الأربعاء  04 كانون الأول 2024

كمال ناصر... والثورة مستمرة| بقلم: صلاح خلف (أبو إياد)

رثاء في الشهيد كمال ناصر

2023-04-10 02:14:17 PM
كمال ناصر... والثورة مستمرة| بقلم: صلاح خلف (أبو إياد)
ضريح الشهيد كمال ناصر

تدوين- ذاكرات/ أرشيفات

كتب الشهيد صلاح خلف (أبو إياد) في مجلة شؤون فلسطينية بتاريخ 21 أيار 1973، مقالا رثى فيه الشهيد كمال ناصر الذى ارتقى وكمال عدوان، ومحمد النجار بتاريخ 10 نيسان 1973.

وفيما يلي نص المقال:

من الصعب أن أرثي الشهيد بالكلمة وهو الذي قال "لقد فقدت الكلمة محتواها" ومن الصعب أن أرثيه بالدمع الساخن لأن مآقينا جفت منذ حملنا البندقية.. وأصعب من الرثاء أن أكتب عنه بموضوعية تامة لأنني أفقد موضوعيتي عند الحديث عن كمال الصديق والرفيق.. خاصة وأن نفسي تبعثرت بفقد وتمزقت من الطريقة التي تمت بها عملية الغدر والاغتيال هذا فضلا عن استشهاد رفيقين إلى جانبه من أعز الرفاق، مزق استشهادهم بقايا الحزن في نفوسنا وأفئدتنا .. ولكنني رغم كل الأسى والألم والتمزق والبعثرة ما زلت أعيش الحوار المستمر الذي كان يدور في هداة الليل بيني وبين الشهيد كمال ناصر، حول الثورة والقضية وما زال هذا الجانب من الحوار لا تشمله حالة البعثرة النفسية التي أعيشها لأنه جانب مشرق بالحقائق الدائمة ومضيء بالحسم الذي لا يمكن للموت أن يمحوه أو يؤثر في جوهره.

ولا يمكنني في هذه العجالة أن أكتشف كل أفكار الحوار المفتوح الذي كان يدور بيننا ولكن أهم القضايا التي كنا نتطرق إليها وتأخذ وقتا طويلا من أحاديث الليل كانت تكشف الإيمان العجيب الذي يعمر قلب الشهيد بالثورة وقدرتها على تخطي أزماتها الذاتي ومجابهة كافة المؤامرات التي تحاد ضدها.. هذا الايمان الذي كان دوما يتناول في الأزمات ويحللها من الجوانب الإيجابية مبددا كل سلبياتها بتفاؤل الثوار في وقت يكون فيه التفاؤل ضربا من الجنون كما يكون الايمان مأساة المؤمنين الصادقين.

وبهذه المعادلة البسيطة الايمان والتفاؤل كان يحاكم كافة القضايا المطروحة في الساحة رغم شراسة الظروف وخطورة الوضع ولا يعني هذا انه كان يبسط الأمور ولا يحاكمهما محاكمة موضوعية فلقد كنا نلجأ اليه في كافة القضايا الهامة نستطلع رأيه فيها ورؤيته لابعادها فنخالفه أو نتفق معه ولكن رأيه في محصلته كان يشكل بالنسبة لنا القرار الحاسم وقلما كان يخطىء في التقييم او يتجاوز الأسس. ولم يكن الشهيد مستشارا في الثورة تعرض من قبله ويؤخذ رأيه وتحليله العلمي والعملي كأساس لأية خطة للمجابهة أو التصدي أو تشكيل القرار. وكان الشهيد لا يكتفي بعرض وجهة نظره وانما كان يقاتل من اجلها بشجاعة نادرة غير آبه بما يقوله الأصدقاء والاعداء على السواء وكم خاض المعارك تلو المعارك من أجل مبادئه  وأفكاره وآرائه في قضايا الثورة الأساسية والفرعية.. ولعل أهم هذه المعارك التي خاضها واستشهد وهو يصب من قلبه دما من أجلها هي قضية الوحدة الوطنية بين فصائل الثورة فقد كان له رأي محدد في هذا لمجال لم يهتز ايمانه به الى آخر لحظة في حياته فقد كان يرى "أن القضية الفلسطينية ولدت من جديد من خلال الثورة والكفاح المسلح وأن من حق الذين يموتون ويقاتلون ان يقودوا المرحلة وبالتالي فعلى كل حملة البنادق والملتزمين بخط المقاتلين ان يتوحدوا في جبهة واحدة وعلى أرضية واحدة" ورغم كل الخطوات الوحدوية التي خطتها لقاءات المجلس الوطني الفلسطيني الأخير الا انها كانت دون مستوى طموح الشهيد "لن ينتهي الحديث عن الوحدة الوطنية الفلسطينية الا بإقامة التنظيم الثوري الموحد ولن ينتهي النضال الدؤوب من أجل تحقيق وحدة أداة الثورة الفلسطينية الا بخلق التنظيم الثوري الموحد" هذه كانت آخر نبضات قلبه هم الوحدة الوطنية وايمانه الذي لا يتزعزع بها وكم دفع ثمن هذا الايمان المطلق بهذه القضية عند الكثيرين الذين لم يكونوا يستوعبون مزايا وبعد نظر الشهيد حيث كانت تكال له التهم جزافا عن تجيير معنى الوحدة الوطنية. ان كمال ناصر كان متحيزا للثورة الفلسطينية نشيده الكبير وتنظيمه الكبير وأشهد كم كان يتمزق وهو يرى العصبية التنظيمية تضع القناع على العيون لتحجب عنها مخاطر التشرذم والفرقة ولكنه رغم كل معاناته الحقيقية كان لا ييأس ولا يتوقف عن أداء دوره كرسول محبة ووفاق فلا ينقل للأطراف والفصائل الا الصورة المشرقة والكلمة الطبية التي تفتح القلوب وكان يختزن في اعماقه كل الصور المحزنة المؤسفة والمواقف المنفعلة والمتشنجة من هذا الطرف أو ذاك حتى تكاد نبضات قلبه تقف من كثرة معاناته وصبره ومثابرته وعندما كنت أثور عليه وأتسائل مشفقا عليه . ألم تتعب من هذا الدور يا ضمير...؟ كانت اجابته الدائمة "أنا لست على هذه الساحة النضالية بالصدفة فأنتم لا تعرفون قيمة ثورتكم كما أعرفها أنا بحسي الناري أرى أن قضية الوحدة هي قضية عمري وسأناضل من أجلها وستنتصر إرادة الوحدة رغم كل المعوقين والحاقدين"

وكنت دائما رغم حبي لع أتلذذ بتعذيبه بهذا الحوار حول دوره في الثورة وقضاياها لأن الثورة كانت حبه الكبير الذي أعطاه عصارة أفكاره وعاطفته وله في حبه ما لكل المحبين من عذابات وجراحات حتى كان الحسم في كافة قضاياه الشخصية وجوانب حياته الخاصة عندما يصل الأمر الى الخيار بين الثورة وحياته الحضارية كما كان يحلو له أن يسميها ومما ان المحبين تعصر الغيرة قلوبهم كان شهيدنا كمال يغار على الثورة من الحاقدين عليها باسم النقد خاصة اولئكم الذين كانوا يضعون الأخطاء الى جانب الخطايا حيث كان يرى الثورة بكل سلبياتها أشرف ما في الساحة العربية لأنها تقاتل ولأنها نقطة الدم الساخن الذي ينزف بالكبرياء والكرامة ولأنها شرف هذه الامة الذي لم يساوم ونبض عزتها الذي لم ينحن وأكثر ما كنت أراه غاضبا ساخطا عندما كان يسمع أن زعيما عربيا يتشدق من فوق المنابر بكلمات النقد والتجريح بالثورة وكان يصرخ من ألمه مجروحا "هؤلاء لا يحق لهم أن ينتقدوا لأن انتقاداتهم من موقع التربص وليس من موقع التفهم لواقعنا والالتزام بخطنا"

ونفس الغضب والثورة الجامحة كانت تلازمه عندما يقرأ ما يكتب على الجرائد أو في الكتب من نقد للثورة من بعض المثقفين الذين يصبون أحقادهم على الثورة من خلال "الجمل الثورية" التي يرددونها دون وعي لظروق المرحلة ولما يجب ان يقال ومتى يجب أ، يقال حيث كان يصفهم بالمثقفين المترفين الذين لم يمارسوا النضال ممارسة يومية من موقع الالتزام الثوري والمعاناة الحقيقية لظروف الثورة وقضاياها.. فيضعون انفسهم من حيث يريدون أو لا يريدون ومن حيث يشعرون أو لا يشعرون ضمن جوقة الحرب النفسية التي تشنها الدوائر الامبريالية الصهيونية الشرسة لأن الثورة الفلسطينية كانت بالنسبة له طليعة تفجر مناخ النضال وتعمق إرادة القتال والرفض لدى الجماهير العربية ومن ثم تستطيع هذه الجماهير من خلال ثوراتها العارمة ان تمد يدها الى كل القوى الصديقة والمعسكر الاشتراكي وكافة قوى التحرر في العالم من اجل الحرية والعدالة والسلام ومن أجل أن ينتصر الانسان المضطهد والمعذب في كل أنحاء الأرض.

هذه كانت خطوط الرسالة التي حملها الشهيد كمال ناصر وكان ايمانه بحتمية الانتصار العربي ينبع من ثقته بالجماهير التي لا يمكن ان تقبل بعار الهزيمة ولان حركة التاريخ مع الجماهير وخطها السياسي الواضح المؤمن بحرب الشعب الطويلة المدى ولأن طليعة هذه الجماهير هم ثوار فلسطين الذين يقاتلون ويصنعون تاريخ امتهم بتضحياتهم وبصلابتهم كان يرى الشهيد ان الثورة الفلسطينية مستمرة ومنتصرة لأنها في اتجاه التاريخ الذي لا يخطئ الطريق ولا ينحرف عن اتجاهه السليم مهما تكالبت قوى الشر للانحراف به عن مجراه.

وكما بدأت الحديث اجدني مشدودا في نهاية الى بدايته الصعبة وما ذلك الا لضعفي اما كمال الصديق والرفيق، فهو بالنسبة لي كما لغيري كتاب كبير تناولته فجأة ريح عاتية مجرمة فمزقت صفحاته ونشرتها في كل اتجاه فكيف يستطيع الصديق والرفيق ان يجمع هذه الصفحان وهو يعيش حالة الذهول والضياع من خلال الصدمة ولكنني رغم الضياع والحزن والحيرة أجدني مضطرا لأن أكرر نفسي وأقول:

لقد فقدت الثورة الفلسطينية والعربية رجلا شجاعا لأن الشجاعة في معناها الحقيق الالتزام بخط الثورة في المحنة والرخاء وكذلك كان كمال ناصر..

وفقدت الثورة رجلا مفكرا صاحب كلمة شجاعة وهادئة وعاقلة وثورية في نفس الوقت وقيمة الكلمة ان تكون كذلك في مرحلة خطيرة تمر بها الثورة ...

وفقدت الثورة انسانا كان يتعذب بصمت دون ان يجعل الاخرين يحسون بهذه المعاناة القاسية كان بين الحين والحين يتحسس مواقع الخطر فيتحدث ولكن بدون ألم وينذر ولكن بلا ضجيج ويحذر ولكن بالتزام كامل.. والانسان الكبير وحده هو الذي يستطيع ان يجترح هذه المعجزة فيصمت عن احزانه ليبدو ايمانه اكبر من جراحاته وليبدو تفاؤله اقوى من واقع آلامه ومعاناته.. والخسارة هنا في كمال لا تعني المدلول المادي للكلة بقدر ما تشير الى عمق الفراغ الذي سيخلفه غيابه الابدي عنا..

ولن يحس بهذا الفراغ القاسي الا اولئكم الذين عاشوا مع كمال في أحلك الظروف وأقساها والذين كان يسكب في قلوبهم من حنانه واشراقه محياه ما يجعلهم ينسون احزانهم، وأخيرا... لقد قتلوك ثم صلبوك وكأنهم يريدون أن ينذروا كل الأديان هذا مصير الفكر والعقيدة ولكنهم ما دروا ان دمك الغالي جعل المسلمين مسيحيين وجعل المسيحيين مسلمين فصلوا عليك في المسجد وصلوا على رفيقيك أبو يوسف وكمال عدوان في الكنيسة.. نعم اغتالوك واغتالوا معك أعز الرفاق وأعظم الرجال وأحب الأخوة والمناضلين ولكنهم لم ولن يغتالوا القضية التي قضيت ورفاقك من أجلها.

لقد تركتنا يا كمال أنت ورفاقك لنكتب فيكم الرثاء ونحن نعيش أدق وأخطر مراحل القضية ولكن عزائنا أننا سنظل على العهد وعلى نفس الطريق وإصرار على نفس الخط ثورة مستمرة لن نخون او ننحني او نستسلم وسيظل نضالنا من اجل مبادئكم أكبر من الألم وأقوى من الجرح نصاره الاحزان ونحن نردد كلماتك يا كمال"

"أما القيادات فتتغير وأما الأشخاص فسيزولون وتبقى القضية أكبر من القيادات والأشخاص ولابد أن يذوب الجزء في اكل وأن يذوب الكل في الثورة قبل أن تسقط الثورة الأجزاء التي لا تستحق الحياة"