تدوين-سعيد بوخليط
ليس المهم أن تموت؛ وتغادر إلى الأبد عالم الأحياء / الأموات أو الأموات/ الأحياء، تلك معطيات جدليات وهويات الحياة/ الموت أو الموت/ الحياة؛ اللعبة نفسها، بل يكمن الأهم، في سؤال كيفية تدبير التفاعل مع زمن الموت، وهواجس قضاء يومياتك هناك.
زمن مغاير، حقبة مختلفة لما سلف، ولكي يعيش الإنسان الواحد موته، يلزمه طبعا بلورة برنامج يوميات تستوعب حيثيات حقيقة الموت، كي لا ينتابه السأم ويأكله مرة أخرى موت الاعتياد على انتظار الانتظار.
يتمثل، بالتأكيد، أساس هذا البرنامج، في استغراق التأمل بخصوص ما جرى وما بوسعه أن يجري.
يحاول الميِّت استيعاب طبيعة المكان المغاير مثلما يرسم أفقه ظاهراتيا هيكل اللحد، وكيفيه وقوع الانتقال المباغت من عالمه المألوف؛ بكل معطيات رسوخه صوب عالم ثان. مرحلة جديدة، نوعية، على غير هدى جُلِّ مواضعات المتراكِمِ، مما يقتضي ويدعو إلى استيعاب تجليات المرحلة الجديدة.
حتما، سيأخذ تجلي الحياة المتحققة راهنا، وقتا معتبرا، كي ينسلخ الميِّت من محرِّضات ذكرى العالم السابق، ثم الانخراط بكل مشاعره في منظومة الراهن، واستحضار مظاهر التباين، التماهي بين مرحلتي الحياة والموت.
ربما، أشارت مظاهر الاستمرارية لديه، ضمن طيات القطيعة الكبرى، إلى نموذج فضاء ما قبل الولادة، ثم الحالي الناجم عن فعل مصير الميت: بطن الأمِّ، فالقبر. نفس إحداثيات الفضاء المتجلي قديما، بحيث استعاد الإنسان بعد موته مسكنه الأصلي.
حيز بحجم كتلة الجسد، لا يزيد ولا ينقص شبرا واحدا. هذا الجسد وقد تشظَّت، تاهت أبعاده تبعا لسياقات دروب الحياة، قد لملم الآن أطرافه، مستعيدا ثانية تركيزه وحالته الجوهرية.
تنصب، أولى إشكاليات يوميات العالم الآخر، على محاولة استلهام الإحساس برحابة ما قبل الولادة، وكذا دواعي الحياة الطارئة، وأخيرا التصالح مع الذات.
طبعا، لا أعلم كيفية استشراف كل شخص، الحقيقة التي يلهمنا إياها الموت، بل الأخير نفسه قبل بداية تقييم نتائجه، لكن المؤكد أنَّ المتمرسين في غضون مجرى الحياة على وقع يوميات العزلة الاختيارية والإرادية، ونجحوا لدواع معينة على مستوى معركة خلق فجوات مساحات معتبره صوب ما اعتاد الناس على الاحتفال به، لن يصادفوا عناء كبيرا قصد الانغماس في تفاصيل يوميات رحلة الموت.
من جهة ثانية، الذين عانقوا خلال حياتهم هاجسا وحيدا، يكمن في محاورة أسئلة الوجود، بكيفية أو أخرى، فاستطاعوا الصمود ضد الوقوع في وحَلِ مهاوي فخاخ غباء اليومي، وارتقوا بتجرُّدٍ خالص نحو لحظة الوجود المشرقة.
فِئَتان، لن تصادف ربما عسرا يذكر قصد الاستئناس بيوميات العالم الجديد.
مقابل ذلك، سيكابد الذي اعتاد باستمرار، ملاحقة أسراب الحشد التائه، في كل آن، حسب كل صغيرة وكبيرة، واستعصى عليه البقاء يوما واحدا صامتا يحاور سكينته، حتى من باب تمارين التحدي النفسي، معتبرا عزلة التمركز الآنوي، وباء فَتَّاكا لا ينبغي الاقتراب من آثاره. بالتالي، يختزل أفق قضايا الوجود الشائكة إلى حكايات مبتذلة.
إذن، بنية المكان نفسها، تكتسي أبعاده حيز الجسد، كأنَّ المكان الجسد ذاته، دون جملة مساحيق زائفة لحقته في غضون متواليات الحياة. سواء، إبان حقبة ما قبل ولادة الإنسان، ثم حين وفاته، يكون الجسد محض هندسة لنفسه، يستعيد سلطته الضائعة.
ينصبُّ تأمل الميِّت على مكان، يكتفي أولا وأخيرا، بسطوة الجسد، بل جسده، إنه جسد قد حضر كُلِّية، مطلقا، خلال الهنا، في ذات اللحظة.
هكذا، يظهر بأنَّ أولى الهواجس التي تشغل يوميات ما بعد الموت، تتجلى في مسألتي التصالح مع المكان والجسد، درب ذلك، عزلة صمت لا متناهية. بناء عليه، يمكن وضع إطار تقريبي لهوية الموت، باعتبارها مكانا على مقاس الجسد، ينمُّ عن شعرية خاصة، تليق به، ثم عزلة تثمر، تثري، ترسِّخ تلك الشعرية فتمنحها سرمدية اللازمان واللامكان.
يبدأ زمن الموت ويمضي، ينعدم الآخر وتتركز شعرية المكان بالجسد وحوله، تتلاشى تماما ذاكرة الحياة، بكل ما تضمره من دلالات التِّيه التي غمرت أصالة الذات الإنسانية، نتيجة تبلور معطيي ظهور الآخر وكذا دروب الحياة بتفاصيلها المُمِلَّة، التي حفرت هوة بين الإنسان وحقيقته المبدئية.
قد يقضي الميِّت، بعد ذلك، زمنا طويلا يتأمل الزمان. الموت لعبة انتقال زماني نوعية. يشتغل الموت كذكرى وأفق، يحاول إعادة تقويم ذاكرة الحياة، لماذا حدث الانتقال من الحياة إلى الموت؟ الواقعة المزلْزِلة التي قوَّضت جذريا سراب الأطلال، وأعادت وصل الإنسان بما قبل الحياة.
أضحت الحياة مجرد ومضة، اختفت تلك الكيانات التي أفرزتها ممكناتها، وتماهى الجسد مع تمركزه الأولاني، وكذا تطلعه نحو بقاء هذا الزمان مجردا من الزمان، لا يسري عليه قانون الزمان؛ مثلما جرى الشأن إبان سياق الحياة، غير تائه في الأمكنة، بل يتمركز ضمن نطاق المكان الجديد، باعتباره مكانا تبلور بالمطلق على مقاس الجسد كي يحيا عزلته وفق زمان لا ينقضي.
إنه الموت، تصالح الجسد مع هويته، في حضن عزلة خالصة تحاور صمتها بالصمت.
الصمت سيِّد الممكنات، يمنح الإنسان هويته الخاصة، يتحقق كنهه إبَّان الموت.
في المقابل، استند ينبوع الحياة على الكلام، فجاءت معطيات الآخر بكل تفاصيله. أصل الحياة كلام. كلما، تصاعدت وتيرة الكلام، تضاعفت مشاكل الحياة، ما دام أصل الأخيرة، استفاضة ابتذال محرِّضات الكلام وتشابك مضمرات المعنى.
يشير الصمت إلى تطابق الإنسان مع ذاته، يملؤها وتلبسه، فلا مجال لمساحات الالتباس، التباعد، أو التباين.
ربما هذه الطمأنينة الفكرية، الوجدانية، نظرا لتحقيق الامتلاء المتوخى، قد يلغي الإشكالات الوجودية المفترض تواترها دون توقف، عندما يكابد الإنسان شرخا حيال ذاته، سيتحقق هذا الوضع الطوباوي مع الموت، مثلما يحتمل عدم تحققه.