السبت  20 نيسان 2024

آن للفلسطينيين أن يستثمروا في أرشيفهم لصناعة رواية فلسطينية يُعتمد عليها كمصدر أولي للمعرفة

2023-05-18 10:07:03 AM
آن للفلسطينيين أن يستثمروا في أرشيفهم لصناعة رواية فلسطينية يُعتمد عليها كمصدر أولي للمعرفة
تعبيرية

تدوين- سوار عبد ربه 

بعد 75 عاما على النكبة، لم يعد أمام الفلسطيني ما يخسره سوى ذاكرته، التي من المهم الحفاظ عليها وإحيائها، وتسليمها للأجيال القادمة بطريقة تضمن الحقوق الوطنية الفلسطينية وتزرعها في ذاكرة الأجيال وفي حياتهم اليومية، حتى لا يتم نسيانها وقبول الأمر الواقع الذي تفرضه سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وكي لا تتسلل الرواية الصهيونية التي باتت متغلغلة ومسيطرة في الآونة الأخيرة، بهذه الكلمات بدأت الباحثة في الأرشيف الفلسطيني رولا شهوان حديثها عن أهمية جمع الأرشيف، ومتابعته.

وفي لقاء خاص مع تدوين قالت شهوان إن سلطات الاحتلال تمتلك القدرة على ترويج روايتها ذلك لأن الأرشيف والمعلومات بيدها، ومن المعروف أن الأقوياء هم من يكتبون التاريخ، ومن يمتلك المعلومات والوثائق ويسيطر عليها هو الأكثر قدرة على صياغة الرواية والتاريخ بطريقة تخدم مصالحه من وجهة نظره.

وأردفت، لذلك نرى أنه في الآونة الأخيرة يوجد إنتاج كم كبير من المعرفة من قبل الكتاب والمفكرين والصحفيين الإسرائيليين بخصوص أحداث تتعلق بالنكبة، بالإضافة لإنتاج العديد من الأفلام المستندة على وثائق ومواد مصورة موجودة بالأرشيفيات الإسرائيلية، وتم إنتاجها للحديث عن أحداث معينة ومجازر معينة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، أنتجت صانعة الأفلام الاستقصائية في "إسرائيل"، كارنيت ماندل، قبل نحو عامين، فيلما بعنوان "الغنيمة" وهو وثائقي يكشف أرشيف فلسطين المسروق من بيروت.

ويكشف الفيلم بعضا من مقاطع الأفلام التي سرقها جيش الاحتلال من أرشيف مركز البحوث التابع لمنظمة "التحرير" الفلسطينية، أثناء اجتياح بيروت العام 1982. كما يلقي الضوء على الجدار "الحصين"، الذي تشيده المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حول "غنائم الأرشيف"، بصفتها توثق التاريخ الفلسطيني منذ حقبة ثلاثينيات القرن الماضي، وتحديدا، قبل عشر سنوات من إقامة "إسرائيل".

وفي لقاء معها نشر في صحيفة هآرتس العبرية، قالت ماندل إن التسجيلات والصور، والفيديوهات المعروضة، تكشف واقعا مغايرا ومعاكسا للواقع الذي أظهرته الدعاية الإسرائيلية على مدى سنوات. فهي تقدم وجهة نظر أخرى عما يحدث في المنطقة، أي وجهة نظر فلسطينية وعربية. وأقرت بأن المواد المسروقة، كان من المفترض أن تساعد الفلسطينيين على بناء رواية تاريخية، وهوية قومية ووطنية.

وترى شهوان أن هذه المعرفة المنتجة حديثا إسرائيليا قد تتقاطع في بعض الأحيان مع الحقيقة الفلسطينية، إلا أنها في مضمونها وطياتها تعكس نظرة استعمارية كولونيالية، وإذا اطلعنا على الأمر فلسطينيا، من هذه الناحية ندرك أهمية أن نتملك زمام الأمور، مشيرة إلى أنه ليس مقبولا بهذه المرحلة أن نستمد روايتنا من مصادر إسرائيلية.

 المعرفة المنتجة حديثا إسرائيليا قد تتقاطع في بعض الأحيان مع الحقيقة الفلسطينية، إلا أنها في مضمونها وطياتها تعكس نظرة استعمارية كولونيالية

كما ترى الباحثة أنه في أغلب الأحيان أصبحنا كفلسطينيين متلقين ثانويين للمعلومات من قبل ما تنتجه المنظومة الإسرائيلية ونأخذها كقارئين وكمتلقين للمعرفة ونعتمد عليها في روايتنا لتاريخنا.

وتابعت: "من هنا تأتي أهمية الأرشيفات الفلسطينية، لذا من المجدي أن تكون هناك صحوة فلسطينية لأهمية هذه الأرشيفات، وعلى الأفراد والمؤسسات التي تقوم بجمع هذه الأرشيفات وتوثيقها، أن تنتج معرفة مبنية عليها".

وترجع أهمية جمع الأرشيف وفقا للباحث بلال شلش، لكونه "سردية تاريخية، فمن يملك أرشيفا أو يتحكم بالحجب والإتاحة فيه، يصيغ جزءًا رئيسًا من السردية التاريخية حول حدث ما، ونحن هنا نتحدث عن سرديات تاريخية مرتبطة بفلسطين وأهلها، جزء أساسي منها ما زال محكومًا من قبل السلطات الاستعمارية، فمثلاً جزء أساسي من معرفتنا عن تاريخ مقاومة أهل فلسطين المسلحة، ما زال قاصرًا على ما تقدمه السرديات الاستعمارية أو بعض المصادر البديلة، معتبرا أن هذا يتحكم جزئيًا في إعادة قراءتنا لجزء أساسي من هذا التاريخ من خلال الحجب والإتاحة الممارس من قبلها.

من يملك أرشيفا أو يتحكم بالحجب والإتاحة فيه، يصيغ جزءًا رئيسًا من السردية التاريخية حول حدث ما

وبحسب الباحث بلال شلش، جزء أساسي من قيمة هذه المبادرات ينطلق من تاريخ الإرث الوثائقي في فلسطين عمومًا، والحديث هنا عن الوثيقة بمعناها العام لا الخاص، إذ أن جل تراث أهل فلسطين الوثائقي نهب من قبل السلطات الاستعمارية الممتدة، فالبريطان نهبوا حال ما احتلوا فلسطين جزءًا رئيسًا من تراث أهل البلاد، ولما حلت ثورتهم فإن جل وثائقها الرئيسي نهب أيضًا واتلف أو حفظ في مواقع خارج فلسطين من قبل السلطات الاستعمارية البريطاني وحليفها الصهيوني، وخلال حرب فلسطين الكبرى 1947-1949 طهرت جل فلسطين من مادتها الوثائقية، سواء من السلطة الاستعمارية الصهيونية، أو من بعض الدول العربية التي أنهت خصوصًا أرشيف "القتال" كجزء من إنهائها لنشاط أهل البلاد العسكري.

وتابع شلش في لقاء خاص مع تدوين: "تاليًا امتدت معارك أهل فلسطين وتجاربهم، وبذلوا جهدًا في غير موضع وغير بلد من أجل استعادة جزء أساسي من هذا الإرث، وبناء حواضن جديدة، لكن جزء أساسي من هذه التجربة كان مصيره النهب أيضًا، خلال المعارك والحروب المختلفة، كما أن الإهمال كان أحد الأسباب الرئيسي لفقدان جزء آخر".

أما في عصر الرقمنة، فيرى الباحث أن بابا جديدا قد فتح، إذ أمكن أولا إشاعة أكبر قدر من المصادر الأولية، وثانيًا شجع دخول جل الأراشيف المركزية في العالم، كما المكتبات الرئيسة عالم الرقمنة والإتاحة المجانية، بعض المؤسسات المحلية لتبادر برقمنة وإتاحة اراشيفها، كما خلق بمرور الوقت لدى كثير من الأهالي الذين حفظوا في بيوتهم مجموعات شخصية ذات قيمة عالية على اتاحة ما لديهم، وعدم قصره على "العائلة"، لكن مع كل ما يبذل، وفي ضوء حجم هذا الإرث المنهوب أو الضائع أو المهمل المتوقع، يمكن القول إننا ما زلنا في البداية.

وفي سياق متصل، تشير الباحثة رولا شهوان أنه في وضعنا الفلسطيني، المشكلة ليست في الجمع، فهناك العديد من المؤسسات التي تمتلك الوثائق، وهناك جهد كبير يبذل في هذا السياق، وأحيانا تتقاطع أعمال المؤسسات والأفراد مع بعضها، إنما ما ينقصنا هو المعرفة العلمية بكيفية استخدام هذه الأرشيفات وإتاحتها، لأن الأرشيفات الموجودة التابعة للمؤسسات سواء الرسمية أو الخاصة غير متاحة للعامة، كما أنها غير مفهرسة بطريقة جيدة، ومحتواها ليس معروفا وغير قابلة للبحث، وهذه العوامل كلها تعيق عملية الوصول ما يجعل العملية أكثر صعوبة، ويصبح الإنتاج المعرفي المبني على هذه الأرشيفات أمر صعب.

ما ينقصنا هو المعرفة العلمية بكيفية استخدام هذه الأرشيفات وإتاحتها، لأن الأرشيفات الموجودة التابعة للمؤسسات سواء الرسمية أو الخاصة غير متاحة للعامة

وتعتبر شهوان أن إنتاج معرفة مبنية على الأرشيفات بات أمرا ضروريا على الباحثين أن يولوه اهتماما بالمستقبل القريب حتى نتمكن من صناعة رواية فلسطينية نعتمد عليها كمصدر أولي للمعرفة ولكتابة التاريخ  بدلا من الاعتماد على المصادر الإسرائيلية. 

في مفهوم الأرشيف 

وعرجت شهوان في حديثها على الفرق بين الأرشيف كمكان يجب أن يكون منتجا للمعرفة، وبين الأرشيف كمخزن، إذ أن الأول يحتاج إلى جهود من المؤرخين والباحثين والأكاديميين، في حين أن الثاني يقتصر دوره على التخزين فقط ولا يندرج تحت مفهوم الأرشيف بمعناه الفعلي.

وتعرف الباحثة الأرشيف أنه كل ما يتم حفظه وترميمه وجمعه وإتاحته، والإتاحة هي العنصر الذي يفرق بين الأرشيف كأرشيف وبين المخزن كمخزن، فإذا كان هناك تصنيف وتقييم ورقمنة وإتاحة لهذه الأرشيفات أو الوثائق يصبح الأرشيف فاعلا ومن هنا نستطيع أن نميز بين ما يطلق عليه مكان لحفظ الأرشيف والوثائق وبين ما نعتبره مخزنا لهذه الوثائق وما بين الأرشيف الذي يستطيع الباحثون من خلاله الوصول لهذه المعلومات والبحث فيها، والتأكد من صحتها وربطها بوقائع تاريخية وبالحياة المجتمعية وإعطائها معنى.

الأرشيف هو كل ما يتم حفظه وترميمه وجمعه وإتاحته، والإتاحة هي العنصر الذي يفرق بين الأرشيف كأرشيف وبين المخزن كمخزن

وبالتالي يصبح دور المؤرخ والباحث هو الحفر في هذه الأرشيفات والبحث بشكل عميق فيها لإخراج الحقيقة والرواية الأصلية كما كانت، وفقا للباحثة.

من جانبه، يرى الباحث بلال شلش أن المادة المتاحة اليوم مادة هائلة، تحتاج جهدًا هائلاً قد يستمر لسنوات تالية من أجل الاستفادة منها في إنتاج معرفة جديدة، بكل تأكيد هناك أضعاف هذه المواد ما زالت محجوبة لأسباب مختلفة، إلا أن الانتظار هنا، انتظار بلا جدوى، والأولى الاشتغال على المواد القائمة وبذل الجهد فيها، اشتغال بحثي مؤسس على قراءات بأسس منهجية، تنطلق للإجابة على إشكالات محددة، تأذن بتقديم قراءة تاريخية جيدة وإن غاب جزء أساسي من المصادر الأولية الممكنة، وأخيرًا يتوجب التأكيد على ضرورة أن تكون مثل هذه القراءة مستندة إلى كافة المصادر الأولية الممكنة، وهذا ما يأذن به ويشجع عليه مناهج العلوم الاجتماعية المختلفة اليوم، المؤسسة على تداخل العلوم والمناهج.

وترى شهوان أننا كفلسطينيين مطالبون برقمنة أرشيفنا وتحويله من أرشيف مخزن إلى أرشيف حيوي وحي له صوت يستطيع الباحثون الاعتماد عليه، وكذلك تشجيع الطلاب في الجامعات الفلسطينية لعمل أبحاث ومشاريع بناءً على هذه الأرشيفات من أجل تعويد الطالب وإعطائه الفرصة للاعتماد على هذه الأرشيفات كمصدر أولي للمعلومات، ومن أجل تعريف البحث العلمي، لأنه لا يكفي الاستناد إلى مصادر وكتب ومعارف، فهناك مصادر أيضا أولية يمكن الاستناد عليها لبدء فرضيات جديدة أو لإنتاج معرفة جديدة غير موجودة من السابق أو لإثبات حقائق تاريخية مشكك بها في بعض الأحيان من قبل المنظومة الإسرائيلية.

كما ترى أننا بحاجة للبحث عميقا في هذا الأرشيف وتنمية الوعي لدى العامة ولدى الأكاديميين والباحثين والطلاب بأهمية هذه المواد وأهمية الاعتماد عليها في إنتاج معرفة. 

دور المؤسسات

وعملت شهوان في مجال الأرشيف لسنوات عديدة وكانت جزءا من المؤسسة الرسمية الممثلة في تلفزيون فلسطين وكذلك في وزارة الثقافة، ثم انتقلت إلى العمل في الجامعات في هذا المجال، لذا عايشت التجارب والمبادرات المختلفة المعنية في هذا الجانب، سواء على مستوى المؤسسات الرسمية أو المدنية أو الأفراد، وخلصت من خلال تجربتها إلى أن مشكلة الأرشيف في الحالة الفلسطينية هي مشكلة وعي. 

وفي هذا السياق قالت شهوان "إذا قارنا أنفسنا كفلسطينيين مع دولة الاحتلال، نجد أنه قبل تأسيس الكيان، كان هناك أرشيف للحركة الصهيونية وتم نقله من ألمانيا إلى القدس، وتم تأسيسه كبداية للتحضير للدولة الصهيونية، ما يشير إلى وجود تخطيط ووعي لأهمية مسألة الأرشيف من قبل الاحتلال، ذلك لأن الأرشيف يصنع الهوية ويؤسس لماضي وحاضر ومستقبل لأي دولة يمكن أن تكون ناشئة ويعطيها السمة التي تميزها عن أي دولة أخرى.

إذا قارنا أنفسنا كفلسطينيين مع دولة الاحتلال، نجد أنه قبل تأسيس الكيان، كان هناك أرشيف للحركة الصهيونية وتم نقله من ألمانيا إلى القدس، وتم تأسيسه كبداية للتحضير للدولة الصهيونية، ما يشير إلى وجود تخطيط ووعي لأهمية مسألة الأرشيف من قبل الاحتلال

بينما السلطة الفلسطينية لم تهتم بالأرشيف بشكل كبير، وفقا للباحثة، وانصب اهتمامها وعملها على المؤسسات والبنية التحتية ومواضيع مختلفة، مشيرة إلى أن الاهتمام حتى اللحظة من قبل صناع القرار لم يرتق إلى المستوى المطلوب، وكذلك من قبل الأفراد، وهذا يعود لعدة أسباب بينها الاعتقاد السائد والصورة النمطية حول العاملين في مجال الأرشيف بأنه لغير المتعلمين، وللناس الأقل حظا، وأصحاب الشخصية الانطوائية.