الخميس  25 نيسان 2024

رولان بارت ونزعة ما بعد الحداثة

2023-05-31 10:11:58 AM
رولان بارت ونزعة ما بعد الحداثة
رولان بارث

تدوين- ترجمة- د. مصطفى بيومي عبد السلام

مقالة لـ: طوني ثويتس

رولان بارت بنيوي فرنسي ومفكر ما بعد بنيوي، ناقد ولغوي وسيميوطيقي (1915-1980) تعد حياة بارت الفكرية والمهنية نموذجا مثاليا لنزعة ما بعد الحداثة. فيما يقرب من ثلاثة عقود، يتحرك بارت عبر التيارات الفكرية والمهنية الرئيسية في عصره ومكانه "بيئته" ويفعل ذلك بطريقة مميزة تماما في أغلب الأحيان. وعلى الرغم من أنه لا يذكر أسماء معاصريه، فإن دَينَهُ وتقديره واحترامه لهم كان واضحا، فهمله حيا بأفكارهم وحافلا بها، يرددها ويأخذ منها ويتوقف أمامها ويلعب لها ومعها ببراعة أسلوبية متقنة تشير إلى سمة بارت المميزة.

في كتابه: رولان بارت، وهو أحد كتبه الأخيرة، يقدم وجهة نظره الخاصة في حياته المهنية والفكرية في تلك المرحلة (b1977:145) لقد بدأ مثل الكثير من جيله بوصفه سارتريا (نسبة إلى سارتر) وماركسيا على نطاق واسع، ولكن بحلول وقت كتابه" أسطوريات 1972.1957" الذي دفعه أو حمله لأول مرة ناحية الإعلام العام، أصبح مشروعه من أكثر المشاريع البريختية (نسبة إلى بريخت) التي تعمل على التنوير الإيديولوجي للمألوف أو المعتاد. جمع كتاب: أسطوريات سلسلة من القطع القصيرة التي كان يكتبها بارت بانتظام لمجلة الأدب الجديد، تدور حول أشكال الثقافة الشعبية (إعلانات مساحيق الغسيل والسمن، شارلي شابلن، تصوير الطعام، عقل آينشتين، المصارعة، وغيرها) وختمها بمقال جديد طويل بعنوان "الأسطورة اليوم". هذا المقال يشكل بدوره شيئا مختلفا إلى حد ما: غزوته الكبرى الأولى في الفكر البنيوي، ومحاولته لتصور سيموطيقا عامة قد تكمن عادة وراء التحليلات الانطباعية للقطع التي سبقته. على مدى العقد التالي، فإن بارت سيتبع هذا الكتاب ببعض النصوص الكلاسيكية للبنيوية" عناصر السيمولوجيا (1967.1964) وهو كتاب المبادئ الأولى ومقدمة للتحليل البنيوي للسرد ونظام الموضة ومنهج تلك النصوص، كما يبدأ بالقول في دراسته أو مقالته عن السرد، يتحرك من أعلى إلى أسفل: لأنه يستحيل ببساطة أن ندرس جميع المسرودات والعمل صعودا للوصول إلى توليف استقرائي، إننا نبدأ بإجراء استنتاجي، يلزم أولا بوضع نموذج إفتراضي للوصف أو إبتكاره (ما يسميه أو يطلق عليه اللغويون الأمريكيون "النظرية") ثم تدريجيا العمل من هذا النموذج نحو الأنواع السردية المختلفة التي تتوافق مع النموذج وتغادره في الحال. (Barthes, 1977:81).

إن الخطر في مقاربة مثل هذه يمكن أن يكون استباقيا Pre-emptive فمقالته عن السرد (مقدمة للتحليل البنيوي للسرد) لا تزال إيعازية أو إسترشادية مع توليفها الفضفاض لجميع الأعمال الحديثة في إطار العمل من أجل الوصول إلى الكمال والإتقان. لكن نظام الموضة يبدو الآن بشكل خاص وكأنه طريق مسدود: أي يبدو أن كل خطوة محتملة موجودة بالفعل في "الهذيان العلمي البسيط" لمجموعاتها، كما سيصفها لاحقا، ولذا لدينا هذا الشيء الغريب والمتناقض، كتاب شامل ومرهق عن الموضة لا يمكن أن يقول شيئا على الاطلاق عن الجديد.

في الوقت نفسه الذي ينتج فيه هذه التحليلات البنيوية الدقيقة، يعمل "بارت" أيضا على سلسلة من الكتابات التي تتخذ اتجاهات مختلفة تماما، على وجه الخصوص، هناك مقال الجدل المعروف: "موت المؤلف" 1968 والمقال المختصر والغني "من العمل إلى النص" 1971، والكتاب الاستثنائي S/Z 1970 . في هذه الدراسات، نرى بارت ينتقل من البنيوية إلى ما سيصبح تعددا لاستقصاءات ما بعد البنيوية (نزعة ما بعد البنيوية).

S/Z  هو كتاب طويل ينطوي على قراءة بطيئة الحركة لقصة بلزاك القصيرة "ساراسين" ويبدو للوهلة الأولى وكأنه شكل خاص إلى حد ما من البنيوية. يبدأ بارت بالقول إنه سيقسم النص إلى "سلسلة من الأجزاء المختصرة والمتجاورة" والتي يسميها الوحدات القرائية، لكن هذه الوحدات القرائية ليست تركيبات مثل الجمل، نتاج تطبيق قواعد النحو على المفردات. بعبارة أخرى، فهي ليست بنيوية، ولم يعد هذا سيميوطيقيا تماما. هناك شيء تعسفي تماما عنهم "أحيانا بعض كلمات وأحيانا عدة جمل" أيهما يعمل بشكل أفضل وكما يوحي الاسم فإن هذه القطع ذات الحجم الصغير تشبه إلى حد كبير التجميع الذي يقوم به المرء أثناء القراءة أكثر من كونها وحدات بنيوية. سيكون اللعب عبر كل من هذه الوحدات القرائية شفرات عديدة. عندما يتعلق الأمر بطرح سؤال في السرد، أو التعبير عنه بملامح أخرى، أو التأجيل أو إعطاء إجابة فإن بارت يقترح مصطلح الشفرة الهرمنيوطيقية، وعندما يشيرون إلى هيئات معرفية مشتركة فإن لدينا شفرة ثقافية أو معرفية، وهلم جرا. ومرة أخرى هذه الشفرات ليست بنيوية أيضا: فهي ليست وحدات يتم تجميعها معا في النص، أو قواعد لتجميع الوحدات معا، فهي تسمى فقط مجموعات التأثيرات التي تحتوي عليها كلمات النص، والتوجيهات التي تشير إليها، ويضيف أن خمسة من أسماء بارت هنا ستكون كافية لهذا الاسم. ومن المفترض أنه إذا كنا نصف نوعا تلفا من النص تماما- ورقة علمية، على سبيل المثال، أو تشريعا، فسنجد أنه من المفيد إدخال نصوص أخرى، وقد لا نحتاج إلى النصوص الخمسة الأصلية كلها.

ما يسمح به هذا الجهاز المتحرك والمرن لـ بارت هو تتبع التقلبات غير المتوقعة للقصة، التي أخذت زوجا من الوحدات القرائية في وقت واحد مع تعليقات قصيرة متداخلة، بدلا من التركيز، كما فعل في المقالة البنيوية السابقة، على الطرق التي يمكن أن ينظر من خلالها إلى هذه القصة على أنها نتاج نظام رسمي يمكن أن يولد قصصا بكل تنوعها، فإن S/Z يهتم بالتفرد المطلق لهذه القصة الواحدة على وجه الخصوص، بالكشف التدريجي لها عبر وقت قراءتها. يميز بارت بين ما يسميه نص القراءة ونص الكتابة، في الأول يتم التعامل مع القارىء بوصفه مستهلكا، وفي الأخير بوصفه منتجا مشاركا نشطا للنص. من المغري أن ننظر لنص القراءة على أنه روتين مألوف للرواية الواقعية، مع كون نص الكتابة هو المطالب الأكثر صرامة للنص الطليعي ومع ذلك فمن الأدق القول إن هذه ليست طريقة لتصنيف الموضوعات الأدبية (يعمل نص القراءة على رف واحد ويسهل الوصول إليه، ونص الكتابة على الرف الذي يصعب الوصول إليه إلى حد ما) ولكن بوصفه نوعا من الرؤية البصرية لأي موضوع أدبي، انظر إليه بطريقة ما، وقد يكون واقعيا مألوفا للقارىء، لكن أنظر إليه بطريقة أخرى ولديك شيء مختلف تماما وغير مألوف.

وبالفعل، هذا ما وصلنا إليه هنا. يعد بلزاك بعد كل شيء، مثالا لنمط مألوف من الواقعية الأدبية وهو مؤلف معتمد (أساسي) يدرس في المدارس، على الرغم من أنه من غير المحتمل أن يختار أي منهج هذه القصة بالذات، ومع ذلك، بمجرد قراءة S/Z هو "ساراسين" الغريب أو الشاذ بشتى الطرق، إذا كان جزء مهم من الراحة التي يقدمها نص القراءة هو إدارته المطمئنة للاختلاف الجنسي ( وما يسمى بـ "حبكة الزواج" هو في النهاية أحد الأنواع الموجودة في قلب الرواية الكلاسيكية، فإن S/Z يظهر "ساراسين" الذي تنفجر فيه الهموم، نرى في ذلك العنوان، حيث لدينا حرف S  أنثوي الذي هو مع ذلك الحرف الأول لرجل، ساراسين الساذج الذي يأتي إلى روما ليتعلم كيف يكون نحاتا  والمذكر "Z" الذي يشير إلى اسم زامبينيلا صاحبة الصوت الجميلة التي وقع في حبها في أول ليلة له في الأوبرا، وبينهما في قلب القصة، لدينا شرط الإخصاء لأنه في براءته لم يدرك ساراسين أنه في هذا الوقت لا تزال جميع الأجزاء النسائية على المسرح الإيطالي تغني من قبل كاستراتي (المخصي) لأن الكنيسة لا تسمح للنساء بالوقوف على المسرح، إنها أيضا ضربة الموت، موته، لأنه عندما يكتشف الحقيقة سيحاول ساراسين أولا أن يقتل زامبينيلا، ثم نفسه، فقط ليتم قتله بضربة السيف من الكاردينال الذي هو عاشق وحامي زامبينيلا، ولمضاعفة الأشياء في السرد الشارح يتم تأطير القصة بأكملها من خلال السرد من منظور الشخص الأول _ السرد بضمير المتكلم) لإغواء فاشل من الجنس المتباين في حفلة فخمة ينهار كل شيء عندما يروي الراوي قصة ساراسين لرفيقته، بعد أن لفت نظرها إلى دخول شخصية جديرة بالملاحظة، لا شيء سوى زامبينيلا القديمة جدا والتي لم تعد جميلة، إن ما يخططه ساراسين في ظل قراءة بارت الصبورة والمذهلة هو موت السرد نفسه، الذي لا يكمن في جوهره حل زواج الأضداد أو التكميلات، بل إستحالة العلاقة الجنسية كما يقول لاكان مرارا وتكرارا، "سرديات العالم لا تعد ولا تحصى" كما ينص السطر الأول من "مقدمة في التحليل البنيوي للروايات" وإذا كان التحليل البنيوي للسرد يشير إلى وفرة نظام قادر على توليد تنوع لا نهائي، فعندئذ مع S/Z يتكاثر السرد بسبب خفض الاختلاف غير القابل للإختزال في قلبه.

تتحول كل أعمال بارت اللاحقة بطريقة أو بأخرى من التنظيم الشامل والسرديات الكبرى للبنية إلى التأثيرات الأكثر محلية والأقل قابلية للحساب لمثل هذه الخصوصيات في قلب كل خطاب، إن النصوص المتداخلة التي سماها لهذه الكتابات اللاحقة في ملخصه "رولان بارت" لم تعد هي الآن سارتر وماركس وبريخت وسوسور، ولكن معاصريه فيليب سولزر وكريستيفا ودريدا ولاكان ومعهم سلفهم العظيم نيتشه يتعامل كتاب لذة النص مع الطرق المتناقضة التي تتقاطع فيها متعة القراءة مع أنظمة المعنى، إلى الحد الذي يكشف فيه عدم استقرار موضوع القراءة ويتحدث كتاب كاميرا استجلائية بالمثل عن قوة التصوير الفوتوغرافي بوصفها لا تكمن في سيميائية المعلومات الخاصة بها ( التي يطلق عليها الاستوديو الخاص بها) كما هو الحال في النقطة المفرد أو النقطة، التفاصيل الصغيرة أحيانا التي لا تكاد تنتمي إلى تلك الشبكة من معنى ولكن الذي يطعن القلب. ويتوقف كتاب خطاب العاشق على مفارقة لتفرد وشدة تجربة العاشق والتفاهة اللازمة لمفردات المحب، ما الذي يمكن أن يكون مبتذلا ولكنه ضروري أكثر من أن يكون مبتذلا ولكنه ضروري أكثر من "أنا أحبك" وكتاب رولان بارت في حد ذاته ليس مذكرات بقدر ما هو تأمل في مذكرات وشهادة وكتابة حياة حول ما يعني أن نقول "أنا" في النص وحول التوقيع وتأثيراته وبالتالي الترياق الواضح للقراءة السخيفة والمتسرعة إلى حد ما لـ "موت المؤلف" ككحظر على مناقسة التأليف إن شكل الكتب اللاحقة مثل كتاب نيتشه، يصبح قولا مأثورا مجزأ وأحيانا يتم التخلي عنه لتقلبات الترتيب الأبجدي.