تدوين- سوار عبد ربه
بحثا عن تحولات الفراغ وصورة المدينة العربية بشكل عام، أخذت إيناس ياسين وهي، فنانة وقيمة معارض، تعمل على إنتاج لوحات فنية، جمعتها في معرض مدن براقة الذي يقام في غاليري زاوية بمدينة البيرة، وهو واحد من المشاريع الفنية التي تعمل عليها ياسين، ضمن محاولة لمقاربة التحولات التي طرأت على المدن العربية، في فترة أواخر الثمانينيات حتى الآن، على مختلف الأصعدة، ما جعل الصورة الموجودة في الذاكرة الجمعية لجيلي السبعينيات والثمانينيات تتبدل عما كانت عليه.
وحول هذه التحولات التي تشكل الركيزة الأساسية لمجمل لوحات معرض مدن براقة، قالت الفنانة إيناس ياسين في لقاء خاص مع تدوين، إن الصورة التي تركبت في ذهن جيلي، عن المدينة، والتي رأيناها من خلال مختلف الوسائط البصرية في تلك الفترة، وما قدمته من تصورات حول المدينة والحياة بعض المدن العربية الساحلية، تختلف عما بدت عليه المدن ذاتها، فترة أواخر الثمانينيات حتى الآن، لذا جاءت هذه الأعمال لإعادة إنتاج الصور عن المدن، بناءً على التحولات التي جرت، مقارنة مع الصورة التي ركبتها فترة السبعينيات والثمانينيات، والتي عززتها الأفلام المصرية القديمة.
ومن التحولات المدينية التي استكشفتها إيناس ياسين، ظاهرة هدم مباني السينما، التي تابعتها شخصيا من خلال مراقبتها لهدم سينما الوليد وسط رام الله عام 2008، وواحد من الأحداث التي ارتبطت بهدم السينما، هو اللحظة التي جرى فيها تفريغ السينما، وظل ملصق فيلم "أبي فوق الشجرة (1996)"، موجود داخلها، ما جعلها تعتمده كنقطة مرجعية لتناول موضوع هدم دور السينما.
وعملية الهدم هذه قادت ياسين إلى تسجيل يوميات مدينتها التي تشبه إلى حد بعيد يوميات مدن عربية تنتمي للحقبة ذاتها، الأمر الذي يعكسه "أبي فوق الشجرة"، نظرا لاحتوائه على مشاهد كثيرة مصورة عند شواطئ البحر المتوسط في الاسكندرية وبيروت.
وليس هذا المشروع الأول الذي أنجزته ياسين، حول فكرة التحولات التي جرت داخل المدينة، ففي معرض سابق تناولت موضوع المباني الجديدة في المناطق الخضراء والبيوت القديمة ذات الحدائق، التي أزيلت لصالح المباني الضخمة والمراكز التجارية. وهذا كله، يأتي في سياق البحث في التغيرات التي جرت على المدينة وصورتها.
وفي هذا الجانب قالت ياسين: أنتجت مجموعة كبيرة من الأعمال، التي يتشارك معظمها في التغيرات المرتبطة بالمدينة، ففي بعض الأعمال عالجت موضوع المناطق الخضراء، وفي معارض أخرى تناولت البحر، كذلك التغيرات التي جرت في علاقة المجتمع العربي الذي يسكن على الساحل في تعامله مع حياة البحر، وهذا كله يندرج في إطار القراءة الفردية لعيني كفنانة.
وحول النتائج التي توصلت لها الفنانة، ضمن مشروع مدن براقة، الذي يحمل جانبا بحثيا وآخر فني، قالت: "إن الممارسة الفنية غير مرتبطة بإعطاء أجوبة على الأسئلة، إنما هي عملية إنتاج لمعاجلة بصرية غير موجودة سابقا، أي أنها تعمل على توسيع الحقل البصري المرتبط بموضوع بمعين، ومحاولة لعمل توليفات بصرية تؤدي لإنتاج صورة غير قابلة للوجود عبر الصور والفيديو، ولا بأي نوع آخر من صناعة الصورة".
واحد من الأعمال الموجودة ضمن معرض مدن براقة المرفق في الصورة أدناه، يبحث في مسألة المنع القهري في العلاقة مع البحر، الذي باتت تفرضه الأبراج العسكرية والمدنية على حد سواء.
وحول هذا العمل، قالت ياسين لتدوين، إنه يتناول فكرة المشهد البحري والمديني في آن معا، فالأبراج التي تعبر عن الإنشاءات الجديدة التي دخلت على المناطق العامة في المدينة، حدت من الرؤية للساحل البحري، وشكلت حاجزا بصريا، الأمر الذي يتبلور بشكل واضح في بيروت، ومن جانب آخر، يمثل البرج في اللوحة، المنع القهري والعسكري في سياقنا الفلسطيني الذي يمنعنا من الوصول إلى البحر رغم أننا نستطيع رؤيته بالعين.
وأضافت: هذا العمل هو ترجمة للحالة المرتبطة برغبة الوصول إلى شيء قريب يتمثل هنا بالبحر، في ظل وجود قوى تتدخل وتمنع، تتمثل هنا بالأبراج.
وفي لوحة أخرى عالجت ياسين، العلاقة بين البحر والحياة الاجتماعية في المدن العربية، بالاستناد إلى قصص سمعتها في بيروت، مرتبطة بعملية الخصخصة التي تعرضت لها المناطق الساحلية.
وحول هذا العمل، قالت الفنانة، إنه يناقش عملية الخصخصة للمناطق الساحلية التي كانت تحتوي على مناطق عامة، كمنطقة الروشة التي احتوت على أماكن مفتوحة للتنزه، وللعائلة، وللاحتفالات الشعبية، ثم جرت عليها عملية خصخصة ومنع وتسييج.
وأضافت: "السمكة الميتة، عمل يشير إلى النزهة التي أصبحت غير متوفرة، بفعل قوى وظروف وأسباب جعلتها غير متاحة، كما كانت عليه سابقا.
وحول انطباعات المتلقين لهذه الأعمال، عرجت ياسين على أن أبناء جيلها ممن شاهدوا الأعمال، وصلتهم الفكرة بشكل سلس، نظرا لأن الإشارات الموجودة فيها، مرتبطة بمواضيع عاشوها، ما جعلهم قادرين على ربط الأحداث ببعضها لبلوغ هدف المعرض.
أما الجيل الأصغر، فانصب اهتمامه على المسائل التقنية، وتوليفة الألوان والتضاد وعملية المعالجة والإخراج للإعمال.
أما عن تصميم المعرض، والنصوص المرافقة للوحات ودورها في شرح الأعمال، قالت ياسين، إن الهدف من هذه النصوص هو عملية غزل للخيط بين كل المشاريع، لتقدميه للناس بطريقة تمكنهم من فهم الرابط بين الأعمال، إلا أن الأعمال بمعزل عن هذه النصوص كافية وقادرة على أن تقدم نفسها بنفسها، فالنصوص تأتي لتوضيح السياق، ولوضع المشاهد في ذهنية الفنان ليعرف من أين بدأ يفكر، لكنها ليست العمل. وبهذا تبقى عملية التأويل للأعمال حق للمشاهد ليقرأها كيفما يشاء.