (فهمان للمسيحية)»، ص 34.
*
المقال الأصلي:
Collectivism and Egoism as Two Sides of the Same Coin
Berdyaev, Weil, and the Eternal Values
- Fadi Abu-Deeb
Published on: 2 April, 2025
-