تدوين- ثقافات
ألقيت هذه الكلمة في حفل التخرج في جامعة بيرزيت لسنة 1996.
كنت هنا، منذ قليل، في أول لقاء على هذه الأرض، يجمعني بما كان فيّ من أمس، وبما سيكون عليّ أن أكونه، في غد، بعد قليل.
في ساحة مجاورة لهذه الساحة، في ساعة الغروب ذاتها، شاهدت على مرأى منكم، وربما على أيديكم، صورة ولادة معنوية جديدة لشاعر لم يألف أن يولد مرتين، وإن ألف أن يموت أكثر من مرة، على طريق العودة إلى البيت.
لا أحد يعود، لا أحد يعود تماما إلى من كانه وإلى ما كان فيه. لا أحد يعود إلا جماعة أو مجازا. ومجازا عدنا. فنحن في حاجة رمزية إلى تحميل عودة الأفراد بمدلولات عامة، فلعل ربيعا ما، حقيقيا أو متخيلا، يندله من جناح سنونوة واحدة.
لا لشيء نكابد هذا الفرح الصعب، إلا لاستنباط ما هو جوهري أكثر: عودة الروح الدائمة إلى الإرادة الضرورية لمواصلة السير الشيق إلى أرض الغد، لنتمكن من اجتراح معجزتنا الوطنية في تحريك هذا الحاضر من المكانة التاريخية المعدة له، بكل ما في القوة من حماقة وخرافة، للثبات في المعنى الجامد، وللقطيعة مع الزمن المتحرك.
ولا شيء في حياتنا جدير بأن يكرم سوى حقنا في حياتنا ذاتها... حياتنا التي كدنا أن ننساها في زحام البحث عن معنى خارجها. وكان خارجها كثيرا، إلى حد خُيل لنا، معه، أن الوطن قد هاجر، فلم نكد نعرف هل نحن هنا أم هناك. وها نحن قادرون على الافتتان بحقيقة واحدة: ما زال المكان في مكانه!
لا شيء في حياتنا جدير بأن يكرم سوى حقنا في حياتنا ذاتها
لعل الحيرة هي الوصف التقريبي لحالتنا الذهنية الراهنة المحرومة من مرجعية المقارنة. إذ يُراد لنا أن ننخرط دفعة واحدة، في مختبر الوعي التجريبي الذي لا يعود بالصراع على الوعي إلى أية معايير، سوى نزعة الآخر للتحكم في نسيج وجودنا، وفي صياغة مصيرنا بطريقة لا تفتقر إلى العدالة فحسب، بل تحفل بكل عوامل التغييب الكامل للذات، ذاتنا، عن ذاتها.
إن الانتقال المفاجئ من مرحلة تاريخية محددة إلى مرحلة شديدة الغموض، يغيب فيها جوهر السلام عن عملية السلام، وتسود فيها انقلابات المعاني والمفاهيم بطريقة فوضوية، هو ما يدفع الوعي العام إلى عذاب الحيرة، ولكنه لا يعطل حيوية نشاطنا الثقافي ويهمشه كما يقول المتشائمون منا، بل يعود به إلى أسئلته المبدئية، وربما التقليدية حول علاقته بالواقع.
ليس هذا الواقع في حاجة إلى المزيد من الشكوى والهجاء، ولا يستحق بالطبع أي ثناء. وليس من الطبيعي أن ننصرف الآن، إلى أسئلة التطبيع القصوى مع شيء أو أحد، وإلى الاستجابة للمطالبة بتطهير الذاكرة مما علق بها من لغة الصراع، وإلى تعديل حبكتنا التاريخية في اتجاه الاعتذار عن سيرتنا، ما دام الاحتلال، المعلن والمبطن، الرسمي والعلني، جاثما على حياتنا، وما دامت المستوطنات تقطع جسد الأرض وتبتلعها، وما دام الحصار يهبط بنا من سؤالنا الوطني إلى بدائية الوجود، وما دمنا محرومين من ممارسة حقنا المقدس في السيادة والاستقلال والحياة الإنسانية العادية.
فليس السلام سجنا أو معسكر اعتقال.
وليس السلة نقابة وطنية لإدارة شؤون السجناء.
وليس الوطن مشهدا طبيعيا للزيارة العابرة.
لقد مشى الفلسطيني طويلا على درب الآلام لبلوغ السلام الحقيقي العادل الذي يوفر له، وللآخر، شروط الحياة الإنسانية والوطنية والإبداع الحر، وقبل مبدأ التعايش المتكافئ على أرض وطنه التاريخي، استجابة لعملية التطور التاريخي الدامية التي جعلت من هذا الوطن بلدا لشعبين، بعدما دفعت بالشعب الفلسطيني إلى إحدى أكبر المصائر التراجيدية في هذا العصر.
ومن دون أن تأنس الضحية إلى قدرها، وتصاب بداء التنافس على المكانة العالمية للضحية، كما فعل سواها، لتبرير خروجه على المعايير الإنسانية العامة، وتجريد ضحيته من مكانها ومن اسمها لتبرير الإمعان في إنكار وجودها، والاحتفاظ لنفسه باحتكار صفة الضحية التي أعطت لنفسها الحق، في أن تكون جلادا مدججا بالسلاح النووي وضحية في آن.
من دون أن تأنس الضحية إلى قدرها، وتصاب بداء التنافس على المكانة العالمية للضحية، كما فعل سواها، لتبرير خروجه على المعايير الإنسانية العامة
ومن دون تقمص هذه النفسية وهذه العقلية، أشهر الفلسطيني الأمل في وجه الألم وخاض معارك الدفاع عن اسمه وهويته وتاريخه وبلاده، ليحل البطل فيه مكان الضحية وليتمكن من تحقيق وجوده الإنساني العادي في وطنه البسيط.
فهل تتيح ظروف هذا الواقع المأساوية له بأن يتعايش مع ذاته الإنسانية المنتقلة من صورة الضحية إلى صورة البطل إلى صورة العادي؟
لا عودة إلى الوراء، ولكن، من أين لنا القدرة على جعل العدو، الذي حولنا إلى خصم، شريكا لنا في مواصلة السير إلى أمام؟
تلك هي معضلتنا، ولكن في هويتنا الحضارية ما يكفي لوضع هذا الحاضر في مكانته من التاريخ وفي تجربتنا الوطنية الخاصة ما يحفزنا على الإيمان العنيد، بأن من استطاعوا الصمود الفذ في معارك الدفاع عن هويتهم ووطنهم في الحروب الخاسرة، قادرون على الإمساك بمستقبلهم في السلام الخاسر، فنحن لسنا قلعة محاصرة إلى الحد الذي يتصوره الآخر، نحن جزء من محيط شاسع تشكل القدس موضع القلب فيه، وفيه من عناصر القوة الكامنة ما يعيد إلى عملية السلام ما تفتقر إليه من مبادئ العدل والمساواة والحرية.
ومهما كانت الحيرة، أمام هذا الواقع، متأرجحة بين النصف الفارغ أو الملآن من الكأس فليس في وسع الثقافة أن تعيد النظر في طبيعتها ودورها. فيما هي معرفة، هي عامل أساسي في تكوين الوعي ومن هنا مكانتها في التعامل مع الواقع لا انسجاما ولا تريسا، بل إسهاما في نشر الوعي الجماعي بضرورة تغييره، ولست هنا لأشيد بدور مثقفينا، وجامعاتنا وبخاصة جامعة بيرزيت، في الدفاع عن ثقافتنا القومية وعن تحصينها ضد أخطار التشكيك بالذات، ولكني أود الإشارة إلى سعة المجال التاريخي الذي ينبغي على مشروعنا الثقافي أن يتحرك فيه، وهو مطالب بالامتداد على رقعة مجالات معرفية شاسعة في مقدمتها: حماية ذاكرتنا الجماعية، وحقنا في سرد روايتنا التاريخية، والدفاع عن وعينا التاريخي، وتطوير آليات التعبير عن انتمائنا القومي والإنساني، وتعميق ثقافة الديموقراطية والحرية والكرامة، ومفاهيم حقوق الإنسان.
إن طبيعة أية ثقافة أصيلة، باعتبارها وطنية وإنسانية في آن، تجعلها قادرة على صيانة خصوصيتها وهويتها في الوقت الذي تتفاعل فيه وتتحاور مع الثقافات الأخرى التي تكون بمجموعها الثقافة العالمية.
ومن هنا فإنها قادرة على التمييز بين ما هو إنساني وما هو عنصري في ثقافة الآخر، وعلى إدراك المشترك الإنساني الذي آن لنا أن نطور وسائل حضورنا الحي فيه، من موقع خصوصية متحررة من عقدة النقص ومن عقدة الانغلاق معا.
لا نريد أن نكون أبطالا أكثر.
ولا نريد أن نكون ضحايا أكثر.
لا نريد أكثر من أن نكون بشرا عاديين.
محمود درويش.