تدوين - سوار عبد ربه
على بلاطة سيراميك سوداء اللون، ألقى الفنان السوري هشام الصفدي بجسده على الأرض، جاعلا منه جسر عبور للوحات أخرى يعرضها ضمن معرض "بورتريه شخصي" في مركز فاتح المدرّس للفنون والثقافة في الجولان السوري المحتل، اختار الصفدي أن تكون "اللوحة المدخل" لباقي أعمال المعرض، لوحة لشخصه، تصوره وكأنه عاملا أنهكه التعب، وعلى زوار المعرض أن يدوسوا بأقدامهم على جسده وعمله كي يتمكنوا من متابعة جولتهم الاستكشافية لرؤية اللوحات الأخرى، التي تحمل كل واحدة منها هما ورمزا معينا.
في رؤية الصفدي هذه لجسد العامل، الذي يضحي بوقته وحياته وقوّته في سبيل الإبقاء على عجلة التطور العمراني حية ونشطة، إسقاط على مواضيع أخرى تدور في محيطه، ويمكن تأويلها لتصبح أكثر قربا من الواقع الاستعماري المفروض على الجولان السوري المحتل وأبنائه، وربما تحمل في طياتها أيضا نبوءة لم يطل تحققها، بل وقعت بعد أيام قليلة على انطلاق المعرض.
هشام الذي جعل من جسده مداسا للزائرين كي يبلغوا هدفهم في استكشاف أعمال المعرض الأخرى، أصبح جسده بالفعل مداسا لممارسات الاحتلال العنجهية بعدما تعرض لإصابة خطيرة أثناء تصديه وأبناء شعبه لمحاولة الاحتلال فرض وقائع جديدة في الهضبة السورية المحتلة، وما زال يقبع في المستشفى لتلقي العلاج بعد أن تعرض لطلق ناري في الوجه من قوات الاحتلال خلال المواجهات التي خاضها سوريو الجولان وهم يدافعون عن أرضهم.
هذا التأويل يفتح المجال أمام تساؤلات مرتبطة بالفن والثقافة بشكل عام ومدى ارتباط ممارسيها بالواقع من حولهم، وقدرتهم على عكسه وتفكيكه وطرحه ضمن الأدوات المتاحة أمامهم لتكوين علاقة تكاملية بين الفنان وأرضه من جهة، والفن ودوره التوجيهي أو التوعوي من جهة أخرى.
وقبل الخوض في هذه العلاقة لا بد من عودة إلى الأحداث التي أججت الصراع في الجولان المحتل وجعلته يتصدر عناوين الأخبار على مدار نحو أسبوع شهد أعمال عنف من قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الأهالي الذين خرجوا للتصدي لمخطط مصادرة أراض زراعية يمتكلونها، أسفرت عن إصابة العشرات.
ليس قرار الاحتلال مصادرته لأراضٍ زراعية سورية وليد اللحظة، إنما بدأ عندما طرحت شركة "إنرجيكس" عام 2019، خطة لبناء مزرعة رياح تتضمن إقامة 110 توربينات هوائية لتوليد الطاقة البديلة على طول خط وقف إطلاق النار في الجولان، منها 32 توربينا تحتل ما يقارب 3674 دونما من أراضي المزارعين السوريين، أبناء قرى مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا، بحيث يبلغ طول كل مروحة 200 متر، وفقا لابنة الجولان المحتل شذى الصفدي.
وفي لقاء خاص مع تدوين أوضحت الصفدي أن حكومة الاحتلال أعلنت بشكل رسمي مشروع مزرعة الرياح مشروعا قوميا يخدم مصالح الدولة، ما يعني أنه يتاح لوزير مالية الاحتلال مصادرة أراضٍ من أصحابها لإقامة المشروع ومده بشبكة بنى تحتية وكل ما يلزمه من مرافق، ما أعطى الضوء الأخضر قبل سنتين لبدء العمل عليه، وبالفعل تم تركيب 41 توربينا هوائيا حتى الآن في منطقة تل الفرس بجانب قرية بقعاثا.
وما يحصل اليوم في الجولان المحتل، تعود خلفيته إلى عام 2009، حين أصدرت حكومة الاحتلال الإسرائيلي القرار رقم 4450، الذي يلزم بالبحث عن مصادر طاقة بديلة بحيث "تغطي بدءا من العام 2020 نحو 10% من حاجة الاحتلال الإسرائيلي إلى الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة".
تقول الصفدي إن الدراسات أثبتت أن التوربينات الهوائية المولدة للطاقة هي أحد أكبر التهديدات البشرية للبيئة والصحة والحياة البرية، وهي بمثابة كارثة طبيعية تهدد الخفافيش والنحل والطيور، وبخاصة الطيور المهددة بالانقراض كنسر الجولان.
اختارت شذى الصفدي وهي فنانة من قرية مجدل شمس في الجولان المحتل أن تعبر عن هذا المشروع عبر عمل فني أطلقت عليه: "الغاز الأخضر"، معروض ضمن معرض "الحداثة الآنية: عن فبركة إسرائيل معماريا" في مؤسسة عبد المحسن القطان، وهو جزء من مشروع بحث مستمر تحت اسم "طيور ما عادت تريد الهجرة"، يلقي الضوء على ممارسات يتم من خلالها فرض خارطة تحكم جديدة في منطقة الجولان وبناء نوع آخر من جدران العمل تحت غطاء ما يسمى بالطاقة الخضراء.
وتركز الصفدي في أعمالها على الطيور ومساراتها، وتدخل الإنسان بها، من خلال بحث مقسم إلى عدة مشاريع، بينها الأخضر الغازي الذي يعبر عن مشاريع المراوح الهوائية ومدى كارثيتها.
وأوضحت الصفدي لـ تدوين أن العمل تركيبي محفور على قطعة زجاج، يمزج جسد الطير وجسد الإنسان، بالإضافة لجهاز مسح الأراضي الذي من خلاله يمكن رؤية تفاصيل الجسد والأبنية الاستعمارية من حوله، إلى جانب تقرير مصور مؤلف من عدة مقاطع فيديو تتحدث عن بداية هذا المشروع ورفض الجولانيين له، ومجموعة أعمال فنية أخرى تحكي عن كمية الطيور التي تضررت حتى الآن بفعل المشروع.
وترى الفنانة الصفدي أن هذا المشروع هو حدث آني وفي حال هذا المشروع نفذ، ستتبعه مشاريع أخرى، لذا من المهم أن يعبر الفنان وكل حسب موقعه عن الواقع المحيط به، لمحاربة هذه المشاريع الاستعمارية الكارثية التمييزية بشتى الطرق.
وكما الصفدي، تقدمت الفنانة ندين غرز الدين من قرية مجدل شمس، للمشاركة في معرض الربيع جائزة نبيل عناني وسليمان منصور، الذي يقيمه مركز خليل السكاكيني في رام الله، بعمل فني حمل عنوان "في أرضنا نزرع أشجارا وليس طواحين رياح"، وكذلك الفنانة هاجر خاطر المشاركة أيضا في المعرض التي أوضحت في لقاء خاص مع تدوين أن عملها الذي يحمل عنوان "ليسيه باسيه"، يعبر عن الهوية غير المعرفة، التي تعاني منها وكافة أهالي الجولان السوري المحتل، ذلك لأنهم غير معرفين في هوية واحدة.
وتناقش أيضا خاطر في عملها مفهوم الانتماء من عدمه، وكذلك مفهوم الحرمان من الوطن الأم، الذي يمكن للجولانيين رؤيته لكنهم محرومون من التواجد فيه، ومجبرون على التواجد في مكان آخر.
واستخدمت الفنانة السورية في عملها تقنية تطريق النحاس، وهي تقنية قديمة كانت تشتهر بها منطقتها (مجدل شمس)، لصناعة أواني الطعام، وحول سبب اختيارها لهذه التقنية قالت: "جاءت الفكرة بعد بحث مفصل حول المنطقة، توصلت من خلاله إلى أن التقنية التي كانت تستخدم قديما في صناعة أواني الطعام تسمى "تطريق النحاس"، فاخترت أن تكون هذه الطريقة بارزة في عملي، لتعبر عن ذكريات وتراث المنطقة، حتى توصلت إلى أن الطريقة القديمة التي كانوا يعدون بها أواني الطعام كانت تسمى تطريق النحاس".
بدأت مسألة الفن المقاوم في الجولان منذ ثمانينات القرن الماضي من خلال المشروع الفني الجماهيري الذي يحمل تمثال سلطان باشا الأطرش، والذي نفذه الفنان السوري حسن خاطر في نيسان 1987، وهو من أوائل الفنانين الذين ذهبوا لدراسة الفن التشكيلي في دمشق.
وحول التمثال الذي يتوسط الساحة الأساسية في قرية مجدل شمس، أكبر قرى الجولان، قال الفنان حمادة مداح في لقاء خاص مع تدوين إن هذا التمثال الذي يحمل عنوان المسيرة، بدأ بطريقة شعبية، ذلك لأن الجولان أرض محتلة ولا توجد جهات تمول وتدعم المشاريع الثقافية سيما الفترة التي تلت فترة الإضراب الذي خاضه الجولانيون في أعقاب قرار الاحتلال ضم الجولان.
ويحاكي التمثال، بحسب مداح الثورة السورية الكبرى (1925-1927) التي قادها سلطان باشا الأطرش، ويعبر عن عدة أفكار منها المقاومة والأشياء الأساسية التي يؤمن بها الإنسان، وكذلك مفهوم الشهيد.
وبحسب حمادة فإن الاحتلال الإسرائيلي عندما رأى أن هذا التمثال وحد الناس، قام بتفجيره بوضع قنبلة على بطن التمثال، حيث استيقظ أهالي الجولان على صوت انفجار مروع في المنطقة، استهدف التمثال، وأصبح يقال عنه الشهيد الذي استشهد مرتين.
ويعتبر تمثال المسيرة رمزا لنضال أهالي الجولان، ويتكون من ثماني شخصيات تعبر كل منها عن واحدة من مراحل النضال، بحسب ما أوضح خاطر في لقاء صحفي، إذ قال: "أردت أن أدمج المراحل التاريخية المختلفة؛ الماضي والحاضر والمستقبل؛ بهذا التمثال بالإضافة إلى مسيرة النضال التي عاشتها المرتفعات".
والشخصيات الثمانية هي: سلطان باشا الأطرش رمز الثورة السورية الكبرى، أما الثانية فهي لرجل يحمل بندقية وترمز لموقف سكان الهضبة ضد الأتراك والفرنسيين والإمبريالية بشكل عام، والثالثة لشخص يحمل كتبا تعبيرا عن الدعوة للحرية القائمة على المعرفة والثقافة، والرابعة لأم تعبر عن صرخة الألم والدعوة للتحدي، والطابع الشعبي للنضال واستمراريته، وشخصية الشهيد ترمز للاستعداد للتضحية بالدم والروح من أجل الوطن. بالإضافة إلى ثلاثة أولاد يرمزون إلى المستقبل.
وبعد هذه الفترة أخذ القطاع الثقافي والفني في الجولان بالتطور شيئا فشيئا من خلال المؤسسات كرابطة الجامعيين، وبين عامي 1995-1996 تأسست مؤسسة بيت الفن التي تخرج منها مداح وأقيم أول معرض فني في الجولان.
ناهيك عن العلاقة التي تربط الفنانين الجولانيين بفلسطين، ذلك لأن الجولان منطقة مفصولة عالميا والمتنفس الوحيد بالنسبة لهم هو فلسطين، وبينت هذه العلاقة منذ السبعينات، الأمر الذي عززه وجود المحتل كرابط مشترك بين الشعبين، وهذه العلاقة أسفرت عن لقاءات فنية ومعارض مشتركة، فأصبحت الثقافة من الجولان إلى فلسطين والعكس، وفقا لمداح.
وأوضح الفنان أن هذه العلاقة بين الشعبين أيضا بنيت في السجون، فالأسير عندما كان يتحرر من أسره كان يخرج حاملا معه مشغولات يدوية من أسير آخر.
وعرج مداح على الأحداث الأخيرة التي جرت في الجولان وإصابة زميله الفنان هشام الصفدي بإصابة خطيرة، معبرا عن هذا التداخل بين الفنان وبيئته، بأن الفنان بقصد أو من غير قصد يحكي الواقع الذي يعيشه، قد لا يكون بأسلوب مباشر، إنما طبيعة التفكير والأدوات التي يستخدمها في العمل الفني تفرض على الفنان أن ينجز فنا مقاوما دون أن يشعر.
وحالت إصابة الفنان الصفدي دون إتمام مشاركته في معرضه "بورتريه شخصي" إلا أن أهالي الجولان وفاء له ولتضحياته، زاروا المعرض بعد أن ساهموا في قطاف موسم الكرز في بستانه مؤكدين أن الجولان كانت ولا زالت قوته بوحدة أبنائه.
وفيما يتعلق بالأعمال الفنية المرتبطة بمشروع المراوح الهوائية، آخر مشاريع الاحتلال الإسرائيلي في الجولان السوري المحتل، قال مداح إن اللافت في هذا الجانب أن الجيل الشاب هو من يقدم أعمالا تحاكي الموضوع، وترد على مخططات الاحتلال، ما يعني أن مقولة الاحتلال بأن الكبار يموتون والصغار ينسون باطلة، فكل الأدوات الثقافية التي وجهت بهذا الاتجاه كانت من الصغار سواء عبر الرسم أو مقاطع الفيديو أو الأغاني التي خلقت علاقة تماسك في المجتمع عبر مختلف الأدوات.