الإثنين  06 أيار 2024

مضطهدات الشعر والكتابة (2)

2023-07-08 01:23:06 PM
مضطهدات الشعر والكتابة (2)
تعبيرية

تدوين- فراس حج محمد

لقد استحوذت كثيراً هذه الفكرة على تفكيري، وكانت تزعجني إلى حدّ القلق المؤلم، ومن الطبيعي جدّاً أن توجد في كتاباتي المتنوّعة، شعراً، وسرداً، ونقداً، ومقالات، فتناولتها بوصفها ظاهرة، وأشرت إليها في بعض قصائد ديوان "ما يشبه الرثاء"، وفي قصائد أخرى منشورة مستقلّة في الصحف والمجلّات، وفي بعض المقالات كمقالة "رسالة إلى كاتبة شابّة"، كما لم تغب هذه الفكرة عن بعض النصوص المنشورة في كتبي السرديّة المنشورة والمعدّة للنشر كذلك، وبعض القصائد كقصيدة "رسالة إلى شاعرة صاعدة".

الصورة قاتمة الآن- على ما أظنّ- وتدعو إلى البؤس كثيراً، لكنّ الأشدّ منها إيلاماً هو الاضطهاد الأسري بسبب الشعر، ثمّة شاعرات قتلن لأنّهن يكتبن الشعر. الشاعرة الأفغانيّة ناديا أنجومان قتلها زوجها "لأنّها كتبت قصائد جميلة وقالت إنّها طيرٌ من طيور الله"، وتروي الشاعرة اليمنية فاطمة العشبي جانبا من اضطهاد أبيها لها بسبب الشعر بما يأتي: "أحبَبْتُ الشِعر منذ نعومة أظافري، وكنتُ أكتبه وأنا صغيرة، لكنَّ والدي منعني من ذلك... لكنني استمررتُ في الكتابة، وهذا ما استفزَّ القبيلة فحاكمتني، وقرَّرَتْ تزويجي رغم طفولتي. أما والدي فقد هدَّدني بقطع يدي إن استمررتُ في كتابة الشِعر، وهو أيضاً حَفَرَ لي قبراً".

كما تشكّل الشاعرة الهنديّة "سلمى" حالة من الاضطهاد المؤلم في المجتمع التي عاشت فيه، بداية من تعامل أبيها، إذ منعها أوّلاً من الذهاب إلى المدرسة وهي في سنّ الثالثة عشرة، ومن الخروج من المنزل، للتواصل بعد ذلك حلقات اضطهادها في بيت زوجها، فمُنعت "من القراءة والكتابة وحرّم عليها النشر، لكنّها استمرّت بالكتابة. تكتب على قصاصة ورق أو فاتورة قديمة. تكتب في السرّ بعد نوم زوجها أو في غيابه، أو وهي مختبئة في الحمّام. وكانت تهرّب قصائدها بمساعدة والدتها، وترسلها إلى مجلّة أدبيّة، لكنّها لم تعد تجرؤ على النشر باسمها الحقيقي بعد أن هدّدها زوجها مرّة بالأسيد، وقد كانت الكتابة بالنسبة لزوجها وأهله جريمة، حتّى أطفالها كانوا يقولون لها إنّها امرأة سيّئة إن ضبطوها تكتب".

وثمّة أصوات شعريّة مبشّرة بالجمال خنقتها الأسرة، ثم الزوج. أشار الناقد د. بهاء الدين محمّد مزيد في كتابه "صورة الرجل في سرديّات عربيّة نسائيّة" وهو يناقش أعمال بعض الكاتبات العربيّات إلى مأساة الشاعرة التي تتزوّج من شاعر، يقول: "وقد تنتهي حياة امرأة مبدعة بالانتحار لأنّ زوجها الشاعر الكبير الأناني يقهرها، ولا يسمح لها أن تنجح معه كما في قصّة "القصيدة الأخيرة" لهدى النعيمي من قطر، ويعلنها صريحة بلا مواربة "لن تنشري كتاباً مادمت زوجة لي... أنا الشاعر الكبير وليس لك إلّا أن تكوني ورائي".

وربّما كان الشعر والارتباط بالشاعر تيد هيوز سبباً غير مباشر في انتحار الشاعرة الأمريكيّة الشابّة سليفيا بلاث، فما نجح فيه زوج أنجومان فشل فيه تيد هيوز الذي أراد التخلص منها وقتلها. أقتبس هنا هذه الفقرة من مقال للشاعر اللبناني شوقي بزيع شارحاً هذه المسألة بقوله: "اعترفت (سليفيا بلاث) لطبيبتها بأنّه (هيوز زوجها) كان يريد قتلها تماماً، لأنّها باتت العقبة الأبرز التي تقف بينه وبين نزواته، وأنّه عمد في إحدى المواجهات العاصفة بينهما إلى ضربها بشكل مبرح حتّى الإجهاض. وإذ وصفته في رسالة أخرى بمصّاص للدماء، كتبت إلى صديقتها بأنّه كان غاضباً لأنّها لم تنتحر، وأنّه سيشعر بالراحة لو أنّها أفلحت في ذلك، ووفّرت عليه عناء المَهمّة". لعلّ التنافس الصامت بين الشاعرة وزوجها وراء هذا الاضطهاد بهذا العنف المفضي إلى إنهاء المرء حياته بنفسه، أو سعي الشريك إلى التخلّص من شريك حياته بقتله، ودفعه للانتحار.

ولا تقف المسألة عند حدود الشاعرة المتزوّجة من شاعر، بل إنّ الشاعرة المتزوّجة، من غير شاعر، ستكون كذلك في ورطة وهي تمارس حرّيّتها في الكتابة، هذه الورطة التي عبّرت عنها الشاعرة والإعلامية اللبنانية لوركا سبيتي على صفحتها في الفيسبوك، فالشاعرة من وجهة نظرها "لا تتزوّج؛ لأنه لا يمكنها أن تكتب كلّ ما يجب أن تكتبه، وأن تراعي بالوقت ذاته شريكاً (وتوابعه) يعتقد بأنّها ملكه ولسانها لسانه واسمها تابع لاسمه، وبوحها يدنّس كرامته، وفستانها الشفّاف يعرّي جسده، وبأنّها تعيش في حضن خيالها، لا في حضنه، وبأنّها تهرب من واقعها إلى واقع مشتهى، وبأنّها حين تشرد ليست في الهُنا، وحين تغمض عينيها تكون في الهناك، وقصيدتها أقرب إليها منه، وكلمات قصيدتها ضدّه، وإن كانت غزلاً فلآخر غيره، وإن كانت إيروتيكيّة فسببها رغبات خارجة عن إطار السرير الزوجي، هذا غير تحليلاته النفسيّة عن الشاعرة التي يجب أن توضع في خانة الأمراض العصابيّة وأمّا الذهانيّة، وإن كان لطيفا قليلاً سيقول العقد النفسيّة".

لقد أبانت الشاعرة في هذا التحليل عن نفسيّة الزوج، وما تعانيه الشاعرة- أيّة شاعرة، وليست هي فقط- مع زوجها، فقد يكون هذا القلق النفسيّ الإبداعي هو الذي دفع لوركا للانفصال عن زوجها، وتعلن أنّها قد أصبحت حرّة الآن، وأنّ "الزواج حماقة" بعد أن جرّبته مرّتين، ولم تستطع التأقلم مع هذه المؤسّسة "الفاشلة"- مؤسسّة الزواج، وتغيّر حالتها على الفيسبوك من "متزوّجة" إلى "عزباء"، ولينعكس ذلك على منشوراتها التي غدت أكثر حرّيّة وحيويّة وانطلاقاً بعد ذلك، إذ يشعر متابعوها أنّها كطير محلّق ليس لانطلاقها حدّ، إنّ كثيرات لم يستطعنَ ما استطاعته لوركا، فذهبت مواهب  نسائيّة كثيرة وطُمرت ولم يعد يسمع بهنّ أحد.

وثمّة شاعرة أخرى لا أستطيع أن أفصح عن اسمها، شكّلت حياتها مأساة حقيقيّة، تعيش في القرن الواحد والعشرين وعندها حساب في الفيسبوك وتوتير، يمنعها زوجها من الكتابة، لذلك فهي تكتب في منتهى السرّيّة عنه، وتخبّئ ما تكتبه في دفاتر وملفّات بعيدة عن متناول يديه، ولا تستطيع النشر إلكترونيّاً، ناهيك عن النشر الورقي في الصحف والمجلّات والكتب، لقد قالت لي يوماً لو يعلم زوجي أنّني أكتب الشعر لقتلني. وثمّة شاعرة أخرى ذات شعر جيّد وتعابير عبقريّة تكتب تحت اسم مستعار في الفيسبوك، ولا تستطيع التصريح باسمها خوفاً من زوجها. هاتان الشاعرتان إلى الآن تعيشان في الظلّ، بل في العتمة والدهاليز، ولم تُعرفا شاعرتين في الوسط الثقافي على الرغم من أنّهما أنتجتا نصوصاً مهمّة تستحقّ النشر.

ومن المؤكّد أنّ أمثال هؤلاء كثيرات في عالم الكتابة الشعريّة، هنا أنا لا أستقصي، لكنّني أضيء على منطقة معتمة وشديدة الحُلكة، فلو عاد الدارس إلى حياة الشاعرة فدوى طوقان سيكشف معاناتها المركّبة كونها امرأة أوّلاً، وكونها حبيبة ثانياً، وكونها شاعرة ثالثاً، ونشرها أشعارها باسم مستعار له هذا الطابع من الاضطهاد، أمّا الشاعرة نازك الملائكة فاضطهاد النقّاد لها واضح في محاولتهم التهوين من أمر ما فعلته في حركة الشعر العربي المعاصر، وقد أضاء هذه المنطقة بشيء من التفصيل أيضا الناقد الدكتور عبد الله الغذّامي في كتاب "تأنيث القصيدة والقارئ المختلف"، وتعرّضتُ إلى شيء من ذلك في كتاب "بلاغة الصنعة الشعريّة".

ويتّصل بهذا الجانب تواضع فوز الكاتبات، شاعرات أو ساردات، بالجوائز العالميّة والمحليّة، والإحصائيّات في هذا الجانب تكشف عن حجم هذا الفوز، وقد أثيرت هذه المسألة غيرة مرّة، فقد أشار إليها الكاتب محمود عباس العقاد في كتابه "جوائز الأدب العالميّة"، وقد صدر الكتاب عام 1964، فعبّر عن دهشته من تواضع حضور الكاتبات على قائمة نوبل، فكتب تحت عنوان "الجائزة والأدب النسائي" متتبّعاً الكاتبات الفائزات بنوبل حتى عام 1963: "وهذه أيضاً ظاهرة من الظواهر العجيبة التي تستدعي الانتباه في أعمال الهيئات العالميّة، فإنّها لا تستطيع أنْ تنعزل عن تيار التاريخ من حولها، ولا مناص لها من تسجيله وتمثيله، وهي تجاريه أو تعارض مجراه". 

وفي عام 2006، يصدر للكاتب محمود ياسين كتابه المهمّ "نساء نوبل: 32 جوهرة في عقد نوبل المدهش"، فيذكّر باقتراح البعض بتخصيص فرع نسائي للجائزة، نظراً لتواضع عدد الفائزات بهذه الجائزة بفروعها كافّة، ويرى ياسين أنّ "لجان نوبل غالبيّة أعضائها من الرجال، وذلك يبرّر خياراتها، فمن الواضح أنّ أمام المرأة الباحثة والعالمة والمبدعة طريقاً طويلاً لوجود حالة من التوازن مع الرجل".

وليست حائزة نوبل وحدها، بل إنّ ذلك يشمل الجوائز كافّة، العربيّة كالبوكر وكتارا وجائزة ملتقى القصّة القصيرة، وغيرها من الجوائز، عدا تكريم الأدباء بجوائز خاصة أو منح من الدولة أو المؤسسات الثقافيّة، والأمرُ ليس أفضل حالاً مع الجوائز والتكريمات العالميّة، ما يعني أنّ ما يتحكّم بالشرق والغرب عقليّة واحدة، فكأنّ العالم كلّه مصبوغ بصبغة واحدة.

يزداد الاضطهاد أحياناً كثافة، فلم تجرؤ الشاعرات حتّى على الكتابة تحت أسماءٍ مستعارة، كما فعلت سما حسن التي تمرّدت على واقعها نصف تمرّد. على الرغم من أنّ الكتابة تحت اسم مستعار شكل آخر من أشكال العنف ضدّ مواهب الكاتبات، وحرمانهنّ من حقهنّ في الإعلان عن ذواتهنّ، كياناً أدبيّاً ثقافيّاً عقليّاً كامل الأهليّة يقفنَ على قدم المساواة مع الشعراء سواء بسواء دون أن تلاحقهنّ الشائعات في اعتمادهنّ على غيرهنّ في الكتابة، كما قيل عن شاعرات كثيرات، أثبت التاريخ أنهنّ كنّ شاعرات ولدن وحدهنّ، واستوى الشعر على سوقه بهيّاً في قصائدهنّ وشكّلن حالات بارزة في مسيرة الشعر العربي الحديث، كفدوى طوقان وعاتكة الخزرجي ولميعة عباس وأخريات غيرهنّ.

شكّلت حالة الشاعرة المصريّة أمينة عبد الله صورة أخرى من صور الاضطهاد ضدّ المرأة الشاعرة، عندما هاجمها البعض على إثر قولها في إحدى قصائدها: "يشغلني كثيراً أنّ الله امرأة مُحبّة/ فهي القادرة فقط على خلق كلّ هذا الجمال من عدم/ وهي القادرة على فعل الولادة/ كلّ ما هو باعث للحياة أنثويّ/ حتّى ماء الرجل بصفته المائيّة ولونه النسويّ أنثويّ"، وتحدّثت حول أمور أخرى تخصّ العلاقة بين الرجل والمرأة والزواج ونحوها من أفكار جدليّة وإشكاليّة.

واضطهاد الشاعرة ليس في مناقشتها والاعتراض عليها لو كان نقاشاً علميّاً ثقافيّاً هادئاً متّزناً، إنّما بكيفيّة الردّ الذي كان قاسياً جدّاً، وفيه الكثير من التحريض على شخص الشاعرة- كما قالت- "واستعداء الجهات الأمنيّة والجماعات المتشدّدة" ضدّها.

ولبيان ما تعرضت له الشاعرة من اضطهادٍ واقعٍ ضمن "الامتهان الذكوري" بعقليّة لا تختلف عمّا سبق، ما قيل في مهاجمتها بمكوّنتها الأنثويّة التي استند إليها أحدهم، فكتب إليها تحت عنوان "إلى أمينة عبد الله": "فخذيكِ لي/ صفحة عنقك لهم/ شفتاكِ لارتشاف سائل... تعرفينه شفّاف/ نهداكِ للصغير/ ميلي له بشقّكِ الأيمن". إنّ هذا كلام فاحش وبذيء، فلم يكن بين الشاعرة ووصفها بأنّها "عاهرة" سوى اللفظة فقط، وكلّ ذلك يأتي مبرّراً بغضبة "الشاعر" لله والدفاع عنه، دفاعاً أهوج لا قيمة له، فلم ينصّبه أحد قيّماً وحارساً ليدافع عن الله، عدا أنّ عقليّة المنتقد ترفض وصف الله بالمرأة، ولكن هل كان سيغضب لو قالت الشاعرة أنّ الله رجل؟ في هذا المنطق كثير من الافتئات على الله- سبحانه وتعالى- وهو من خلق الرجل والمرأة كليهما، ولم يفرّق بينهما، فإذا استبعدنا أن يكون الله امرأة، فأيضا ينبغي أن نستبعد أن يكون رجلاُ؛ أي التعامل مع الله بصفات ذكوريّة.

لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل دخلت الشاعرة في صراع حقوقي في المحاكم استمرّ سنتين، انتهى بتوقيفها في أكتوبر 2022، ولم تخرج إلّا بكفالة ماليّة. تجربة الشاعرة أمينة عبد الله تجربة مؤلمة، بالفعل، عبّرت عنها بألم في ديوانها "بنات للألم". هذا الديوان الذي تهديه للشاعرة الشهيدة شيماء الصبّاغ، والشاعرة التي تشاركها الألم وتكتبه صفاء عبد العال، في ديوانها "حاجات مش حزينة قوي"، وأقتبس منه هذا المقطع:

"النجمة اللى لقطتها قبل ما تقع على الأرض

كانت مطفية.

فاضطريت بدافع الشفقة إنى أخليها معايا

لكن الجبانة كانت عارفه.

شفطت كل النور اللى فى روحى

وطفتنى".

إنّ النيلَ من الشاعرة بهذه الطريقة البشعة يكشف عن مقدار ما يخزّنه ذلك العقل من اضطهاد للمرأة واستغلال أنوثتها في هذا الاضطهاد، ما يعيد إلى الأذهان ما كان يستخدمه شعراء النقائض في العهد الأموي من هجاء الشاعر خصمه، معرّضاً بأمه أو أخته وذكرهما بكلام يشبه هذا القول. 

ولعلّه من أعظم الاضطهاد أن تكون المرأة على امتداد عصورنا العربيّة الطويلة نقطة ضعف الرجل، فيُسبّ ويُشتم بذكر عورة أمّه أو أخته مثلاً، وأن ينتقص من قدره بالتغزّل بامرأةٍ تخصّه، أو ادّعاء ممارسة الجنس معها، فكانت "الخاصرة الرخوة" التي يُنْفذ إليها للنيل من الخصوم السياسيّين أيضاً، فيما شاع بظاهرة "الغزل السياسي"، وما يحمله هذا التغزّل من مفارقة محزنة وغير إنسانيّة بالمطلق، ناهيك عن ظاهرة السبي في الحروب والإغارات، وكيف تعاملت الثقافة العربيّة مع هذه الظاهرة، وكيف كان ينظر إلى السبايا، واستخدامهنّ لإذلال القبائل الأخرى بمعاشرتهنّ وامتهان كرامتهنّ، ما دفع بعض القبائل العربية الضعيفة أو تلك التي تتعرّض للغزو الدائم إلى وأدِ البنات، لمحاولة التخلّص من هذا "العار" المحتمل الذي يهدّد العربي في أيّة لحظة.

ومن القضايا التي ناقشتها مسبقاً أيضاً في كتابي "بلاغة الصنعة الشعرية" حضور الشاعرة في القراءات النقديّة للنقّاد وهو حضور متواضع ونادر، ولا يكاد يُذكر، وربّما هذا تابع لرؤية الناقد الشاعرات، وخاصّة المعاصرات، مجرّد متع سريريّة، أو أجساد مبهرة ليس أكثر، ولسن صانعات للغة، والصورة، والجمال البلاغي المدهش الطازج، لقد سبق أن قال أحدهم في ذمّ شاعرة ما، "إنه لا يجتمع جَمالان معاً"، ويقصد أنّ المرأة الجميلة لا يمكن لها أن تكتب شعراً جميلاً. هذا تسطيح وتتفيه، وليس له سند واقعي أو حقيقي. إنّما ينطلق إلى تأثيث قناعاته بناء على مخيّلة مصابة بأمراض ثقافيّة شتّى. 

هذا الإهمال النقدي هو اضطهاد أيضا، إذ من حقّ الشاعرة أن يكتب النقّاد في تجربتها الشعريّة، بعيداً عن كونها بتاء تأنيث، وفرج شهيّ، ونهدين فاتنين، وردفين مولّهين، يجب أن يكتب النقّاد في اللغة التي صنعتها الشاعرة على شاكلة الشعر وآلهته المعتبرين. ولكن لا يستطيع أحد أن يجبر أحداً أن يكتب نقداً في شاعرة، إنّما هي قناعات يجب أن تتغيّر، ومن ثَمّ يكتب النقّاد في الشعر وتجاربه بغض النظر عن كونه نتاج شاعرة أو شاعر، وينبغي ألّا يُحشر شعر الشاعرات في خانة "الشعر النسويّ" فيدرس بناء على عقليّة مقولبة لا تتعامل مع الشعر على اعتبار لغوي بحت، وألا تشكّل الأنثويّة عنصراً محدّدا للدراسة بأيّ حال من الأحوال.

ويتبع هذا الإهمال النقدي إهمال متعمّد في تمثيل الشاعرات في الأنثولوجيات أو كتب المقتطفات الشعريّة أو الأمسيات والمهرجانات الوازنة والنشر في المجلّات الدوريّة والصحف، وقد وجدتُ عن طريق الدراسة الإحصائيّة المتأنّية أنّ حضور الشاعرات أيضاً متواضع، وما يقال عن تمثيل النساء في الأنثولوجيّات العامّة يقال عن الترجمة؛ فشعر الشاعرات غير مترجم بشكل يوازي ما ترجمه المترجمون من شعر الشعراء.

وعليّ أن أشيد هنا بالشاعرة المغربيّة فاطمة بوهراكة لجهودها في العمل على التوثيق للشاعرات العربيات في عدّة كتب مخصّصة للشاعرات، فتحضر المرأة بقوّة في مؤلّفاتها، حيث صدر لها: "مائة شاعرة من العالم العربي قصائد تنثر الحب والسلام"، و"موسوعة الشعر النسائي العربي المعاصر"، و"الرائدات في طباعة أوّل ديوان شعري نسائي عربي فصيح"، عدا ما لها من كتب تتبعت فيه الشاعرات في عدّة دول عربيّة، في السودان، ودولة الإمارات العربية المتّحدة، والعراق، وعُمان، وجهود الباحثة والناشرة اللبنانيّة غرّيد الشيخ محمّد وإصدارها "معجم أعلام النساء في المملكة العربيّة السعوديّة"، و"معجم أعلام النساء الفلسطينيّات". 

ربما نظرت بعض الشاعرات إلى مسألة تمثيل الشاعرات في كتب خاصة نوعاً من الاضطهاد، كما هو موقف الشاعرة "إليزابيث بيشُب"-كما يقول جايمس فنتن في كتابه "قوّة الشعر"- "رفضت طوال حياتها أن تكون أشعارها جزءا من دواوين شعرية مكرسة لشعر النساء فقط". لقد كانت تسعى أن يكون شعرها مع شعر الشعراء جنبا إلى جنب رافضة هذا الفصل التعسفي. لكن لا شيء أكثر إنصافاً من هذا الفعل في ظلّ هذه الحال.

وأمّا أبرز أنواع الاضطهاد، ويشكّل محصّلة لكلّ أنواع الاضطهادات الواردة أعلاه، هو "اضطهاد التلقّي"، وأقصد باضطهاد التلقّي: ظلم شعر الشاعرات فلا يطبع في دواوين، وإن طبع لا يوزّع بشكل جيّد، وإن وزّع لا تجد له إلّا قرّاء محدودين يقرؤونه على لهب الشهوة في الأعمّ الأغلب؛ لأنّ ثمّة عقليّة واحدة تتحكّم في مسألة المرأة وشعرها، عقليّة الفقيه البغدادي، وجميعها تصرّ على وضعها في خانة واحدة من الاضطهاد والتهميش وتهوين الشعر النسوي، هذا الأفق من التلقّي المحدود له أثره في كلّ مآلات التلقّي من تواضع شيوع أشعار الشاعرات، والاقتباس منه للتطريب أو للتمثّل به أو ليغنّى أو ليكون مادّة تعليميّة في الكتب المقرّرة في مناهج التعليم العربيّة، وأخيراً ليكون حاضراً في الأمسيات الشعريّة، فدائماً سيجد الباحث أنّ الشاعرات ظلّ للشعراء المسيطرين على كلّ مداخل الحركة الثقافيّة ومخارجها، بما فيه حضورهنّ في الإعلام، ليتحدّثن عن تجاربهنّ ومدى تأثيرهنّ في حركة الشعر العربي بشكل عامّ.

لقد زادت مواقع التواصل الاجتماعي المسألة سوءاً، وتعرّضت بعض الشاعرات إلى نوع من الاضطهاد، الواقع ضمن منطق التنمّر الإلكتروني والسبّ والقذف، وكحالة فريدة لافتة للنظر، حالة الشاعرة التونسيّة وفاء بوعتّور التي أصدرت جزأين من ديوان بعنوان "نهديّات السيّدة واو"، فتعرّضت إلى الاضطهاد، وقد صرّحت بذلك بمنشور لها على الفيسبوك، تقول فيه: "استيقظت اليوم على قصف من التعاليق المؤذية حول صورة يتكشّف فيها ملمح من نهدي، كم أنا أديبة عديمة الأدب!"، وقد وصل الاضطهاد إلى حدّ إغلاق صفحتها على الفيسبوك بسبب الإبلاغ عن صفحتها بأنّها "صفحة مسيئة".

لقد قاومت الشاعرة هذا الاضطهاد، واستمرت تنشر على صفحتها الفيسبوكيّة نصوصها التي يتضمّن كلّ منها كلمة نهد، وأعلنت أنّها ستجعل صورتها الشخصية بوضع يظهر فيه صدرها غلافاً للجزء الثالث من الديوان، فكتبت: "إلى من رموني بأنّني أتاجر بصوري لأمرّر كتبي الممنوعة أبشّركم بأنّ غلاف ديوان نهديّاتي القادم سيكون صورة بروفايلي الحاليّة. موتوا بأخلاقويّتكم". أعتقد أنّ طبيعة رد الشاعرة على هؤلاء الذين يضطهدونها أمر يخصّها، ولا أريد أن أجنح إلى التفسير أو تقويم هذا الردّ، فمن حقّها أن تختار الطريقة التي تثبت نفسها في مواجهة هذا السيل العرم من الحقد والكراهية غير المبرّر وغير المنطقي.

لقد فاق عدد متابعي الشاعرة العشرة آلاف متابع، وتحظى بتعليقات مناصرة كثيرة أيضاً على الطرف المقابل، مع أنّني أشعر أحياناً أنّها ترتكز على المظلوميّة في تسويق أمر اضطهادها كما فعلت الشاعرة أمينة عبد الله، فقد جعلتا الأمر وكأنّه مواجهة للرجعيّة والتخلّف والإرهاب والإسلام السياسي، وفي هذا بعض نظر، لأنّ هذه العقليّة غير محصورة في أتباع أحزاب الإسلام السياسي.

تقودني هذه الحالة للحديث عن حالات مشابهة، تبدي فيها الشاعرة جزءاً كبيراً من صدرها الممتدّ، وساقيها اللامعتين، وردفيها المكتنزين، وذراعيها الممتلئتين الملساوين، فتبدو صورتها كأنّها متحرّشة بالجماهير القارئة بحيث لا يلتفتون إلّا إلى الصورة، فنحن تأخذنا الصورة على محمل الشهوة العمياء شئنا أم أبينا، فلذلك يصبح الجسد أهم من الصورة الشعريّة، وحجم النهدين وطعمهما والردفين وشهوتهما أهمّ من الجملة واللغة، وهيأة الشاعرة ووقفتها أهمّ من الرؤيا الفلسفيّة للنصّ. وهكذا يتم اختزال الشاعرة بجسم جميل يخترق العصب، فيكون التأثير اللحظي لكلّ ما هو لا شعري على حساب ما هو شعري.

هذا أمر يحمل قدراً كبيراً من الاضطهاد الذاتي والغيري للشاعرة نفسها، ربّما تكون مجبرة عليه نفسياً، بدعوى البحث عن التعاطف والتفاعل معها ومع ما تنشر، أو بدعوى تأكيدها لممارسة الحرّيّة المطلقة، وبما تحمله تلك المواقف من نزعة للتمرّد وإثبات الذات، كأنّها في سباق محموم مع غيرها من الشاعرات والشعراء، لكنّ المحصّلة حضور فخم للجسد وشعر أقلّ، فالجمهور القارئ- لاسيّما روّاد مواقع التواصل الاجتماعي- يبحثون عن السريع والمباشر دائماً، كأنّه لا مندوحة عن مثل هذا الخلل الكبير، أو كأنّه شرّ لا بدّ منه تشاهده وتعيشه كلّ يوم، وكلّ حين، ومع كلّ نصّ تصدره الشاعرة، وتتصدّر به شاشة حواسيبنا الشخصيّة وهواتفنا الذكيّة، عدا أنّ الشاعرة قد تبدو أحياناً مضطهِدة للغة ذاتها، وهي تضطهد جسدها أو عضواً خاصّاً منه في النصوص التي تكتبها فتغرق في الشهوة والتشيّؤ إلى حدّ المرض، وبذلك تكون إحداهنّ قد وقعت في أفظع نوع من أنواع الاضطهاد، إذ تكون المحصّلة في نهاية المطاف اضطهاد للشعر في لحظته التاريخيّة، وليس للشاعرة وحدها، ولا تسلم حينئذ من توفير فرصة كبيرة للآخرين لينقضّوا عليها ليجتمع عليها الاضطهاد من كلّ حدب وصوب، هذا لا يعني ألّا تكتب الشاعرة بحرّيّة تامّة في أيّ موضوع شاءت، لكن على ألّا يبدو أنّها تستغلّ شهوة المتابعين المتعطّشين لشهوة جسدها لا متعة شعرها، إنّ للقارئ أيضاً قدرة على التمييز والحكم، إن كان النصّ يستحقّ القراءة أم أنّه مجرّد ثرثرة على ناصية الصورة الفاتنة.

يبدو أنّ الشاعرة لوركا سبيتي تنتبه إلى هذه المسألة في المنشور المشار إليه أعلاه، حيث أرفقت مقالتها القصيرة صورة لها، ولفتت انتباه القارئ إلى تلك الصورة بقولها: "هذه الصورة وكلّ صوري مهداة لكلّ من يخال بأنّني أستعمل جسدي للإغراء (مع انو هيدا مش مدان بنظري)". فلا ترى أنّ في المسألة اضطهاداً، بل يحقّ للشاعرة أن تتباهى بجمال جسدها، وهذا يقود إلى الموقف من الجسد عموماً وكيفيّة النظرة إليه، وكيفيّة التعامل معه، وهذه مسألة مختلفة عمّا هو مناقش في هذه الكتابة، على الرغم من أنّ الجسد إذا أصبح موضوعاً شعريّاً أو أدبيّاً سيجرّ نوعاً آخر من العنف ضد المرأة الكاتبة كما تجسّد في حالة الشاعرة اللبنانية جمانة حدّاد التي تكتب القصيدة الأيروتيكيّة بألفاظ مباشرة، وكانت قد أصدرت مجلّة بعنوان "جسد" لم يطل بها المقام حتى أغلقت لدواعٍ أخلاقيّة، ووصل الأمر إلى أنّ "رئيس الوزراء البحريني يصدر قراراً (آذار، 2015) بمنع الشاعرة جمانة حدّاد من القدوم إلى البحرين لإحياء أمسيتها"، كما كتبت ذلك على حسابها في تويتر.

ومهما يكن من أمر، فإنّ الشاعرات ومعهنّ الكاتبات جميعاً سيظللن عرضة للانتهاك والعنف والاضطهاد، ما دامت الظروف التي أنشأت هذا التصرّف باقية، بل وتجد لها مؤيّدين وأتباعاً في كلّ مفاصل ثقافتنا التي تتوارثها الأجيال، وتؤكدّها منتجات الثقافة المختلفة في القطاعات كافّة، ما يدفع الكاتبة أو الشاعرة إلى البحث عن الخلاص الفرديّ، بالطلاق إن كانت متزوّجة كما حدث مع الشاعرة لوركا سبيتي وأخريات كثيرات مثلها، ورافقها أحياناً التخلّي عن الحجاب ما يحمل رمزيّة كبيرة لإثبات القدرة على ممارسة فعل التحرّر. 

أما الأخريات غير المتزوّجات ففضّلنَ الإبقاء على حالة "العزوبيّة" دون الدخول في هذا القفص ذي الاشتراطات التي تجعل الكاتبة أو الشاعرة في الظلّ أو العيش بقلق الكتابة وتبريرها، فالمرأة أيضاً كائن يحبّ الحرّيّة كالرجل تماماً، هذه الحرّيّة التي دفعت كثيراً من الشعراء إلى التخلّي عن تكوين أسرة، يمارسون حريتهم كما يحلو لهم دون أن يتخلّوا عن وجود المرأة في حياتهم، وكذلك المرأة الكاتبة الرافضة للزواج فإنّها لن تتخلّى عن وجود الرجل في حياتها، لكن دون الدخول في هذه المؤسّسة التي هاجمها مبدعون كثيرون، على الرغم من أنّ الكاتبات المتزوّجات يعانين أكثر من الأزواج الكتّاب، نظراً لطبيعة الأدوار الاجتماعيّة داخل الأسرة العربيّة، والثقافة السائدة بكلّ مظاهرها تجعل المرأة الكاتبة دائماً معرّضة للاضطهاد أكثر من الرجل، ولا يتيح لها المجتمع والقانون خيارات كثيرة حتّى في أكثر المجتمعات العربيّة تطوّراً وانفتاحاً، فكلّ هذه المجتمعات تلتقي عند حدّ معيّن تشترك فيه جميعها، وتطبعه سمات موحّدة، والاختلافات لا تكاد تكون ذات دلالة لتؤشّر أن المرأة عموماً، كاتبة أو غير كاتبة، تعيش بحرّيّة كأنّها أخت للرجل سواء بسواء.

إنّ هذه الظروف كافّة دفعت المرأة الكاتبة، والشاعرة تحديداً أن تقاوم بالكتابة عوامل اضطهادها الثقافيّة والمؤسّساتية والمجتمعيّة والدينيّة، فتكتب من جملة ما تكتب عن موضوع الاضطهاد ذاته، كما فعلت الشاعرات: أمينة عبد الله وصفاء عبد العال كما بينت سابقاً، وسمر لاشين في ديوانها "على الأستروكا أن تظلّ خضراء"، حيث أهدت ديوانها "إلى كلّ النسّوة، ذوات الوجوه الخشبيّة، هذه محاولةٌ أولى لنزع المسامير من ذاكرةِ الخّشب"، وتحدثت عن كثير من القضايا التي تؤرق المرأة العربية جراء اضطهادها في تلك المجتمعات التي تعيش فيها.

تلجأ الشاعرات وهنّ يكتبن عن الاضطهاد إلى عدّة أساليب، منها الرمزيّة، احتيالاً منها على الرقيب "السياسي الاجتماعي الديني"، أو تدفعها تلك الظروف لتكون أكثر شجاعة فتتحدّث بلغة واضحة ومباشرة، كما فعلت الشاعرتان أمينة عبد الله وجمانة حدّاد، فتكون دائماً تحت المجهر، فتوصف بأوصاف لا إنسانيّة، وتتّهم اتهامات لا أخلاقيّة، فتوصم بالعهر والانفلات والإلحاد، وما شابه ذلك من أوصاف، ومن يتتبّع ما قيل في الشاعرة جمانة حدّاد على إثر معركتها مع "الإسلاميّين" على خلفيّة مجلّة "جسد" سيقرأ ما هو فظيع وسيّئ إلى درجة أكبر من أنّه اضطهاد أو قلّة احترام، إنّه نوع من تجريد الشاعرة من إنسانيّتها وأخلاقها.