السبت  20 نيسان 2024

"الشر والوجود" أن تكون كثيرا في كيانك المفرد

2023-05-23 09:14:45 AM
فيصل دراج في كتابه عن نجيب محفوظ

تدوين- عاطف محمد عبد المجيد

تصرف نجيب محفوظ بحياته حرًّا، ولم يدع "عبث الأقدار" يتصرف به وبقي، في الحالين، نجيبًا وطليقًا ووجها تاريخيا من وجوه الإبداع الإنساني. أنجز في مساره الطويل "علم جمال الحقيقة " وملحمة الشغف الكتابي النبيل.

هذا ما يقوله الدكتور فيصل دراج في كتابه "الشر والوجود.. فلسفة نجيب محفوظ الروائية" الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، وفيه يذكر كذلك أن نجيب محفوظ قد اختار مبكرا ما يلبي إرادته الحرة وملأ به حياته، وأخلص لذاته وللكتابة الروائية معا. أعطى درسًا نبيلا في الإخلاص المبدع، أعاد به تأسيس الرواية المصرية والعربية، وأعطى إبداعه ولادة متجددة، جعلته من أعلام الرواية في القرن العشرين.

يرى فيصل دراج أن محفوظ قد احتفى بداية بالتاريخ المصري القديم، وتابع دروسه في جامعة فؤاد الأول متابعة مؤرخ محترف، وترجم كتاب مصر القديمة لجيمس بيكي، وأراد أن يوزع تاريخ مصر على خمس وثلاثين رواية. كان آنذاك طالبا لامعا في كلية الفلسفة، شاء أن يضئ أسئلة الفلسفة بإجابات التاريخ، وأن يقرأ التاريخ قراءة فلسفية، كما يذكر أن بين روايته الأولى عبث الأقدار وروايته الأخيرة قشتمر، خمسون عامًا، ومتواليات من الأشكال الروائية، لم تستنفد متخيله الخصيب، وأضاف إليها القصة القصيرة والمسرحية وأشكالا قصصية خاصة به، مشيرًا إلى أن محفوظ كان قد استهل الكتابة بعمله القصصي همس الجنون، وجمع فيه بين وضوح الحياة وغموض الوجود، مثلما يرى كذلك أن محفوظ أكد أن للرواية ذاكرة وطنية، وتساؤلا فلسفيًّا واسعًا، أوغل في تبيان غطرسة الإنسان وتداعيه، كما حاور في ثلاثيته الرواية الكونية في أكثر أشكالها ارتقاء، كما لو كانت جنسا أدبيا يجمع بين التاريخ وعلم النفس والاجتماع والفلسفة. فيصل دراج، متحدثًا هنا عن نجيب محفوظ، يقول: روائي بديع الأطوار، شغف بالتاريخ ودرس الفلسفة، وكان بارعا في مادة العلوم واحترف الكتابة الروائية، ورأى فيه عارفوه لاعب كرة قدم واسع الخطوة، وقرأ يولوسيس جيمس جويس بالإنجليزية وأعمال أنا تول فرانس بالفرنسية، وانتظر طويلا ثورة مصرية وابتعد عنها، واعتبر العلم أكثر أهمية من الأدب، وعمل طويلا ككاتب سيناريو سينمائي، وتعرف على روايات جورجي زيدان وطه حسين ورواية العقاد الوحيدة، سار إلى مثال غامض لا يعرفه إلا هو، كان كثيرا في كيانه المفرد، ومفردا لا ينصاع إلى الكثير، محا المسافة بين حاضر المحكومين وماضيهم، وأبصر مدينة فاضلة لن تأتى.

العمل الأكثر تميزا

هنا أيضًا يشير الكاتب إلى أن محفوظ تناول في روايته الأولى عبث الأقدار وحدة الحرية والعدالة، وأخلص لها في حياته قدر ما استطاع، واختار الجنس الروائي وكرّس له حياته، وأكد أن الرواية كتابة تقاوم ما يضطهد الإنسان وما يمنع عنه حقه في حياة طليقة مما يصل إليه المؤلف هنا هو أن نجيب محفوظ قد ثابر بنسب متفاوتة في كتاباته الروائية على تقنية المفارقة، وأنتج بها خطابا روائيّا، اقترب من قاعدة تكاد تقول: لا رواية بلا مفارقة، ولا مفارقة بلا ضدين يتنافيان لا مصالحة بينهما، وأفصح عن نظر حداثي ملتبس يعترف بالصدفة ويقطع اليقين، يهمش إرادة الإنسان ويعلي من سلطة الأقدار. هنا يصف فيصل دراج ثلاثية نجيب محفوظ بأنها العمل الأكثر تميزا في تاريخ الرواية العربية، مرآة لمنهج محفوظي في الكتابة صّير الإتقان عقيدة استولد الزمن من مكانه، واشتق الشخصيات من تجاربها في المكان، وعطف عليها أقدارا متعددة الاحتمالات، مضيفا أن نجيب محفوظ قرأ في رواية الأجيال سطوة الزمن التي تشهد على الحزن والفرح والصحة والمرض والنجاح والإخفاق واتساع وضمور، وقرأ فيها تعددية إنسانية متنوعة الطبائع، ففي كل إنسان حكاية تسرد مآله، ولكل حكاية إنسانها المعطوب. كذلك يقول المؤلف إن هناك تشابهات كثيرة تصل نجيب محفوظ بالفرنسي بلزاك، إذ أراد الثاني أن يكون سكرتيرًا للتاريخ، يوثق ويسجل ما دار عقب الثورة الفرنسية، وتطلّع نجيب محفوظ في طور من حياته إلى كتابة تاريخ مصر بشكل روائي مستأنسًا بثورة 19 الكبرى، اشتعلت وانطفأت سريعا، ذاكرا أن نجيب محفوظ ترك بناء شاهقا من الحكايات والصور والأشكال والأساليب، ودرسا واسعا في الاجتهاد والحكمة، مؤكدا أن الاثنين، بلزاك ونجيب محفوظ، قد برهنا على أن التاريخ الأدبي للمجتمع أكثر وضوحا من التاريخ الاجتماعي للأدب.

علامات النجباء

أيضا يقول فيصل دراج إن في روايات نجيب محفوظ كلاما يستأنف كلاما سبق، يتابع مواضيع واظب على تأملها في سياقات متجددة، شر السلطة، هشاشة الإنسان واغترابه، وغموض الوجود المشبع بالأسرار. يتضمن التكرار بحثا عن حقائق هاربة، تكاد تقول إن التكرار العارف لغاياته من علامات النجباء، ذلك أنه يقضى بتوليد أشكال جديدة للقول، كما يقول تتعين الكتابة الروائية عند نجيب محفوظ تجربة في سبر غور الإنسان، تستتر وراءها تجارب متسائلة، تكشف وتغّيب، تضيء وتخدع، تعري وتمعن في الأسئلة، مؤكدة أن الإنسان موضوع ملغز ألقي في وجود لا يرحب به.

وبعد رحلة غوص ودراسة وتأمل في الرواية المحفوظية يقول فيصل دراج إن الأدب يظل في أشكاله المختلفة حلما يتصرف فيه الأديب كما يشاء، والأحلام لا تعرف طريقا مستقيما إلى اللغة، ولعل تصرّف الأحلام باللغة هو ما يستقدم الخصام بين الفلاسفة والأدباء، دون أن يصلا إلى قطيعة، بل ترابطهما يشتد كلما تصاعدت غربة الإنسان، وبدا العالم المتقدم معقدا يثير الرعب قبل أن يوقظ الإدهاش، مؤكدا في الأخير أن نجيب محفوظ قد قرأ القرن العشرين وتأمل فيه السياق الذي عاشه، وانتهى إلى رواية فلسفية خاصة به.

يقول فيصل دراج إن في روايات نجيب محفوظ كلاما يستأنف كلاما سبق، يتابع مواضيع واظب على تأملها في سياقات متجددة، شر السلطة، هشاشة الإنسان واغترابه، وغموض الوجود المشبع بالأسرار

كما يثبت كذلك أن، رواية تصف الواقع، وترسم شقاء الإنسان، ظاهرا كان أم مستترا، لا علاقة لها بالتحريض أو بالتعويض، تتوجه إلى قارىء تعترف به تقاسمه قلقه وتحاذر طمأنينة لا مبرر لها، ففي الإنسان والمجتمع والحياة والوجود ألوان مختلفة من الشر.

لقد كتب نجيب محفوظ، يقول المؤلف، رواية من أجل إنسان يتمتع بالعدل والحرية، قادر على بناء مدينة فاضلة دنيوية، وقد أكد في روايته أنه على الإنسان أن يذهب مجتهدا إلى مدينة عادلة، لن تأتى إليه وحدها، لأنها تتويج لدلالات الحرية والعدالة والمساواة، التي هي آية على توق إنسان قديم، إن تقدم قليلا، عاد وتراجع أكثر.