الخميس  21 تشرين الثاني 2024

الشيخ خضر عدنان.. نموذج البطل الفرد في زمن انعدام القيم الجمعية

البطولة الفردية والجماعية في الحالة الفلسطينية وانعكاساتها على الحركة الأسيرة

2023-05-03 10:39:46 AM
الشيخ خضر عدنان.. نموذج البطل الفرد في زمن انعدام القيم الجمعية

أشجان عجور: خضر عدنان لم يكن بطلا فرديا بل مدرسة ومرشدا

وسام رفيدي: تراجع النضال الوطني عزز البطولة الفردية على حساب الجماعية

خالد عودة الله: في مرحلة أوسلو وما بعدها أصبح هناك مسعى لاغتيال فكرة البطولة

تدوين- سوار عبد ربه

برحيل الأسير القائد خضر عدنان عن عالمنا شهيدا في الثاني من أيار 2023؛ فقد الشارع الفلسطيني واحدا من أبرز أعلامه الذين نذروا أنفسهم في سبيل شعبهم ووطنهم، وسطعوا نجوما في مرحلة غابت عنها المفاهيم النضالية الجماعية، نتيجة مجموعة من التحولات أفرزت تغييرا في البنى النضالية عبر مراحل مختلفة، سيتطرق لها التقرير تفصيلا.

وفي كل مرة نفقد فيها نموذجا مناضلا كالشيخ خضر عدنان، يصبح النقاش السائد أننا فقدنا مخلصا من المخلصين الذين بتنا نعلق آمالنا التحررية عليهم، في ظل غياب أو تغييب برنامج نضالي واضح وجامع للكل الفلسطيني، تنخرط فيه كافة مكونات الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق هدف الحرية والتخلص من نير الاستعمار الاستيطاني.

ولهذا، التقت تدوين بمجموعة من الباحثين لمحاولة تفكيك مفهوم البطل والبطولة في الحالة الفلسطينية، وربط تحولاتها في السياقات التحررية المختلفة منذ بدايات المقاومة الفلسطينية للمشروع الاستعماري الاستيطاني وصولا إلى المرحلة الآنية التي تراجعت فيها القيم الجمعية لصالح طغيان الفردانية، من خلال ممارسات مدروسة وممنهجة عملت على زرع ثقافة اللامبالاة وتحويل المزاج الثقافي العام إلى مزاج فردي، وصلت انعكاساته إلى داخل الحركة الأسيرة.

مفهوما البطولة الفردية والجماعية

يرى الباحث والأكاديمي وسام رفيدي أن البطولة في الحالة الفلسطينية لها جانبان، الأول فردي، والآخر جماعي، وكلاهما لهما حيز يشغلانه في التاريخ. فكما يوجد بطولات فردية ممثلة على سبيل المثال بعز الدين القسام كبطل فرد، توجد بطولات جماعية كمجموعة عز الدين القسام التي حاولت أن تقوم بثورة مسلحة عام 1935، معتبرا أن الرواية الوطنية بحاجة إلى بطولات لكي تبنى.

البطولة في الحالة الفلسطينية لها جانبان، الأول فردي، والآخر جماعي، وكلاهما لهما حيز يشغلانه في التاريخ

وأشار رفيدي إلى أنه لا يوجد شعب في التاريخ يستطيع بناء رواية تاريخية بدون بطولة، حتى لو اخترع هذا الشعب بعض البطولات اختراعا، فكل الشعوب لها مخزون هائل من البطولات الفردية والجماعية التي تنتمي لآلاف السنين إلى الوراء بغض النظر إن كانت صحيحة أم مؤسطرة.

في حين عبر الباحث خالد عودة الله عن فعل البطولة بأنه قيام كل إنسان بواجبه في مقاومة المحتل وهو واعٍ للثمن الذي سوف يدفعه مقابل قيامه بهذا الواجب، وبالتالي فعل البطولة يقاس على الواقع المجتمعي، ذلك لأن ليس كل الناس مستعدين لدفع هذا الثمن في هذه المواجهة، ما يعني أن البطولة بشكل أساسي هي الاستعداد لدفع الثمن الباهظ الذي قد يصل إلى التضحية بالحياة.

التحولات في هذين المفهومين

ومر مفهوم البطولة في الحالة الفلسطينية، بمسارات مختلفة ارتبطت في مدى تصاعد النضال الوطني أو تراجعه، فكانت تعزز مكانة البطولة الجماعية تارة على حساب الفردية، وتارة أخرى تبرز البطولة الفردية وسط غياب للبطولة الجماعية.

واعتبر الباحث وسام رفيدي أن هذه التحولات في الحالة الفلسطينية مرتبطة بشكل أساسي في تصاعد أو تراجع النضال الوطني الذي عزز من مكانة البطولة الجماعية أحيانا على حساب البطولة الفردية.

وسام رفيدي

وقياسا لأثر هذه التحولات، تطرق رفيدي إلى الحركة الوطنية الأسيرة كنموذج لدراسة التحولات في مفهوم البطولة، بالعودة إلى الإضراب الذي خاضه أكثر من 4500 أسير مدة 18 يوما، عام 1992، إذ كان هذا الإضراب بطولة جماعية بكل ما للكلمة من معنى، إلا أنه في الوقت الحالي البطولات الفردية أصبحت هي الطاغية في حالة الحركة الأسيرة ذلك بسبب تراجع النضال الجماعي للحركة الأسيرة الفلسطينية ما عزز من النضالات الفردية للأسرى، وبالتالي أصبح هناك حيز أوسع للبطولة الفردية في الإضراب عن الطعام من الحيز الذي تحتله البطولة الجماعية في هذا الجانب.

وأيضا الصمود في بيروت عام 1982، رغم الهزيمة التي جرت بخروج الثورة الفلسطينية من لبنان، إلا أن تلك المرحلة شهدت صمودا وقتالا جماعيا حقيقيا في بيروت الغربية، ما جعل البطولات الفردية تغيب في هذه الحالة، بسبب تخييم حالة من الصعود الجماعي للمقاومة، وفقا لرفيدي.

وبحسب د. وسام رفيدي، فإنه رغم تصاعد النضال الوطني الذي يعزز من البطولة الجماعية على حساب البطولة الفردية، إلا أن الأخيرة لا تضيع في ظلها، حتى في جانب البطولة الجماعية للأسرى في الإضراب عن الطعام، ذلك لأن بعض الحالات الفردية التي قد تنخرط في الإضراب الجماعي قد تكون حالات مرضية على سبيل المثال، ترفض عدم دخول الإضراب فتصبح هذه بطولات فردية داخل البطولة الجماعية.

أما الباحث خالد عودة الله فاعتبر أن صورة البطل دائما ليست ثابتة سواء في الحالة الفلسطينية أو غيرها، ففي بدايات المقاومة الفلسطينية التي ترافقت مع المشروع الاستعماري الصهيوني منذ مائة عام، كان هذا المفهوم هو مفهوم القيام بالواجب الفردي بسبب عدم وجود أطر تنظيمية، فكان الناس يقومون بشكل تطوعي بالدفاع عن وجودهم وأرضهم وكرامتهم أمام المحتل سواء كان مستوطنا كالصهاينة الذين بدأوا بالتوافد على فلسطين كمستوطنين تحت الحكم العثماني في أواخر القرن التاسع عشر، أو لاحقا في مواجهة الاستعمار البريطاني الذي وصلت فيه المواجهة إلى ذروتها بالثورة الفلسطينية الكبرى قبل أن تمر بمراحل تمهيدية خلال الثورات الكبرى كثورة النبي موسى وهبة البراق وغيرها.

وارتبط مفهوم البطولة في بدايات المقاومة، بالمعاني الأخلاقية التقليدية داخل المجتمع الفلسطيني كالنخوة ونجدة الغير وغيرها، ولاحقا تطور هذا المفهوم مع تجربة الشيخ عز الدين القسام إذ أصبح دور البطولة مرتبطا بنموذج يقوم به فرد واعٍ، يقاوم حاملا معه مشروعا سياسيا تعبويا، ما أسفر عن تداخل بين القيام بالواجب بصفته فرديا أخلاقيا وكونه فعلا سياسيا تعبويا يرسم الطريق للمجتمع والأجيال القادمة، وفقا لعودة الله.

ارتبط مفهوم البطولة في بدايات المقاومة، بالمعاني الأخلاقية التقليدية داخل المجتمع الفلسطيني كالنخوة ونجدة الغير وغيرها،

وبحسب الباحث، فإنه بعد انطلاق الثورة الفلسطينية وتشكل الأطر التنظيمية، أصبح مفهوم البطولة له بعد ذاتي وسياسي وتنظيمي، وأصبحت البطولة في هذه المرحلة عنوانا يتم اكتساب الشرعية السياسية بناء عليها، لهذا هناك نزاع دائم على تبني العمل وهوية البطل، ما يعني أن البطولة انتقلت في هذا الجانب إلى استثمار سياسي. ولاحقا ساد هذا النموذج إلى جانب نموذج البطل الشعبي الذي يقوم بفعله متطوعا دون قناعات أيديولوجية واضحة بالضرورة وإنما بالتعبير عن أخلاقية جمعية متوارثة.

مرحلة ما بعد أوسلو

ونظرا للنقلة النوعية التي أفرزتها اتفاقات أوسلو، كان لا بد من التطرق لهذه المرحلة بالنظر إليها كمرحلة مفصلية في السياق الفلسطيني، لما نتج عنها من تغيير على كافة المستويات والأصعدة بما فيها الحالة النضالية التي أخذت شكلا وبعدا مختلفا عما كان عليه الوضع قبلها.

وفي قراءته لمرحلة أوسلو وما بعدها، قال الباحث وسام رفيدي إن أوسلو ليست مجرد اتفاقات وُقعت، إنما مرحلة كاملة على مستوى البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وفي هذا المجال، مرحلة أوسلو دعمت وروجت بشكل مدروس وممنهج من قبل الإمبرياليين الأمريكيين والصهاينة وسلطة أوسلو لمفهوم الفردانية والذاتية، وعندما تتعزز الفردانية وقيم الذاتية والأنانية في التفكير يكون ذلك على حساب القيم الجماعية.

مرحلة أوسلو دعمت وروجت بشكل مدروس وممنهج من قبل الإمبرياليين الأمريكيين والصهاينة وسلطة أوسلو لمفهوم الفردانية والذاتية

 ويرى رفيدي أن أوسلو عملت على تراجع القيم الجماعية وبالتالي تراجع البطولات الجماعية لصالح بروز البطولة الفردية، الأمر الذي انعكس أيضا داخل الحركة الأسيرة وفي بعض العمليات الفدائية التي يقوم بها شبان ليست لهم اتصالات تنظيمية يسمونهم في الصحافة العبرية الذئاب المنفردة، وفي حقيقة الأمر هم أشخاص مخلصون وطنيا وليس لهم صلات تنظيمية، يقاتلون الاحتلال وبالتالي بطولاتهم فردية.

إلا أنه رغم أوسلو وما عززته من قيم فردية، يوجد استثناء أساسي جدا في الحالة الفلسطينية في هذا الجانب، بحسب رفيدي، وهو حالة البطولة الجماعية للمقاومة في غزة، التي تعتبر جانبا مشرقا ومبشرا لشعبنا في المستقبل، لأن روح المقاومة في غزة أنتجت حالات من الصمود الجماعية رغم وجود حالات فردية من البطولات داخل هذه البطولة الجماعية، كالأفراد الذين تمكنوا من أسر الجندي جلعاد شاليط.

أما قراءة الباحث خالد عودة الله في هذا الجانب، فتخلص إلى أنه في مرحلة أوسلو وما بعدها أصبح هناك مسعى لاغتيال فكرة البطولة على اعتبار أننا لسنا بحاجة إلى أبطال في هذه المرحلة إنما لأناس عقلانيين، والعقلانية هنا تم اختزالها بضرورة التصالح مع العدو، وإن كانت هذه الضرورة تم إخراجها بطريقة كأنها هي الفعل العقلاني الرشيد.

في مرحلة أوسلو وما بعدها أصبح هناك مسعى لاغتيال فكرة البطولة على اعتبار أننا لسنا بحاجة إلى أبطال في هذه المرحلة إنما لأناس عقلانيين، والعقلانية هنا تم اختزالها بضرورة التصالح مع العدو

ومع انهيار البنى التنظيمية في مرحلة الانتفاضة الثانية أصبحت هناك عودة إلى مفهوم البطولة المرتبط بالعمليات الفدائية الاستشهادية وتبلور نموذج مثالي للبطل في هذه المرحلة كتعبير أقصى عن مرحلة الالتحام مع العدو في طريق لا رجعة منه، وهنا أصبحنا نتحدث عن نموذج متطور للبطولة، وبعدها تم تفكيك هذا النموذج بسياسات ما بعد الانتفاضة الثانية التي بنيت على تفكيك أي قدرة للمجتمع الفلسطيني المقاوم، وفقا لعودة الله.

خالد عودة الله

وبحسب الباحث فإن ردة الفعل على انهيار هذه البنى التنظيمية أسفرت عن نشأة ظاهرة العمليات الفردية ما يعيدنا لمفهوم أول للبطولة الذي يرتبط بمفهوم النخوة والتعبير عن القيم الجمعية المتوارثة، بدون أي مشاريع سياسية واضحة.

ويرى عودة الله أننا ما زلنا نعيش هذه المرحلة رغم التحولات التي نشهدها مع انبعاث ما يشبه العمل التنظيمي في الضفة الغربية في مناطق الشمال تحديدا.

الحاجة إلى البطل

وتنبع الحاجة للبطل من جانب أنه نموذج يصلح للاقتداء به وتعميمه على الأجيال المتعاقبة، وكذلك باعتباره ركنا أساسيا في بناء رواية الشعوب.

وفي هذا الجانب، قال الباحث وسام رفيدي إن كل الشعوب بحاجة إلى أبطال، لأنها بحاجة إلى نماذج ليتم الاقتداء فيها لبناء روايتها وفلسفتها في التاريخ ورؤيتها لذاتها، وهذا البناء بحاجة إلى رموز، مشيرا إلى أنه لا يوجد شعب بلا أبطال، وإذا لا يمتلك أبطالا يخترعهم، فالصهاينة اخترعوا كذبة مشهورة جدا في التاريخ وهي أبطال المتسادا الذين زعموا أنهم قاموا بعملية انتحار جماعي دفاعا عن عقيدتهم اليهودية في القرن الأول، وهذه مجرد أسطورة تم بناؤها ليبنوا أنفسهم كشعب بحاجة إلى أبطال.

وفي علم النفس المجتمعي ينظر لمسألة الحاجة إلى البطولة من باب أن الناس لا تستطيع العيش على رواية خالية من الرموز والبطولات، وفقا لرفيدي.

من جانبه، قال الباحث خالد عودة الله إن كل الأمم والشعوب تصنع البطولة صناعة، وتنعكس صورتها في الأدب والشعر والسينما، فهذا مكون طبيعي لأنه من الضرورة لكل أمة وكل شعب أن تخلق النموذج المثالي للإنسان بما يتعلق بهويته الوطنية، وهذا يشار إليه كمفهوم البطل القومي المصنوع أو الذي تتم صناعته من قبل الدولة أو حركة التحرر الوطني.

أما النموذج الثاني وفقا لعودة الله هو البطل الشعبي الذي تتم بلورته كنموذج ليس بطريقة مدروسة إنما من خلال إبرازه مجتمعيا، لأن المجتمع يشعر أن هذا الشخص يقدم مثالا بحاجة له المجتمع لكي يربي أفراده على نموذج مثالي مهم لاستمرار المجتمعات.

البطل الشعبي هو تعبير عن طموح وآمال المجتمع، وبالتالي تحبك حوله مجموعة من الروايات والأساطير الشعبية التي تتوارث باستمرار، والتي تعود إليها الأمم والشعوب في لحظة التيه

وفي حالتنا الفلسطينية فإن مسألة البطولة مهمة جدا، هذا لأننا في صراع وجودي وبالتالي أي شخص يتقدم للمواجهة، المجتمع تلقائيا يخلع عليه صفة البطولة ويعطيه هذه القيمة كقيمة عظمى، بحسب الباحث، الذي يرى أن البطل الشعبي هو تعبير عن طموح وآمال المجتمع، وبالتالي تحبك حوله مجموعة من الروايات والأساطير الشعبية التي تتوارث باستمرار، والتي تعود إليها الأمم والشعوب في لحظة التيه.

انعكاسات التحول في القيم الجمعية على الحركة الأسيرة

ربط الأكاديمي وسام رفيدي تراجع النضال الوطني الفلسطيني بتحولات طرأت على الحركة الأسيرة، تبلورت بشكل أساسي في مرحلة أوسلو التي ظن الأسرى أنه بموجبها ستأتي الحافلات لنقلهم وبهذا تنطوي مرحلة الأسر بالنسبة لهم، إلا أن شيئا من هذا لم يحصل، ما ترك حالة من الإحباط، أدت إلى تفكك داخلي على المستوى النفسي والتنظيمي والثقافي.

واعتبر رفيدي أن من دمر الحركة الأسيرة في مرحلة من المراحل هو اتفاقات أوسلو، وتراجع النضال الوطني بعدها، رغم محاولة الحركة الأسيرة أكثر من مرة خوض إضرابات جماعية، إلا أنها لم تكن بزخم وقوة الإضرابات الجماعية عام 1981 في سجن نفحة على سبيل المثال، ما فتح مجالا للإضرابات الفردية المبنية بشكل أساسي على فكرة أن الحركة الأسيرة لم تعد تمتلك القوة لإلغاء الاعتقال الإداري، بالتالي يصبح هم الفرد الأسير في هذه الحالة تخليص نفسه من اعتقال تعسفي، غير قانوني، ومناقض لكل القوانين الدولية.

من جانبه، اعتبر خالد عودة الله أن ما حدث داخل الحركة الأسيرة في هذا السياق مرتبط بالانهيار السياسي الشامل في المجتمع الفلسطيني، ذلك لأن النخبة الوطنية الفلسطينية تحولت إلى سلطة ومشروع دولة مستحيلة، تسببت في تجريف المجتمع سياسيا وثقافيا وجماليا.

النخبة الوطنية الفلسطينية تحولت إلى سلطة ومشروع دولة مستحيلة، تسببت في تجريف المجتمع سياسيا وثقافيا وجماليا.

بالإضافة لعجز العمل التنظيمي عن إعادة بلورة ذاته داخل هذه الظروف غير السهلة، ما أدى إلى نشوء البطولة الفردية ليس فقط في داخل السجون وأيضا خارجها، كالعمليات الفردية خارج السجون، التي يمكن النظر إليها على أنها نسخة من الإضرابات عن الطعام لمواجهة الاعتقال الإداري داخل السجون، وفقا لعودة الله.

ويرى عودة الله أنه في ظل عدم وجود مشروع قادر على لملمة هذه الجهود وتوجيهها، فإن الأفراد سيقومون بما يستطيعون للدفاع عن ذاتهم وللانتصار لوطنهم، لأن سعيهم للمقاومة لا يفنى.

ثقافة الفردانية ودورها في تغييب قضية الأسرى عن المجتمع

أما عن تغييب قضية الأسرى خاصة أولئك الذين يخوضون بطولات في الإضرابات الفردية عن الطعام عن المجتمع خارج السجون، أرجع د. وسام رفيدي السبب في هذا عن التاريخ من اللامبالاة والنزعات الفردية وعدم الاهتمام بالهم الجماعي الذي بات ظاهرا في الشارع.

وبحسب رفيدي؛ على مدى سنوات طويلة من عام 1994 حتى اليوم، بعد انهيار البرنامج الوطني نتيجة أوسلو خلقت لدينا ثقافة عدم الاهتمام بالهم العام التي انعكست على كثير من الجوانب، وهي ثقافة يجب التركيز عليها في صراعنا الحالي الذي لم يعد مع العدو الصهيوني فقط إنما مع هذه الثقافة التي زرعت فينا.

ويرى خالد عودة الله أن المسؤول عن هذه الثقافة هو من يحتكر القرار الفلسطيني المختطف، والذي ذهب به إلى الهاوية وحولنا إلى مجتمع تابع بكل مستوياته.

الإضرابات الفردية عن الطعام كانعكاس للذات الجمعية

أشجان عجور

وفي قراءة مغايرة قدمتها الباحثة أشجان عجور فيما يتعلق بمسألة إضرابات الأسرى الفردية عن الطعام، قالت إن الإضرابات الفردية تبدو لأول وهلة كأنها فعل فردي ذاتي، ولكن "خطاب الأسرى المضربين الذين قابلتهم ضمن إعدادي لدراسة في هذا الجانب، يمثل ويعكس الذات الجمعية بحسب تجربتهم الفردية، أي أنها مدفوعة بسياسات ثورية فلسطينية ضد الاستعمار الاستيطاني، كما سياساتهم وخطابهم كانت مختلفة عن خطاب أوسلو الذي كبل المقاومة بفكرة الدولة.

وأوضحت: بالرغم من كون الإضرابات فردية لكنها تنطوي على بعد جماعي عميق، حتى أنها كانت رافعة لتجديد النضال السياسي الجماعي. على سبيل المثال عندما أضرب بلال كايد من الجبهة الشعبية، كل الجبهة تضامنت وأضربت معه داخل السجون، أي أن الإضراب الفردي يشكل رافعة لتجديد الإضراب الجماعي ووسيلة لصيانته.

بالرغم من كون الإضرابات فردية لكنها تنطوي على بعد جماعي عميق، حتى أنها كانت رافعة لتجديد النضال السياسي الجماعي

وترى عجور في الإضرابات الفردية تأكيدا على أن المقاومة هي حالة مستمرة في وجه السلب وعنف الاستعمار خارج وداخل السجن. كما أنها وسيلة ابتكرها الأسرى للتأكيد على استمرارية المقاومة رغم الأزمة في النضال الجمعي، فلم يقبل الأسرى أن يتحولوا إلى ضحية سالبة بل من خلال مقاومتهم الراديكالية شكلوا ذوات ثورية فاعلة مرتبطة بالذات الجمعية.

وبحسب الباحثة فإن هؤلاء الأفراد الذين يقومون بالإضرابات يشعلون من جديد جدوى النضال الجماعي داخل وخارج السجون، وهم المد الثوري الذي يؤكد أن المقاومة مستمرة لأن وجودنا يكون "ضحية" إذا لم تتوفر المقاومة حتى لو كانت فردية.

وبحسب عجور لا يمكن فهم هذه النضالات الفردية دون وضعها في السياق الأوسع لمقاومة الفلسطينيين الجمعية ضد استعمار صهيوني اقتلاعي قاتل، فالأسرى استخدموا جسدهم في هذا النوع من المقاومة الراديكالية والتي تتكثف فيها المواجهة بين المستعمِر والمستعمَر في معركة الإضراب.

وخلصت الباحثة إلى أن هؤلاء الأسرى الأفراد في إضرابهم الفردي يقاتل كل واحد فيهم كأنه وطن، معتبرة أن الإضراب من أهم مواقع المقاومة الحية لمواجهة بنية الاستعمار الاستيطاني العنيفة، المتمثلة في منظومة السجن. وهي تجربة يقوم الأسرى من خلالها بتحويل الجسد إلى سلاح ليسكروا الاعتقال الإداري بأمعائهم.

الأسرى استخدموا جسدهم في هذا النوع من المقاومة الراديكالية والتي تتكثف فيها المواجهة بين المستعمِر والمستعمَر في معركة الإضراب.

وعملت عجور على إعداد كتاب حمل عنوان: "استعادة الإنسانية في تجربة الإضراب عن الطعام في فلسطين: الذات الثورية وإنهاء استعمار الجسد"، تطرقت فيه تفصيلا إلى الإضرابات الفردية والجماعية التي تركزت كظاهرة عام 2012، الذي شهدت معظم فصوله إضرابات فردية وجماعية أدت إلى الانتباه بشكل أكبر إلى قضية الأسرى.

وخلال العمل على إعداد الكتاب أجرت الباحثة 85 مقابلة في الفترة الواقعة ما بين 2015 حتى عام 2018، استهدفت بشكل أساسي من خاضوا تجربة الإضراب احتجاجا على الاعتقال السياسي، بينهم الشهيد الأسير خضر عدنان.

خضر عدنان لم يكن بطلا فرديا بل مدرسة ومرشدا

وفي هذا الجانب قالت عجور: "خلال عملي على الكتاب التقيت بالشهيد خضر عدنان بعد إضرابيه الأول والثاني ووثقت نضاله وفلسفته بالإضراب الفردي الذي سجل فيه بطولات إنسانية تستحق أن ننحني أمامها".

ويعتبر الشهيد خضر عدنان أول أسير شهيد في حالة الإضراب الفردي عن الطعام.

وأشارت الباحثة في كتابها إلى أنه منذ العام 2012 تتلاحق موجة من "الإضرابات الفردية" التي نفذها بداية أسرى الجهاد الإسلامي خاصة الشهيد خضر عدنان ثم امتدت بعد ذلك إلى أسرى جميع المنظمات السياسية، وكانت هذه الإضرابات احتجاجا على الاعتقال الإداري.

وبحسب الأسرى الذين التقتهم الباحثة، شكلت حركات التضامن والإسناد داعما أساسيا في تعزيز صمود الأسرى، إذ قالوا في مقابلاتهم معها، إن التضامن الجماهيري كان بمثابة الرئة التي يتنفسون منها، وإنه عمق الشعور بأن شعبهم لم يتركهم وحيدين في المعركة. وقد برز هذا التضامن والتعاطف ليس من قبل الشعب الفلسطيني فقط، بل على مستوى العالم أيضا، وهو ما عزز موقف الأسرى في المفاوضات، وضغط على "إسرائيل"، التي لا تريد أن يموت أسرى مضربين عن الطعام في سجونها.

أما في حالة الشهيد خضر عدنان، اعتبرت عجور أنه بإضرابه الأخير عن الطعام، أخذ الاحتلال قرارا باغتياله هذه المرة، وتجلى وضوح هذا القرار من خلال التعامل معه أثناء مصارعته الموت، عندما رفض الاحتلال لعائله القيام بزيارته، واقتصر السماح على زوجته برؤيته عبر الفيديو كونفرنس خلال جلسات المحاكم، كما أن الاحتلال رفض نقله إلى مستشفى مدني رغم خطورة وضعه الصحي.

وترى الباحثة أن استشهاد القيادي خضر عدنان في سبيل الحرية كان بمثابة إعلان وفاء للقضية التي استشهد من أجلها، حيث رفع في كل إضراباته كما كل الأسرى الذين خاضوا هذه التجربة، شعار إما الحرية أو الشهادة. وكانت الحرية وتحرير فلسطين هي مطلبه.

ووفقا لعجور، حقق خضر عدنان في نضاله البطولة لأنه لم يقبل أن يستسلم للعجز. وبذلك شكل ذاتا ثورية فاعلة مرتبطة بالذات الجمعية، فهو يمثل شعبنا وتاريخنا ومقاومتنا، واستشهاده هو بمثابة تحول طوته الفردية إلى ذات جمعية تواجه بنية الاستعمار الصهيوني، وكان في معركته وبطولته وحريته مرشدا لنا ودرسا، فلم يكن فردا بل مدرسة.

حقق خضر عدنان في نضاله البطولة لأنه لم يقبل أن يستسلم للعجز. وبذلك شكل ذاتا ثورية فاعلة مرتبطة بالذات الجمعية

ختاما، قالت الباحثة إن الإضراب كأداة نضالية تم ممارسته منذ الستينات. وكان أول إضراب عن الطعام في سجن نابلس في عام 1968 احتجاجا على ممارسات الضرب والإهانة التي تمارسها مصلحة السجون الإسرائيلية ضدهم. وفي عام 1969، نفذ الأسرى في سجن الرملة إضرابًا استمر 11 يوما احتجاجا على المعاملة المهينة، واستشهد أول أسير نتيجة إضرابه عن الطعام في سجن عسقلان، وهو عبد القادر أبو الفحم عام 1970، ثم استشهد راسم حلاوة وعلي الجعفري في العام 1980 في سجن نفحة، والشهيد محمود فريتخ في سجن جنيد في العام 1984، والشهيد حسين عبيدات في العام 1992 في سجن "عسقلان".