الجمعة  15 تشرين الثاني 2024

ابن رشد : "في استحالة الإجماع العام"

2023-04-06 12:53:45 PM
ابن رشد :
نصب ابن رشد في قرطبة

تدوين- ثقافات

ننشر فيما يلي جزءا من مقال ابن رشد "كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، وهو  مقال فلسفي إسلامي، يفحصُ فيه ابن رشد «التوتر المزعوم بين الفلسفة والدين» ويخلص إلى أن الفلسفة في الحقيقة (على وجه الخصوص، فلسفة أرسطو) ليست معارضة، بل في الواقع تعمل جنبا إلى جنب، مع الفلسفة الإسلامية. في المقال يجادل ابن رشد أن بعض المسلمين ملزمون بدراسة الفلسفة، وأن هذا الموضوع يجب اعتباره علمًا إسلاميًا. يحتوي المقال أيضًا على العديد من الأفكار الفريدة الأخرى، بما في ذلك تأكيد ابن رشد «أن القرآن يجب أن يُقرأ أحيانًا بطريقة غير حرفية». 

يعد المقال، من أهم ما كتب ابن رشد إن لم يكن من أهم كتب الفلسفة العربية، والإسلامية على الاطلاق. فالكتاب على صغر حجمه، يعد أيقونة للباحثين على اختلاف أديانهم، ومذاهبهم عن نقاط الاتصال، والمواءمة بين الفلسفة، وما يتوهم من تعارضها مع الدين والشريعة.

في مفتتح الكتاب، ينطلق ابن رشد لتأسيس نظريته المواءمة، في جواز ممارسة الفلسفة، بوصفها عملا عقلانيا بحتا، لايتعارض مع جوهر الدين، بل يتماس ويحقق الدعوة القرآنية القائمة على تحكيم العقل، والتفكر في خلق السموات والأرض، كما يبين أن علم المنطق، -بوصفه علم تابع للفلسفة، وغير مستقل عنها في هذا التوقيت- يشبه علم أصول الفقه إلى حد بعيد، والاعتماد عليه في الاستنباط العقلي للمتفلسف واجب، كما أن علم أصول الفقه واجب للفقهيه، وهو-أي المنطق- آلة من آلات التفكير العلمي، والعقلي، وتحريمها تعنت، وافتئات على النص القرآني.

فيما يلي اخترنا لكم في تدوين ما أورده ابن رشد عن مسألة الإجماع العام:
 

فإن قال قائل "إن في الشرع أشياء قد أجمع المسلمون على حملها على ظواهرها وأشياء على تأويلها وأشياء اختلفوا فيها، فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره، أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟"

قلنا: أما لو ثبت الإجماع بطريق يقيني فلم يصح، وأما إن كان الإجماع فيها ظنيا فقد يصح. ولذلك قال أبو حامد وأبو العالي وغيرهما من أئمة النظر أنه لايُقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل في أمثال هذه الأشياء. وقد يدلك على أن الإجماع لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني كما يمكن أن يتقرر في العمليات، أنه ليس يمكن أن يتقرر الإجماع في مسألة ما في عصر ما إلا بأن يكون ذلك العصر عندنا محصوراً، وأن يكون جميع العلماء الموجودين في ذلك العصر معلومين عندنا، أعني معلوما أشخاصهم ومبلغ عددهم، وأن ينقل إلينا في المسألة مذهب كل واحد منهم نقل تواتر ويكون مع هذا كله قد صح عندنا أن العلماء الموجودين في ذلك الزمان متفقون على أنه ليس في الشرع ظاهر أو باطن، وأن العلم بكل مسألة يجب أن لا يكتم عن أحد، وأن الناس طريقهم واحد في علم الشريعة.

وأما كثير من الصدر الأول فقد نقل عنهم أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهراً وباطناً، وأنه ليس يجب أن يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه – مثل ما روى البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال حدثوا الناس بما يعرفون. أتريدون أن يكذّب الله ورسوله؟"

ومثل ما روي من ذلك عن جماعة من السلف – فكيف يمكن أن يُتصور إجماع منقول إلينا عن مسألة من المسائل النظرية، ونحن نعلم قطعاً أنه لا يخلو عصر من العصور من علماء يرون أن في الشرع أشياء لا ينبغي أن يعلم بحقيقتها جميع الناس؟

ذلك بخلاف ما عُرض في العمليات: فإن الناس كلهم يرون إفشاءها لجميع الناس على السواء، ونكتفي "في" حصول الإجماع فيها بأن تنتشر المسألة، فلا ينقل إلينا فيها خلاف. فإن هذا كاف في حصول الإجماع في العمليات بخلاف الأمر في العمليات.

تكفير الغزالي لفلاسفة الإسلام

فإن قلت: فإذا لم يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل إذا لا يُتصور في ذلك إجماع، فما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام، كأبي نصر وابن سينا؟ فإن أبا حامد قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف بـ "التهافت" في ثلاثة مسائل: في القول بقدم العالم، وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات – تعالى عن ذلك- وفي تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد. – قلنا: الظاهر من قوله في ذلك أنه ليس تكفيره إياهما في ذلك قطعا، إذ قد صرح في "كتاب التفرقة" أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال.

أبو حامد الغزالي

وقد تبين من قولنا أنه ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل، لما روي عن كثير من السلف الأول، فضلا عن غيرهم، إن ههنا تأويلات يجب أن لا يفصح بها إلا لمن هو من أهل التأويل، وهم الراسخون في العلم. لأن الاختيار عندنا هو الوقوف على قول تعالي (والراسخون في العلم) لأنه إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل لم تكون عندهم مزيّة تصديق توجب لهم من الإيمان به ما لا يوجد عند غير أهل العلم. وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل.

فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم أهل الإيمان به لا قبل البرهان، فإن وكان هذا الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصاً بهم فيجب أن يكون بالبرهان. إن كان بالبرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل لأن الله تعالى قد أخبر أن لها تأويلا هو الحقيقة، وبالبرهان لا يكون إلا على الحقيقة، وإذا كان ذلك كذلك، فلا يمكن أن يتقرر في التأويلات التي خص الله العلماء بها إجماع مستفيض. وهذا بيّن بنفسه عند من أنصف.