تدوين- سوار عبد ربه
أمام جدارية تعج بالرموز الوطنية، تقف الفنانة التشكيلية فداء يونس من قطاع غزة، لتشرح لكاميرا تدوين تفاصيل لوحة تنطق بالذاكرة، لما تحمله من معانٍ ودلالات لها امتدادها التاريخي الذي يلخص القضية الفلسطينية برسمة لمسن يمسك يد حفيده، ومفتاح العودة بينهما، يرتديان الكوفية الفلسطينية، ومن حولهم أسلاك شائكة، وجدار الفصل العنصري يحيط بهما، خلفهما قبة الصخرة ومبانٍ مفرغة من ساكنيها، تحيط بها بضع شجيرات، ونبتة صبار، رموز وضعتها الفنانة في سياق التعبير عن هم يشغلها، سخرت لأجله ريشتها وقلمها وشقت طريقها النضالي من خلال الفن.
وفي لقائها مع تدوين قالت يونس، إنها تركز في رسوماتها على القضايا التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، والقضايا اليومية التي نعيشها بفعل الاحتلال، على رأسها قضية الأسرى، التهجير، وغيرها من القضايا التي أفرزتها النكبة.
وترى الفنانة التشكيلية أن الفن وسيلة للمقاومة، إذ يمكن للفنان بواسطة ريشته وقلمه أن يلخص قضية بأكملها من خلال لوحة أو جدارية توضع أمام المارة لتذكرهم دائما بنكبتهم المستمرة، من خلال التركيز على الرموز المرتبطة بالقضية الفلسطينية، وإبرازها بألوان ورسمات توضيحية بأسلوب مباشر وواضح يمكن لجميع من يراها أن يفهمها.
وتعمل الفنانة وزملائها في الخامس عشر من أيار من كل عام على رسم جدارية أو إقامة معرض يسلط الضوء على النكبة، "هذا التاريخ الذي لا يمكن لأي فلسطيني أن يتجاهله أو ينساه"، تقول يونس.
وتلخص يونس تجربتها الفنية في كونها تحمل رسالة تريد إيصالها إلى العالم، مفادها أننا باقون على هذه الأرض، ولم ولن ننسى قضيتنا وحقوقنا المسلوبة.
وترى الفنانة التشكيلة أن الفن "عبارة عن رسالة ناطقة، تصل إلى العالم بشكل سلس، خاصة إذا وثق على الجدران التي تكون في متناول الجميع، حتى السائحين الذين يتعرفون على القضية الفلسطينية بواسطتها".
ويعرف الفنان التشيكيلي شريف سرحان رسم الجدرايات بالفضاء العام أو الشوارع؛ على أنه ممارسة من الممارسات التي يستخدمها الفنان في التعبير عن القضايا اليومية سواء الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية، ذلك لإنتاج عمل فني يحاكي كافة القضايا التي تجول في خاطر الفنان.
وهذا الفن تطور بتطور الزمن، من خلال مواكبته للأداوت المعاصرة المتاحة في كل العالم، فأصبح فنا موجها ذو طابع سياسي أو اجتماعي أو ثقافي حسب الفكرة أو المؤسسة الداعمة لهذا النوع من النشاط، وفقا لسرحان.
ويوجد نوعان من الممارسات لرسم الشارع بحسب الفنان التشكيلي، الأول نوع نابع من الفنان مباشرة دون وجود تمويل لهذا العمل، وعادة ما يكون لطرح قضية معينة، وفيه نوع من التمرد على المجتمع أو الحكومة أو العادات والتقاليد. في حين أن النوع الآخر يكون موجها وفيه خطاب واضح وصريح من الجهة الداعمة للشارع.
ويرى الفنان في النوع الأول مساحة أكبر للحرية في التعبير عن الفكرة والقضية، بينما النوع الثاني فيه ضوابط ومفاهيم وأفكار تطرح لتنفيذ العمل الجداري.
وبحسب سرحان في فلسطين، يوجد علاقة خاصة بين الفنانين وهذا النوع من الفن، الذي بات يستخدم كأداة للتعبير عن الذات والتمرد ضد الاحتلال، عبر جدران البيوت والجوامع والشوارع وغيرها من المساحات التي يستغلها الفنان لوضع النصوص والرسومات عليها، كنوع من الثورة.
ووفقا للفنان، فلسطين إجمالا وقطاع غزة تحديدا هي بيئة ملهمة لكل الفنانين الفلسطينيين، لاستنباط مواضيع وأفكار وقضايا يمكن التحدث عنها وطرحها بشكل فني، بالتالي قضية النكبة، الأسرى، الحصار الانقسام، القضايا اليومية للعمال والبطالة، التعليم، الصحة، التي يرتبها الفنان حسب أولوياته واختياره، كلها مواضيع تشكل ركيزة أساسية في استنباط واستنتاج أفكاره الفنية المرتبطة بالمجتمع أو بالقضية العامة الفلسطينية في مقاومة الاحتلال.
وحول مدى تأثير الفن الجداري في تعزيز وتوثيق الهوية والرواية الوطنية الفلسطينية ومدى فعاليتها كأسلوب نضالي في الزمن الحالي وفي البدايات، قالت الباحثة سمر عزريل في لقاء مع تدوين "الجداريات هي واحدة من أهم أشكال التعبير الفلسطيني عن التاريخ الفلسطيني وفي المكان الفلسطيني، لأنها استخدمت كحيز للحديث عن فلسطين في الأماكن التي تعبر عن المأساة، وبدأت في المخيمات والحارات والشوارع والمناطق التي يعيش فيها الفلسطيني تحت الاحتلال".
وأضافت: "الجداريات مهمة، ويكفي أنها تزعج المستوطنين، والجنود لندرك مدى أهميتها، فما حدث في الشيخ جراح قبل عامين من محي وإزالة لها خير دليل، مشيرة إلى أنه عندما يقف أمامها المستوطن المغتصب للأرض في الشيخ جراح أو العسكري المحتل، تكون بمثابة سلاح موجه له، تحكي له أنني كذاكرة وجغرافيا وأرض موجود، أقاومك وأواجهك حتى في الرسمة التي تراها مؤذية وتزيلها عن الحائط".
وبحسب الباحثة الفلسطينية سمر عزريل تعد الجداريات فنا ينطق عن الذاكرة، ويعطي انطباعا مرئيا عن الهوية والخطاب الذي يتبناه المجتمع أو الشارع وهي شيء حقيقي يعبر عن صوت الناس.
وتقول عزريل "من يذهب باتجاه التوثيق بالشكل المرئي وتحويل التاريخ أو الرمز لصورة مرسومة على الحائط هم العامة، ليس الأكاديميون أو المثقفون البرجوازيون، بل هم الجمهور العام في هذا الحيز الذي يمتلكونه في الشارع، أو الحائط العام".
وأردفت الباحثة الفلسطينية: "الجداريات الموجودة على حائط في الضفة الغربية المحتلة أو على جدار في غزة التي كانت محتلة، دائما ما تشير وتذكر بوجود الاحتلال لذا لا بد من أن نرسم ونحكي ونحاول أن نعبر عن ذاكرتنا وهويتنا التي سعى الاحتلال على مدار سنوات طويلة لطمسها ومحوها".
وبالعودة إلى فترة الثمانينات، تبنت الجداريات خطابا سياسيا بالرسم أو الشعارات، وكانت موجهة في كل مرحلة، وتخاطب حدثا ما.
ففي لبنان، على سبيل الحصر، تناولت الجداريات موضوعات العصابات الصهيونية والمجازر التي حدثت في لبنان والاحتلال والأحزاب المتواطئة مع الصهيونية، لإبادة المخيمات كحزب الكتائب اللبناني والقوات اللبنانية، بالإضافة إلى الحروب التي جرت فيما بعد، وفقا للباحثة الفلسطينية سمر عزريل.
ولاحقا، أوضحت عزريل أن الجداريات تناولت شعارات تتعلق بالانتفاضة والمواجهة بين الفلسطينيين والصهاينة، ففي حينها رسم الناس عن الحجر والمقلاع، وفي الانتفاضة الثانية طوروا عليها فتناولت المقاومة المسلحة والأفكار التي تحكي عن القوات المسلحة التابعة للفصائل الفلسطينية المقاومة، ووثقت الشهداء والجرحى والأسرى، كذلك الشعارات التي تكتب في ذكرى النكبة والمجازر وذكرى استشهاد بعض القادة.
وأشارت الباحثة الفلسطينية إلى أن هذه المدرسة من الفن، تتطور وتواكب الأحداث التي تجري، كما أنها تعبر عنها وتساهم في تشكيل الهوية الضخمة للفلسطيني، مؤكدة أنها توثق المواجهة والمقاومة والمعارضة كما الضحايا، وكل شيء يسهم بشكل أو بآخر بتشكيل الوعي الفلسطيني.
وبينت عزريل أن الجداريات لا تزال تحظى في ذات القيمة فأنت عندما تمر من جانب جدارية ترى المشهد البصري الرائع بكل تفاصيله ستظل عالقة في ذاكرتك، مشيرة إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي عززت من قيمتها لأن الناس تكتب مضامينها وتنشرها.