تدوين- تغطيات
افتتحت مؤسسة عبد المحسن القطَّان، أمس 13 أيار 2023، معرض "الحداثة الآنية: عن فبركة "إسرائيل" معمارياً"، في مقرها في رام الله، الذي يتناول علاقة المدرسة الحداثية واستغلالها كنموذج معماري في تسهيل عملية التنفيذ السريع والفوري للمشروع الاستعماري في فلسطين، لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المستوطنين المهاجرين، وترسيخ الوجود الاستعماري لقدراتها على إنشاء المدن، والتجمعات السكنية الاستيطانية الجديدة، بأسرع وقت وأقل تكلفة.
وقالت المديرة العامة لمؤسسة عبد المحسن القطّان؛ فداء توما، في كلمة افتتاح المعرض الذي يتزامن وذكرى النكبة الخامسة والسبعين: "في ظل هذه المحاولات المستميتة لمحو وجودنا، نقف اليوم أمام معرض فني يستكشف آلية أخرى من آليات محو الهوية الفلسطينية عن هذه الأرض، حيث يستخدم المعرض أرشيفاً يوثق بناء هوية دولة الاحتلال المعمارية، وموضعتها كجزء من حركة الحداثة العالمية، ليقدمها كجسم طبيعي من المنظور الغربي؛ ويصرف النظر عما تم محوه من وجودنا وعمراننا وحضارتنا".
وأضافت: "يقدم المشاركون في المعرض إعادة قراءة نقدية لأرشيفات المحو هذه، لنكوّن معاً سردية مغايرة لما أُرخ له في رواية الاحتلال، فنحن هنا أمام تجربة لتفكيك أرشيف أسس لرواية "بيضاء" لدولة تمت فبركة هويتها باستخدام العمارة والتخطيط، وأمام إعادة سرد لروايتنا التي كنا وما زلنا نعمل على جمع وعرض واسترداد أرشيفاتها المسروقة".
ويتناول المعرض من خلال أعمال خمسة وأربعين فناناً وأكاديمياً وكاتباً ومخرجاً، بالنظر إلى فن العمارة ليس كنتيجة لأجندات سياسية، بل وسيلة لفرضها، تأثير العمارة الصهيونية على المشهد البيئي والمكاني في مناطق متفرقة، فيضيء كل عملٍ على حدة على مناطق كالنقب، والصحراء بشكل عام، وجبل الزيتون، وقرية لفتا، ومخيم شعفاط، والقدس عموماً، وتل أبيب، ويافا، وعين حوض، والمنحدرات الغربية لجبل الكرمل، ووادي الصليب، وحيفا، والناصرة/الناصرة العليا، ونابلس، والجولان السوري المحتل... وغيرها، عبر قصص شخصية، وأخرى من حكايات متوارثة، أو أساطير توراتية.
وتقوم الأعمال المشاركة بتقصي واستكشاف أبعاد الهيمنة والعنف، عبر البحث في مجموعة من الصور الأرشيفية من زوايا جديدة، فتقوم بملء الفجوات بلوحات/صور أخرى أو متخيلة، تكشف خلفها عن سردية مختلفة، وتطرح قصصها لتشكيل فهمها الموازي لتاريخ المشروع الاستعماري الصهيوني المستمر، من تفشٍّ استيطاني، وتهجير، ومحو معرفي، عبر المعرض كوسيط.
في هذا السياق، يقول يزيد عناني مدير البرنامج العام في مؤسسة عبد المحسن القطان؛ وقيِّم المعرض: "يبحث هذا المعرض في آليات استخدام العمارة والتخطيط الحضري في فبركة هوية المشروع الاستعماري الإسرائيلي في مرحلة تأسيس "الدولة"، من خلال أعمال فنية تتتبع عملية توظيف الممارسات والمفاهيم العمرانية الحداثية في صناعة هوية "آنية" لهذه الدولة. فبحسب أدبيّاتها في النصف الأول من القرن الماضي، شكلت الحداثة حالة قطع عن التاريخ والتراث، نائية بنفسها عن الموروث الحضري والثقافي. وبالتالي، شكل تزامن المد المعماري الحداثي في الغرب، ووضع أساسات الدولة الصهيونية، فرصةً غير مسبوقة لبناء هوية "آنية" –فورية وسريعة- لهذه الدولة. ففي ماكينة الإنتاج الحداثية هذه، تغدو المعرفة المتراكمة على الأرض وأدواتها دون قيمة، ويصبح الموروث الشعبي بعمارته وطبيعته لا مكان له، ويصير تغريب ثقافة وتاريخ الفلسطيني، الموجود على الأرض، أمراً مبرراً".
تهيمن على الأعمال فكرة ما بعد الحالي، فتقرأ الأرشيف بعين المستقبل والتخيل، وهذا ما كان واضحاً في وصوفات مجموعة كبيرة من الأعمال التي استخدمت مفردات استشرافية بشكل مباشر (ترقب محتمل لمستقبله | يحكم الخيال هذه اللعبة | ما دون البنية التحتية للخيال | أداة لإنتاج واقع خيالي | خزعة جيولوجية مستقبلية متخيلة من هذه الأرض | أسئلة لتخيل المستقبل | رواية القصة الفلسطينية بترتيب زمني: 1948، أول الخمسينيات، الانتفاضة الأولى، المستقبل | من خلال عملية الخلط وإعادة التخيل والتجاوز)، وهو ما يشير إلى انتصار هذه الأعمال للخيال في مقابل الخرسانة المنحوتة، الجبص، الحصى، البوليستر السائل، الإسفلت ... نابعةً من شعور مسيطر بأن هذا الصرح هو صرح مؤقت.
في السياق ذاته؛ توظف الأعمال في المعرض، بشكل مركزي، مبدأ التفكيك، وأحياناً إعادة التشكيل لطبقات الصورة العامة، بإزاحة وحذف جزء من الصورة الأرشيفية، أو شرذمتها وتفتيتها، وحتى إضافة طبقات موازية زمانياً للمشهد الآني، من خلال التمعن في أدوار 3 لاعبين رئيسيين وهم الزمان والمكان والمادة، حيث تتراكب الصور الأرشيفية والصور المنتجة، لتتحول إلى شيء جديد، يفتح باباً إلى عالم جديد، ثم عالم آخر، وهكذا دواليك.
تحكي ثيمة المعرض محاولة الاستعمار القضاء على فلسطين والفلسطينيين من الزمان والمكان، فيما تحاول الأعمال فيه، أن تقوم بعكس فعل المحو، ومحوه، عبر تفكيك مخطط معقد إلى وحدات بسيطة، والحد من قوتها وهيمنتها، وتحويل ما استندوا إليه من مواد أو ممارسات في سياق الحفظ والأرشفة ذات جوهر محو وحذف وغزو، إلى ممارسة تخيلية مستقبلية، لواقع فلسطيني متحرر من الخارطة الاستعمارية، وغيرها من الخرائط، "حيث يتم ابتلاع الحدود والتقسيمات، والعقبات في خواء أبيض، ما يسمح برؤية العالم بدون هدف"، كما في عمل الفنانة يارا بامية "خريطة بيضاء".
يراكم هذا المعرض على سعي المؤسسة وبرامجها؛ إلى المساهمة في تشكيل بنية ثقافية وفنية وتربوية حيوية قادرة على إنتاج وتوليد وإثراء معرفة نقدية وتحررية، تؤسس لمجتمعٍ معرفي، يتبنى الحوار، ويقدر العلم والفن والأدب وينتجها، وذي حضور فعلي وحيوي على أرض فلسطين وفي العالم، من خلال المساهمة في تقديم أعمال الفنانين الفلسطينيين ورؤاهم لانشغالات فلسطينية وعالمية جدلية. فيما يأتي المعرض كجزء لا يتجزأ من أهداف المؤسسة العامة، وعنصر مؤكد عليها، يعمل على تحقيق بيئة ثقافية حيوية محفّزة للإنتاج المعرفي الفلسطيني الحر.
يشار إلى أن المعرض يفتتح أبوابه يومياً من الساعة 10:00 صباحاً إلى الساعة 7:00 مساءً، ما عدا يومي الجمعة والأحد. ويستمر حتى 18 تشرين الثاني 2023.