تدوين- ترجمة: سعيد بوخليط
أسس غاستون باشلار (1884 -1962) نظاما فكريا متكاملا حول المتخيَّل واقتفاء لأثر أعماله ومؤلفاته أقرَّ كل التيار ''التيماتيكي'' (الموضوعاتي)، بأولوية هذا المتخيَّل.
انتصر باشلار إلى المعطى النفسي كعامل يحدد التأمل والإبداع. استلهم فكره قصد بلوغ إعداد دراسة حول الصور والاستعارات. وظف التحليل النفسي (حول اللاوعي الجمعي والأساطير)، كما فعل تماما مع الفلسفة قصد إدراك أهدافه. اعتبر، التاريخ الأدبي تأويلا خارجيا، بالتالي ليس ضروريا بخصوص استيعاب الأدب.
توخى نشاط غاستون باشلار، تطوير نظرية متكاملة عن الذات التي تكتب والتِّيمات الأدبية التي تُتَناول وفق معنى فلسفي، فانتهى به ذلك نحو الإتيان بمساهمة ثمينة وضعها رهن إشارة ممثلي وكذا الباحثين في الوعي والموضوعاتية.
تضمن المشروع البارع لغاستون باشلار تسعة عناوين أساسية:
التحليل النفسي للنار (1937)، لوتريامون (1939)، الماء والأحلام: دراسة في خيال المادة (1941)، الأرض والتأملات الشاردة للإرادة (1948)، الأرض والتأملات الشاردة للراحة (1948)، شعرية المكان (1957)، شعرية التأمل الشارد (1960)، شعلة قنديل (1961).
غاستون باشلار، الابستمولوجي، المؤرِّخ، فيلسوف العلم، أبان من خلال ذلك عن شخصية متفردة ضمن مسار تاريخ الفكر والعلوم، بحيث أحدث تغييرا على المناهج التي توطدت قبله.
أثار المختصون في كتاباته (كما الشأن بالنسبة لميشيل مانسي (1)، أو فانسان تيريان (2))، الانتباه إلى امتلاك باشلار منهجيات عدَّة وليس واحدة، ثم أضفى على المفاهيم التي وظفها معانٍ خاصة، بالتالي ينبغي حين الإحالة عليه، الانتباه إلى طريقة توظيفه للمصطلحات مثل ''التحليل النفسي'' أو ''الشعرية'' والسعي دائما لإعادة تعريفها حسب سياق الدلالات الباشلارية.
خلال سنوات 1930، بدأ اهتمامه بالظواهر التي تنهض من جهة على العلوم وكذا الخيال، مثل العناصر المادية الأربعة فانصبت أولى اهتماماته بهذا الخصوص على النار. تؤكد تأملاته، على تشكُّل خلال الآن ذاته سواء للمعرفة العلمية وكذا الشعرية: ''لذلك يتعلق الأمر بالعثور على مفعول القيم اللاواعية ضمن نفس أساس المعرفة التجريبية وكذا العلمية'' (3). يقصد باللاوعي، مجالا نعته جان إيف تاديي (4) بـ"قبل الوعي'': ''قشرة نفسية أقل عمقا، أكثر ذهنية"، بما أنَّ الأحلام تترك مكانها للتأمل الشارد: ''الأخير مختلف للغاية عن الحلم، بحيث يتمركز دائما تقريبا حول موضوع معين''.
يحدِّد التأمل الشارد العقد التي أبرزتها الأساطير الكبيرة واستلهمها عظماء شعراء الإنسانية، مثل عقد بروميثيوس، أمبادوقليس، وشعراء من قبيل إدغار آلا بو، إرنست هوفمان، إلخ. لقد وصف مختلف المواد التي بمقدورها أن تكون حاملة للنار: "كحول هوفمان، كحول يلتهب تميزه إشارة نوعية كليا، ذكورية تماما عن النار. أما، كحول إدغار بو، فيغمر ويمنح النسيان والموت، يتسم بإشارة تماما كمية، مطلقا أنثوية منبعها الماء، يمتثل الفكر الشعري بأكمله إلى إغراء صورة مفضَّلة'' (5).
لا يرى غاستون باشلار فاصلا صارما بين العلم، الفنون والشعر، مؤكدا في خضم ذلك على مفهوم حديثا كليا تجاوز حقبته: ''الحكواتيون، الأطباء، الفيزيائيون، الروائيون، جميعهم يحلمون، مستندين على نفس الصور ويقصدون نفس الأفكار'' (6). انطلاقا من هذه القاعدة، أرسى أنساقا بالنسبة لكل كاتب، ترتكز ضمنها الاستعارات على تركيب وكل شاعر يقدم تركيبا للصور بوسعنا استخلاصه عبر النصوص. يلزم على الناقد العثور ثانية على منطق هذه الأنساق، لكن المحافظة كليا على جدلية الفكر والكاتب.
بلورت أعماله حول خيال المادة، تلك العناصر المادية الأربعة بالاستناد على فنون وكذا قصيدة القرن التاسع عشر. حينما تكلم عن الماء، في الماء والأحلام (7)، فقد ميز بين المياه الصافية، الربيعية، المنسابة من خلال العلاقة بأسطورة نرجس. بعد ذلك، تحول إلى المياه العميقة، الراكدة ثم الميتة. الماء الثقيل في التأمل الشارد عند إدغار بو.
بالنسبة إلى تأملاته على مستوى التحليل النفسي، فقد تأثر عميقا بماري بونابارت ويونغ، أكثر من فرويد، مثلما يوضح جليا تأمله هذا بخصوص شعر إدغار بو: "اكتشفت السيدة ماري بونابارت، ضمن قراءاتها الدقيقة والعميقة لحكايات إدغار بو، السبب النفسي المهيمن على تلك الوحدة. هي وحدة خيال تعبِّر في نظر بونابارت عن وفاء لذكرى خالدة. لا يمكننا تصور تعميق استقصاء انتصر على كل الحالات المرضية، ثم ولج أبعد من التحليل النفسي غاية المستوى المنطقي والواعي. نستلهم إذن، بسخاء دروس التحليل النفسي التي راكمها مضمون كتاب ماري بونابارت. لكن، إلى جانب هذه الوحدة اللاواعية، نصبوا نحو إمكانية تمييز وحدة بين طيات عمل إدغار بو على مستوى وسائل التعبير، نبرة فعل يكتسي وفقها العمل رتابة رائعة. اتسمت دائما الآثار الكبيرة بهذه الإشارة الثنائية: يعثر لها التحليل النفسي على بؤرة سرية، النقد الأدبي فعل أصيل. بالتأكيد، لغة شاعر كبير مثل إدغار بو ثرية، لكنها تخضع لتراتبية. يخفي الخيال تحت آلاف أشكاله جوهرا مميَّزا، فعالا يحدِّد وحدة وتراتبية التعبير. لن نجد صعوبة كي نختبر لدى إدغار بو حضور الماء وفق منظور يجعل هذه المادة تحظى بامتياز، لا سيما ماء ثقيلا، أكثر عمقا، وموتا، وكسلا من كل المياه الراكدة، والميتة، ثم العميقة التي نجدها في الطبيعة. الماء مفضل بالنسبة لخيال إدغار بو، جوهر الجوهر، أمّ الجوهر. بوسع قصيدة إدغار بو وكذا تأمله شارد، أن يقدما لنا أنماطا قصد تحديد عنصر ضروري بخصوص كيمياء شعرية تؤمن بإمكانية دراسة الصور، بأن تُعَيِّن لكل واحدة وزنها على مستوى تأملها الشارد الداخلي وكذا مادتها الحميمة'' (8).
بعد ذلك، تعبر هذه الكيمياء الشعرية، موضوع الدراسات الباشلارية، عبر عقدتي كارون وأوفيليا، قصد بلوغها المياه المركَّبة والماء الأمومي، الأنثوي فعليا. يؤلِّف أثناء التركيب، بين الماء والتطهير قصد بلوغ خلاصة عنوانها ''كلام الماء'': ''كي أظهر جيدا الوحدة الصوتية بين القصيدة والماء، سأستعرض فورا تناقضا مفرطا: الماء خليل اللغة السائلة، لغة دون عائق، منسابة، مستمرة، تضفي مرونة على الإيقاع، وكذا مادة متجانسة على إيقاعات مختلفة. لن يحدث تردد بخصوص إعطاء كامل الدلالة إلى التعبير الذي يتحدث عن خاصية قصيدة سلسة ومثيرة تنساب من المنبع" (9).
واصل باشلار بين طيات أعماله اللاحقة، مشروعه الدقيق حول العناصر المادية الأساسية، ثم كتب شعرية المكان فعوضت التحليل النفسي الذاتي ظاهراتية للصور، تحدد لدى المؤلِّف، التالي: ''دراسة لظاهرة الصورة الشعرية حينما تنبثق الصورة التي تم تناولها في راهنها إلى الوعي، مثل تجلٍّ مباشر للقلب، الروح، الكائن والإنسان" (10).
يلزم الإلحاح أكثر حول سمات الكتابة الباشلارية، التي تماثل موضوعاتها، وتتحقق شعريا وتعبيريا، يتبدى ذلك حين اكتشاف الناقد والباحث أيضا مواهب الشاعر، وإن جاءت متأخرة إصدارات باشلار لدراساته الشعرية المستقلة، وارتبطت بسياق آخر حقب حياته.
عندما استعرض جان إيف تاديي، حصيلة عمل غاستون باشلار، فقد أضفى تثمينا بشكل خاص على المكانة التي يمنحها الكاتب إلى القارئ. باشلار مرهف الحس بخصوص أثر وكذا أصداء القول الشعري حين القراءة. إن بدا القارئ منفتحا جدا، يكون حينها قادرا على ملاحظة الظاهرة الوحيدة مثلما يجسدها النص الشعري، وبناء على شرط بهذه الكيفية، يلزم الاقتراب من: ''بهجة الكتابة، كما لو أنها تمثل نَفَسَ الكاتب وكذا حريته'' (11).
أخيرا، يخلص تاديي، إلى تقييم للمجموع: "يعيد النقد الباشلاري انطلاقا من الصورة، اكتشاف عالم، ترنو معه روح الفنان وجهة أن تحيا'' (12).
*نقد الوعي:
بفضل استلهامهم نصوص باشلار، طوَّر مارسيل رايمون وألبير بيغان، مؤسسي أول مدرسة في جنيف السويسرية، التأمل حول التيمات العميقة والتوليدية ضمن النصوص الأدبية، مثل الحلم، العناصر المادية الأربعة، الموت والأساطير المتعلقة بهذه الموضوعة.
*مارسيل رايمون:
احتضنت اهتمامات مارسيل رايمون (1897- 1981)، حقبا عديدة تهمُّ القصيدة الفرنسية منذ عصر النهضة والعصر الباروكي غاية بول فاليري، غير أنها حظيت بخيبة أمل عميقة من طرف النقد الرسمي في السوربون، الموسوعي والمتمكِّن.
معرفته العميقة بالفلسفة الألمانية وتأثير المذاهب الفنية خلال الحقبة، لا سيما حقبة السوريالية، أذكت وعيه نحو تاريخ الفكر وكذا الميتافيزيقا. بعد ذلك، ألغى اهتمامه بالسير الشخصية وتراكم معطيات بناء على مرجعيات من هذا القبيل، لصالح توجيه تركيزه نحو الأسلوب وكذا الماهية الشعرية للكاتب.
هكذا، حاول مارسيل رايمون عبر صفحات كتابه: ''من بودلير إلى السوريالية'' (13)، أن يعيش ثانية من الداخل حياة الكاتب. بحث في كل مكان قصد العثور على التجربة الأصلية، الأولى التي حَرَّضت وعي الكاتب، سواء تعلق الأمر ببودلير، روسو، السورياليين، أو بول فاليري. استنادا إلى التحليل النفسي، تطلع مارسيل رايمون صوب العودة إلى حالة أولى لحياة حميمة تكمن أبعد من إدراك العقل (14).
استعار خلال تحضيره لمفاهيم نظامه القاعدية، عناصر من تاريخ الفكر والفن، (لا سيما هاينريش وولفين) وكذا الفلسفة، مثلا على سبيل التذكير مفهومه حول القصيدة باعتبارها تجربة حيوية وكذا فكرة ظاهراتية الخيال الشعري، يدين بهما إلى فيلهلم ديلتاي، بينما استثمر ثانية عمله الكبير حول العصر الباروكي وكذا النهضة الشعرية (15)، النماذج التي بلورها هاينريش وولفين في كتابه الصادر سنة 1955، تحت عنوان: ''تاريخ الفن والمبادئ الأساسية''، الذي بادر مارسيل رايمون نفسه إلى ترجمته من الألمانية.
أيضا، نلاحظ بكيفية ملموسة تأثير برجسون والحيوية البرجسونية، مثلما كان الشأن عند مارسيل بروست، بحيث أدرك عموما سبيل كيفية ضمِّه الفلسفة الألمانية والفكر الفرنسي، وجعلهما منصهرين بين ثنايا أعماله النقدية.
لقد طبق بنجاح وفق تقاسم وجداني استثنائي، تقنية تماثل الناقد مع الكاتب الذي يدرسه مقتفيا بهذا الخصوص آثار جان جاك روسو: ''ساهمت السيرة الذاتية لروسو في المقام الأول كي تضفي تحولا على مفهوم الأدب نفسه، بالتالي لم يعد متمحورا منذئذ، حول العمل، كائن أو موضوع يوجد في ذاته، بل على الكاتب، أساسا الإنسان بشكل أكبر من خلال مأساته الشخصية وكذا فرادة رمزيته'' (16).
*ألبير بيغان (1901- 1957):
صديق مارسيل رايمون ورفيق دربه، ثم رجل سياسة منخرط في الصراع اليومي. جرماني بدوره، بحيث ترجم كثيرا عن الألمانية (جان بول، هوفمان، تييك، أميم، غوته). لقد اختار الرومانسية موضوعا رئيسيا لأبحاثه، أولا في أطروحته حول الحلم عند الرومانسيين الألمان وكذا القصيدة الفرنسية الحديثة، التي عبر عنها سنة 1937، ثم أضحت مشروع كتاب انطوت صفحاته تحت عنوان أكثر عمومية: ''الروح الرومانسية والأحلام، دراسة في الرومانسية الألمانية والقصيدة الفرنسية'' (1939). أتاحت له معرفته بالأدب الألماني، إمكانية توسيع آفاقه وإعطاء نظرة متكاملة عن الرومانسية عبر سبر مجال الحلم.
تصور بيغان النقد الأدبي نشاطا إبداعيا، أكثر منه علما، بل شعريا في ذاته حين السعي إلى تبني تجربة الشعراء الرومانسيين وكذا تمثُّلها ثانية. لقد تجاوز كتابه على نطاق واسع إطار المقارنة بين الرومانسية الألمانية والفرنسية وأعاد رسم المغامرة الروحية للناقد الذي استأنس مع الأدب الألماني وكذا الفرنسي.
قصد تمكُّنه من تحديد الفكر الرومانسي، فقد استعرض دواعي الأعمال المقصودة، المنبعثة من أحاسيس الشعراء الشخصية، قصد إعادة بناء: ''وحدة ناجمة عن الأصداء، الإشارات، وكذا تداخل التيمات''. تعتبر هذه الوحدة في الوقت ذاته هندسية واستطرادية، بناؤها موسيقي ويبدو نزوعها كي: "توحي بعدم اكتمال يلازم كل فعل للمعرفة البشرية، ثم إمكانية تحقق شيء زائد، وحدوث تطور''. يتصورها، كمجموع منفتح وليِّن، يتواصل ويعبر بطريقة ملائمة عن العالم الخاص لكل كاتب: ''تشكِّلها وجوه كثيرة مختلفة الواحدة عن الأخرى، بينما الوجه المنفرد خلال حقبة معينة باعتباره الأكثر طموحا و جرأة، كما عاشتها البشرية، بخصوص التصدي إلى الغموض"(17).
يوضح مفهوم الحلم واللاوعي بين طيات الكتاب، تأثيرا حاسما للتحليل النفسي على فكر ألبير بيغان، لكن البناء الأصلي للكتاب في الواقع، حسب جان إيف تاديي، يمثل دليلا أساسيا من أجل دراسة الفكر الرومانسي، الميتافيزيقا وكذا رمزية الحلم، الأسطورة واللاوعي والحلم كمصدر للقصيدة (18).
كما الشأن مع باقي الباحثين في التيماتيكية الأدبية، فقد استثمر ألبير بيغان شخصيا المنهج في دراساته، مما جعل كتابه يأخذ طابع سيرة ذاتية يستحضر في غضون ذلك تجاربه المعاشة، وتأملاته الشخصية وكذا بواعثه الذاتية التي تصاحب عمله. أشار إلى ذلك في كتابه: ''مدخل إلى الروح الرومانسية والأحلام'': "أستعيد صورا حميمة، رافقتني منذ سنوات، واتخذت لدي حقيقة محدَّدة جدا، بحيث أبذل قصارى جهدي كي أخترق لغز تلك الحيوات، بفضل الأعمال وكذا الاعترافات المهملة''(19).
*جورج بولي وأبحاث في الزمن الإنساني (20):
درس جورج بولي (من أصول بلجيكية، 1902 -1991)، العديد من الكتَّاب قبل كل شيء حسب معيار واحد مركَّب: المفهوم وتمثيل الزمان والمكان (21)، حسب قناعته بأنَّ هذه العلاقة (العلاقة النقدية)، تعتبر حاسمة بالنسبة لمنظور الجميع: "أخبِرْني عن الطريقة التي تتصور بها الزمان، المكان، ثم تميِّز وفقها تداخل الأسباب والأعداد، أو أيضا طريقتكَ على مستوى ترسيخ العلاقات مع العالم الخارجي، حينها أخبركَ من أنت" (22) .
أهم أعماله تلك السلسلة التي كرسها لـ''الزمان الإنساني" (23)، يجسِّد بلا شك مارسيل بروست إحدى شخصياتها المحورية. فيما يتعلق بالرواية- السيل البروستية التي تحمل عنوان: "البحث عن الزمن المفقود''، استعرض بولي أطروحته بخصوص ''اللحظة الأولى"، سمة بروست، لحظة منعزلة في الزمان نحو الخلف، تستدعي مثلما وُصفت في الجزء الأول (24)، نوعا من العدم، مثل ليل الأزمنة: ''حينما أستيقظ في جوف الليل، أحس بأني أجهل مكان وجودي، بل لا أعرف خلال الوهلة الأولى، الشخص الذي كنتُه، أحسست فقط بالوجود في خضم بساطته الأولى مثلما يمكنه الارتعاش داخل حيوان، كنت عاريا على شاكلة إنسان الكهوف'' (25).
لا توجد بداية سابقة عن بداية رواية بروست، إنها لحظة أولى، كما عند ديكارت أو كوندياك، وبول فاليري. لحظة تتسم ببساطة الأولي، ثم كانت أولى، فلأنها تصبح نقطة أصيلة فيما يتعلق بالتطور الهائل اللاحق لها، بحيث لن تكون موجَّهة نحو هذه الصيرورة، بل اللاشيء الذي يسبقها.
ليست اللحظة الأولى هنا، بلحظة امتلاء أو زخم. لحظة منتفخة ليس بإمكانياتها المستقبلية، أو حقائقها الحالية. وإن أظهرت عوزا جوهريا، فليس لأنها تفتقد شيئا يتواجد أمامها، بل خلفها: شيء لم يكن قط وليس لم يتم بعد. نقول بأنها لحظة أولى بالنسبة لكائن أضاع كل شيء، تلاشى، لأنه مات: ''لقد نمت كثيرا، لم أعد موجودا. بالكاد شعرت بالمنبِّه، ميكانيكيا وبلا وعي (26). ينبجس النائم المستيقظ من نوم، أكثر عوزا قياسا إلى رجل المغارات. إنه عوز المعرفة: إذا اختُزِل إلى حالته تلك، فلأنه لا يدرك ما هو عليه (27).
رسمت دراسات جورج بولي حول الزمان الإنساني، تشكيلة مجموعة كتَّاب فرنسيين، مثل مونتين، باسكال، بلزاك، فلوبير، فاليري، هوغو، مالارميه، لكن أيضا جوزيف جوبير أو كازانوفا. أعماله الرئيسة التي لم تنصب على الزمان الإنساني، اهتمت بالمكان موضوعه الآخر المفضَّل، مثلما قاربته أطروحات كتابيه: تحول الدائرة (1961)، فضاء بروست (1963).
وضع جورج بولي، رهن إشارة النقاد، معطيات بلورت ملامح اتجاه نعتوه بـ''نقد الوعي''، وقد أوضح كتابه الوعي النقدي (1971)، مبادئ منهجيته الظاهراتية التي ترتكز على ملاحظة ثلاثة مستويات. بخصوص الأول، يمنح وعي الكاتب نفسه إلى أشياء، وخلال مرحلة ثانية، يتجاوزها كي "يتناول ذاته''، أما حين بلوغه الثالث، فقد تأتى له أخيرا إدراك نقطة: ''لا يعكس خلالها شيئا، مكتفيا بوجوده، دائما داخل العمل، لكنه مع ذلك فوق العمل''.
حين تطبيقه هذه المبادئ، على وقائع ملموسة، مثلا بول فاليري وحكايته المعنونة بـ''السيد تيست Test''، سيركز على النوم، كنقطة انطلاق لتسليط الضوء على بطل فاليري: ''يعتبر زمن النوم، أوليا وأصليا، الأول بالنسبة لتاريخ هاته ''الأزمنة المستقلة عن بعضها البعض''، بحيث يجسِّد تعايشها المتناقض المسألة الأكثر استغرابا التي لا يمكننا قط أخذها بعين الاعتبار. زمن دون ماض ولا مستقبل، دون تغيير أساسا، ولا يختلف عن الافتراضي الذي نسميه أبدية، وإلا تحيطه من كل الجوانب مساحات الوعي'' (28).
خلال مرحلة لاحقة، أبرز مضمون الحرية، الممكنات المفترضة لهذا النوم، ثم البيئة الخارجية التي تحيط بالنائم واصفا فضاء فاليري الذي: "بلوره تركيب مهام متغيرة باستمرار'' وتلتئم بكيفية فوضوية. مع ذلك، تنبثق من هذا المجموع الفوضوي ''وحدة معينة''، يمنح الفكر نفسه ضمن نطاقها حدودا ويصف قواعد ترسخ أشياء وفق بنية ذهنية. تغيِّر حركة الفكر الدائمة مرة أخرى العوامل الزمنية: ''بدل أن نتخيَّل أنفسنا قد تحدَّدنا نتيجة القائم، ها نحن نرجئ عدم تحديدنا صوب الخلف كي نجعل من الماضي نوعا من المستقبل السابق'' (29).
يعكس هذا الخيال المتحرِّك إحدى سمات فكر فاليري: ''بالنسبة لبول فاليري، وكذا فيكتور فيني، يتجلى أساسا نشاط الإنسان الروحي، في دلالة المستقبل الشغوفة" (30). بعد وصفه لهذا المستقبل عند فاليري، لاحظ الفترة الزمنية التي ستكون بمثابة: "ذرَّة زمنية، شيء صلب، راسخ، دائرة منغلقة تعارض الغامض بجدرانها الزمنية، وكذا الفوضى، تتجنَّب الوقائع الحسية، تكمن داخلها وبين طياتها حياة مرتعشة تنزع صوب وجهة ذروتها''(31) .
يمثِّل كتاب جورج بولي المخصَّصِ لدراسة المكان عند مارسيل بروست (1963)، واحدا من قمم أعماله، مدَّد التأمل في الزمان البروستي نحو الفضاءات المفضَّلة عند راوي البحث عن الزمن المفقود. يؤثر الأمكنة المفقودة المرتبطة بحضور إنساني: أطلال، مجاري مهجورة، مناظر طبيعية، إلخ، لكن الظهور المختلف لمواقع غير متصلة فيما بينها، تطرح الروابط الوسطى بين المقاطع قضايا على الراوي يحاول تجاوزها بالسفر أو تغيُّرات المنظور. هكذا، تتشكل لوحات متتالية داخل النص، ونلاحظ الواحدة بجانب الثانية قصد بلوغ النتيجة التالية: ''زمن مارسيل بروست هو زمن مكاني، متجاور''.
يوضح جورج بولي بهذه الكيفية الوظائف والدلالات المتوارية للتحولات بين الزمان والمكان ضمن نص بروست، عوض وصف السطح، النموذج المبدئي للبحث في المكان. باعتباره فيلسوفا، يتقاسم بولي مع باقي نقاد الوعي، خاصية التماثل مع الكتَّاب المختارين، وكذا إعادة خلق تيمات العمل الخاضع للمقاربة النقدية، بفضل تجارب شخصية.
____________________________________________________________________
هوامش المقالة:
*مرجع المقالة:
Ilona Kovacs :introduction aux méthodes de la critique littéraire ;Budapest . 2006
Page :42-59.
كتب دراسة عنوانها: ''غاستون باشلار والعناصر''، باريس، جوزي كورتي 1967
(2) أصدر أبحاثا عن باشلار من قبيل: ''ثورة غاستون باشلار في النقد الأدبي، الأسس، التقنيات، الحمولة''، أو "من الفكر العلمي الجديد إلى فكر أدبي جديد'' باريس 1970
(3) التحليل النفسي للنار، ص 118.
(4) جان إيف تاديي، جان إيف: النقد الأدبي خلال القرن العشرين، باريس، 1987، ص108 .
(5) التحليل النفسي للنار ص .182
(6) نفسه.
(7) الماء والأحلام: دراسة في خيال المادة، باريس، جوزي كورتي، 1942 .
(8) نفسه: ص63- 64
(9) نفسه: ص 250
(10) شعرية المكان: ص 19
(11) جان إيف تاديي، مرجع سابق، ص 112
(12) نفسه ص 113
(13) من بودلير إلى السوريالية، دراسة في الحركة الشعرية المعاصرة، باريس، 1933 .
(14) نفسه ص 354
(15) باريس، جوزي كورتي، ص1955 .
(16) مدخل إلى الكتابات السيرية عند جان جاك روسو، باريس غاليمار، 1937 .
(17) نفسه ص 50
(18) جان إيف تاديي، مرجع سابق، ص81 - 84
(19) ألبير بيغان، مرجع سابق، نفس الصفحة.
(20) باريس 1949
(21) دراساته حول الزمان الإنساني، باريس 1949، والفضاء البروستي، باريس غاليمار 1963
(22) جورج بولي: حوار مع نفسي، باريس، جوزي كورتي،1977، ص 5
(23) دراسات في الزمان الإنساني، باريس 1949
(24) على مقربة من سوان Swan، وردت في دراسات الزمن الإنساني، بروست، ص 400-438 .
(25) وردت عند جورج بولي: على مقربة من سوان،ص 11
(26) وردت عند جورج بولي: ص 11
(27) جورج بولي: دراسات في الزمن الإنساني، ص 400- 401 .
(28) نفسه ص 387-386
(29) نفسه ص 393
(30) نفسه 394
(31) نفسه ص 398