الجمعة  22 تشرين الثاني 2024

فوكو راهنا أو في فلسفة المقاومة

2023-07-13 11:24:23 AM
فوكو راهنا أو في فلسفة المقاومة
ميشيل فوكو

تدوين-ثقافات

نشرت مجلة الفكر العربي المعاصر في عددها الخامس والثلاثين الصادر في شتاء 2015 مقالة للكاتب التونسي عبد السلام حيدوري بعنوان فوكو راهنا أو ( في فلسفة المقاومة).

وفيما يلي نص المقالة:
التساؤل عن راهنية فوكو لا يكون إلا بأسئلة فوكو ذاتها، ذلك إننا إزاء فيلسوف جعل من الراهنية إشكالا وموقفا قائما في الفلسفة، ومن التفلسف تشخيصا للحاضر وانفتاحا على الصيرورة، فمن أركيولوجيا المعرفة (الحقيقة) إلى جنيالوجيا الممارسات الخطابية وعلاقتها بالسلطة الحيوية (السلطة) إلى أنطولوجيا ذواتنا (الذات)، تخرج الفلسفة مما يعرف باللافلسفي أو غير الفلسفي بعبارة فوكو إلى الراهن الذي يمثل حقل التفلسف بامتياز.

إن الانشغال بالراهن ليس اهتماما بالتاريخ، بل يتم عبر مساءلة التاريخ على نحو إشكالي لاستجلاء ما يتصل بقضايا الحاضر عبر تفكيك التاريخ بما هو أرشيف الحاضر، التاريخ الذي يساعدنا على معرفة من نكون وما نحن عليه لنتمكن من التفكير في صيرورتنا الأخرى، في آخر للذات وعالم مغاير لعالم الذات، أي ما نحن بصدد الاختلاف عنه في صيرورتنا التي نطمح أن نكون.

إن مشكل الراهن هو مشكل فوكو راهنا [(*)] في حاضرنا بعدده وخرائطه التي تساعدنا على الكشف عن ألاعيب الحقيقة وممارسات السلطة وكيفيات مقاومتها (1)، فراهنيتنا ليست منفصلة عن فوكو راهنا، وليست في منأى عن المعاناة والعجز الذي نعيشه في واقعنا نتيجة هيمنة السلطان وتنوع أشكال الرقابة الكونية والممارسات الإخضاعية.

إن فوكو لا يسعى إلى كتابة تاريخ الماضي، بل تاريخ الحاضر: "ما أريد أن أكتب تاريخه، هو ذلك السجن مع كل الاستثمارات السياسية للجسد التي يجمعها في هندسته المعمارية. أبمقارنة تاريخية صرف؟ كلا، إذا كان المقصود بذلك كتابة تاريخ الماضي بألفاظ الحاضر. أجل، إذا كان المقصود بذلك كتابة تاريخ الحاضر) (2)، لا تهدف الكتابة التاريخية لدى فوكو إذن إلى فهم عصر ماض، ولا تشخيصا لعصر معينا بأفراده ومؤسساته، ولا معرفة القوانين التي تحكم التاريخ، بل يسعى إلى تشخيص الحاضر بما هو حاضر تعذيب الجسد ومراقبة رغباته واخضاع الذات والتلاعب بها في إطار استراتيجيات مخصوصة لسلطة مهمتها تدبير الحياة والتحكم فيها.

إن تشخيص الحاضر هو ما شكل لدى فوكو ودولوز حقلا لنقد ما يسمى بالحداثة ليوضح عنفها كتجربة تاريخية، ولاستجلاء قيمها، ومعرفة قيودها وأشكالها التمييزية والاختزالية، أي على إرادة القوة الخاصة بها. هذا التشخيص النقدي هو ما يمكن أيضا من استشراف الممكن عن طريق الاستعادة والاستحضار النظريين للعبة الأقنعة والقوى التي تحوك أوجه هوياتنا وتحول التاريخ إلى مشهد كرنفالي مضخم (3)، وعوضا عن التسليم بعتبة الهويات التاريخية والإبقاء عليها كبداهات، على الفكر النقدي أن يتبين أوجه التشتت والانكسار، ذلك أن الهوية هويات متفرقة ومتكثرة والفصل فيها يكون بمحايثة الفكر إلى الحياة.

لا تهدف الكتابة التاريخية لدى فوكو إذن إلى فهم عصر ماض، ولا تشخيصا لعصر معينا بأفراده ومؤسساته، ولا معرفة القوانين التي تحكم التاريخ، بل يسعى إلى تشخيص الحاضر بما هو حاضر تعذيب الجسد ومراقبة رغباته واخضاع الذات والتلاعب بها

إن تفكر راهنية فوكو في صيغة الارتباط بين الفكر والحياة يجعل من شرط الراهنية الإنشداد إلى المحايثة والحياة للوقوف عند الفرق والمختلف، لأن راهنيتنا تقتضي أن نفكر على نحو مغاير وأن نعيش الحياة بأسلوب مختلف، أسلوبا يحدث فرقا في الوجود. إن هذا الجنس من الفكر ونمط الوجود هو ما نجده متشكلا بين دولوز وفوكو لأنهما جعلا من الراهن حقلا للتعدد والاختلاف، ومن الحياة أسلوبا وفنا في العيش، بحيث يتخذ التفكير في الراهن لنفسه إيقاعا لأغنية الصيرورة والترحال لحظة التماس بين الذات وآخرها، مسافة بين الذات وذاتها استشرافا للخارج / Dehors لقول دولوز: "يتكون من مسافات لا تنحل إلى أخرى أبسط منها، مسافات تؤثر بها قوى في أخرى أو تتأثر هي ذاتها بقوى غيرها. ثمة إذن صيرورة قوى تختلط بتاريخ الأشكال، مادامت تعمل ضمن بعد آخر يتعلق الأمر بخارج أكثر ابتعادا من أي عالم آخر، بل ومن أي شكل خارجية برانية، يتعلق بخارج قريب كل القرب. إذ كيف يمكن لشكلي الخارجية أن يكون خارجيين بالنسبة لبعضهما البعض لو لم يكن ثمة خارج أكثر اقترابا وأكثر ابتعادا؟ انه الشيء الآخر"(4).

ليس غريبا تفكر راهنية فوكو باستدعاء دولوز[(*)] فما بينهما ارتباطا فلسفيا وروابط إشكالية متينة وغامضة في الهنا والآن (5)، وليس قصدنا المقارنة أو المقابلة بينهما، بل معاودة التفكير في العلاقة للتساؤل عن راهنية فكر فيلسوفنا في واقع
الإنسانية اليوم وفي حاضرنا من أجل أن نستخلص صورة الفيلسوف ومهمة الفلسفة تجاه ما يحدث في عصرها، وما تعيشه الإنسانية من أحداث وتقلبات جعلت من الحرب والصراع [(*)] الحالة العادية التي تسم الراهن (6)، وما تشهده من أزمات وتوترات تجتاح وجود الذات التي تحتاج فيها إلى عدد ومخططات ومعايير استراتيجية ترسم الفعل وتحث الذات على مجاوزة حاضرها نحو صيرورتها الأخرى.

فوكو ودلوز

يقول دولوز في هذا السياق متحدثا عن فوكو بعد وفاته: "(...)، من أهم نتائج المعايير والمخططات الاستراتيجية    Dispositifs تغيير الاتجاه الذي ينصرف عن الأبدية لإدراك اللحظة المتجددة ولا تفترض هذه الأخيرة تحديد الأسلوب، وانما تقتضي الإبداع الخلاق والمتغير حسب الاستراتيجيات المخططة (...) إننا ننتمي اليوم إلى معايير استراتيجية أخرى، نتحرك عبرها وفي ثناياها. راهنية حداثة معيار استراتيجي مقارنة مع سابقيه هي راهنيتنا نحن الجديد هو الراهن L ' actuel . الراهن ليس ما نحن عليه، وما نحن بصدد كونه، ما نحن بصدد صيرورته، بمعنى الآخر L' Autre صيرورتنا - الأخرى (7)autre - Notre devenir فبواسطة تلك المخططات تمكنت الذات من الخروج عن سيرورات تذييتها لتفكر في مصائرها وكشفت عن مستطاعها على الإبداع الذي تجلى في فعل تحول الذات من الموضعة والإخضاع وانفلاتها من عملية التولد الذاتي بواسطة المقاومات إلى تشكيل ذاتها إتيقيا وجماليا، بحيث لم تعد الذات تقبل بما هي عليه، بل تفعل وفقا لمنطق صيرورتها وبما تريد أن تكون. واذا كان التاريخ هو حقل تمظهر سيرورات التذييت التي ما انفكت الذات تقطع معه، فإن الراهن هو الآخر الذي يشكل صيرورة الذات والذي تسعى إلى التوافق معه.

هذا التعاطي مع التاريخ جعل الفلسفة مع فوكو ضربا من الأرشيف والتفلسف حفرا في الأنساق وتشخيصا للراهن، بل لعل ما جعل من فوكو من كبار الفلاسفة في حكم دولوز لأنه اشتغل بالتاريخ على نحو مغاير "إذا كان فوكو يعتبر من كبار الفلاسفة، لأنه استعان بالتاريخ لفائدة شيء آخر مثلما قال نيتشة: التصرف ضد الزمن وأيضا على الزمن لفائدة زمن مقبل، وهذا ما آمله. لأن ما يظهر كالراهن أو كالجديد، حسب فوكو، هو ما يسميه نيتشة غير المناسب أو غير الراهني أو اللاراهن [(*)]، هو هذه الصيرورة التي تنشطر عن التاريخ وهذا التشخيص الذي يأخذ شكل التحليل بطرق مختلفة" (8).

إن تفكر راهنية فوكو في صيغة الارتباط بين الفكر والحياة يجعل من شرط الراهنية الإنشداد إلى المحايثة والحياة للوقوف عند الفرق والمختلف، لأن راهنيتنا تقتضي أن نفكر على نحو مغاير وأن نعيش الحياة بأسلوب مختلف، أسلوبا يحدث فرقا في الوجود.

إذا كان حقل التاريخ بما يحتويه من أحداث وتحولات وبما يتضمنه من رؤى وخطابات هو ما يكشف عن لغز الذات في تأزمها وانزياحها، وعن استراتيجيات التحكم فيها وتفريدها ووضعها في حيوزات تسهل مراقبتها وإعادة إنتاجها بإدارة حياتها وموتها، فان الفيلسوف الحق هو الذي يجعل من التاريخ الوثيقة Archive والذي يفرق الذات عن ذاتها، حقل الممارسة التفكيكية التجاوزية للتاريخ في اتجاه الراهن الذي يجمع الذات بصيرورتها "تحليل الوثيقة يحتوي إذن على جانب مفرد؛ هو في ذات الوقت قريبا من الذات ومختلفا عن راهنيتها، إنه حافة الزمن الذي يحيط بحاضرنا والتي تشرف عليه الذات وتدل على تغيره، هو ما يحددنا من الخارج. (...)، فهو يبدد هذا التطابق الزمني حيث نستحب رؤية ذواتنا لتجنب انفصالات التاريخ. إنه يكسر منحى الفلسفات النهائية والمتعالية حيث يساءل الفكر الأنثروبولوجي كينونة الإنسان وذاتيته ويفجر الآخر والخارج. التشخيص بهذا المعنى لا يؤسس محضر هويتنا عبر لعبة التمايزات. فهو يؤسسنا كاختلاف وان سببنا هو اختلاف الخطابات وان تاريخنا هو اختلاف الأزمنة وانيتنا هي اختلاف الأقنعة" (9).

يكمن رهان الممارسة الحفرية في حقل التاريخ في استكشاف المفاهيم الباطنية والمتخفية لحقيقة الممارسات والخطابات في الثقافة الغربية واستجلاء ملامحها لبيان كيفيات اشتغالها وانتاجها للفعل السلطوي ولأنماط التحكم في الأفراد وسترجة (من الاستراتجية) حياتهم وتسخير كياناتهم وأجسادهم تسخيرا سياسيا.

ولا يتسنى للفيلسوف أن يبلغ هذا الرهان ويدرك الحقيقة إلا بنمط مخصوص من الكتابة بما هي تفكيك وهدم وشكل معين من الأسلوب بما هو رسم للخرائط، إنها صورة فوكو، فيلسوف الحفر وتشخيص الراهن، فهو من جنس الفلاسفة الذين يفكرون وهم يتكلمون ويكتبون، الكتابة بما هي بحث في طيات الكلمات في سطحها وعمقها وفي ثنايا الخطاب وفي تفاصيل العبارة، في انكساراتها وخوائها وتموجاتها واقترابها أو ابتعادها من الحقيقة: "إن عملية الكتابة هي تهديم في حد ذاتها، وللكاتب في ممارسته لهذه العملية ذاتها حقا في الهدم غير قابل للتقادم ويكون الكاتب بالتالي ثوريا، وبقدر ما تكون الكتابة كتابة بقدر ما تتغلغل في لزوميتها وتنتج حركة الثورة (...)" (10)، إن من يكتب بهذا المعنى إنما يقول الراهن ويشكل الصيرورة وينخرط في المغايرة، ويعبر فعل من يكتب، لقول دولوز، عن رغبة الذات في أن تقول ذاتها وتعبر عن رغباتها وأفكارها. والإنسان الذي يكتب هو كآلة راغبة (11) تنكشف لحظة القول والكتابة، إن راهنية الكتابة وأهميتها تكمن في البحث عن مواقع الصراع [(*)] والمقاومات بالبحث في تموقعات السلطة المصغرة والمحلية والبؤر التي لا نعتقد أن فيها سلطة (12): "الكتابة صراع ومقاومة، الكتابة صيرورة، الكتابة رسم لخرائط، "فأنا خرائطي"(13).

يستمد فوكو راهنيته من نمط الكتابة التي تروم لقاء الصيرورة واللاراهن، ومن جنس التفلسف بما هو سؤال عن الفلسفة وتشخيص لواقعها، تساؤل فلسفي يخرج عن الفلسفة، بل يخلص الفلسفة مما ليست فلسفة أو غير الفلسفي [(*)]: "إننا لا نخرج عن الفلسفة ببقائنا داخلها، لا بل بمعارضتها بنوع من الحماقة المندهشة والمرحة، وبنوع من القهقهة التي لا تفهم والتي هي في النهاية تفهم، أو على كل حال تكسر، نعم تكسر أكثر مما تفهم (...) إن نيتشة وباتاي وبلانشو وكلوسفسكي مثلوا بالنسبة لي أساليب للخروج عن الفلسفة"(14).

لقد كان فوكو يتفلسف على نحو نيتشوي كما يقول دولوز: "كان يؤدي وظيفة الفلسفة كما حددها نيتشة مهاجمة البلاهة. فالفكر لديه عبارة عن عملية غوص نحرج دائما شيئا ما إلى النور. إنه فكر ينتج الطيات ثم فجأة يمتد كاللولب) (15). إن هذا الجنس من التفكر هو الذي يجعل من الفلسفة تساؤلا عن حاضرها وعن اللحظة التي نكون فيها وننفتح على صيرورتنا الأخرى، مساءلة الراهن في اتجاه مشكلته لا بمعنى تمثله وخلق موضوع آخر، بل إدراجه ضمن لعبة الحقيقة والسلطة وتفكره ضمن لعبة الصواب والخطأ وتشكله بالتالي كمنطلق لتفكر معرفي أو إتيقي أو سياسي.

ولا يتسنى للفيلسوف أن يبلغ هذا الرهان ويدرك الحقيقة إلا بنمط مخصوص من الكتابة بما هي تفكيك وهدم وشكل معين من الأسلوب بما هو رسم للخرائط، إنها صورة فوكو، فيلسوف الحفر وتشخيص الراهن، فهو من جنس الفلاسفة الذين يفكرون وهم يتكلمون ويكتبون، الكتابة بما هي بحث في طيات الكلمات في سطحها وعمقها وفي ثنايا الخطاب وفي تفاصيل العبارة، في انكساراتها وخوائها وتموجاتها واقترابها أو ابتعادها من الحقيقة

إن التفلسف على نحو نيتشوي [(*)] هو ما يشكل عنصر الراهنية (16)، وهو ما يمثل إنزياحا في فكر فوكو من الأركيولوجيا إلى الجينيالوجيا إلى أنطولوجيا الحاضر وذواتنا نحن، والجنيالوجي هو من يصف لنا تاريخ التأويلات المتراكمة للأفكار ولكنه لا يعتبر ذلك التاريخ نموا ولا ازدهارا لفكرة الحقيقة. ويقوم فعله في هدم البداهات الراسخة، في نسف أفكار الأصل والمعنى والقيمة؛ في إعلان الغياب الدائم لأي أساس: "ليس مرمى التاريخ الجنيالوجي إذن هو استرجاع جذور هويتنا، وانما هو على العكس من ذلك تقويضها وتبديدها (...)، إنه يسعى لإظهار كل الانفصالات التي تخترقنا"(17).

هناك فقط انقطاع وانفصال حيث يرى الآخرون اتصالا وهميا، واختلاف وفرق حيث يرى البعض هوية وتطابقا. الجينيالوجي فيلسوف اللاراهن هو من يجب أن يكشف عن لعبة صراع الإرادات والقوى، فحيثما صوب فكره عليه أن يبحث عن مظاهر الخضوع والهيمنة والصراع، وكلما تطرق إلى سمعه حديث عن القيم والفضيلة فعليه أن ينكب على تعرية أساليب السلطة والهيمنة[(*)].

فمن تحليليته لمواقع الحجز ومن استجلائه لجدران السجن وتفكيكه لتركيبة المؤسسات التي تعمل وفقا لاستراتيجيات سلطوية ومن المجنون إلى المعذب والسجين والسوي ينتقل فوكو من مجال الأركيولوجيا/ الجنيالوجيا إلى مجال آخر من التاريخ ليفسح المجال لتلك الأماكن التي تتحرر فيها الذات بضرب من التدبير الإتيقي للكلام والقول الحق.

ومن تعيين مواقع العزل والمراقبة الاجتماعية وسلطة الإخضاع إلى تحليلية السلطة تنكشف أنماط وأشكال موضعه الذات وكيفيات تشكل الذات الغربية ويظهر المخطط الإجمالي لما يمكن أن يشكل رسما خرائطيا لعمليات التفريد ولطريقة ممارسة السلطة ولأشكال التذييت، أي السلطة التي تطبع آثارها في الجسد والسكان لتتحول إلى سلطة حيوية تدير الحياة والموت ويتمفصل في تركيبتها الشأن البيولوجي والشأن السياسي وفقا لاستراتيجيات وترسيمات وخطوط مقصدها تسييج الفرد والتحكم في أفعاله خوفا من مستطاع دفين في داخل الذات تمثل استفاقته بداية لمقاومات تهدد السلطة وتفتح على كينونة الذات.

نيتشة وفوكو

لم يكتف فوكو في فلسفته بتفكيك الأبنية الخطابية والممارسات السلطوية المنبثقة عنها والمستندة إليها وفضح الحاضر بل إن الوجه الآخر لراهنيته تكمن في اكتشافه لحقل آخر من التفكير ضمن مجال آخر من التاريخ هو حقل التفكير في إتيقا الذات تكون به الفلسفة طريقة في التخلص من الذات الخاضعة إلى حرية الذات الساعية نحو صيرورتها: "(...) فوكو فيلسوف عظيم وهو أيضا مبدع ومدهش في مجال الأسلوب. فقد فصل المعرفة والسلطة على نحو مختلف ووجد بينهما علاقات خاصة. واكتسبت معه الفلسفه معنى جديدا. ثم إنه أدخل سيرورات التذييت كبعد ثالث للمنطوقات Dispositifs يعطي دفعا جديدا للمعارف ويعدل السلط: فيفتح بذلك نظرية كاملة وتاريخا لأشكال الكينونة (18).

وهكذا يتوجه التفكير مع فوكو في انزياحاته وانعطافاته نحو تفكر كيفيات تشكل الكينونة، فما بين تقنيات الهيمنة والإخضاع وتقنيات ممارسة الذات لذاتها يطرح التلاقي بين السياسي والإتيقي بل وينضاف إلى المشكل السياسي مكونا إتيقيا حتم علينا التفكير في حقيقة مفصلة السياسي بالإتيقي قصد الكشف عن منزلة الذات لحظة إخضاعها وارادتها الخروج والفعل إتيقيا في اتجاه حريتها.

تحدد التمفصل بين الإتيقي والسياسي لحظة انتقال فوكو من مقاربة إشكالية السياسة من جهة حكم الآخرين ولفنون الحكم في العصر الكلاسيكي ومعقولية الحكمانية في النموذج الليبرالي للكشف عن عمليات التفريد وتحويل الفرد إلى ذات، أما المقاربة الإتيقية فقد تحددت لحظة الانعطاف في فكر فوكو لمقاربة إشكالية أشكال حكم الذات لحكم الآخرين من خلال تجربة تدبير الذات لذاتها وتشكيل ذاتها لتكون جديرة بحكم الآخرين تدبيرا يتمفصل فيه الإتيقي بالإستيتيقي.

تجلى السياسي في تصور الذات من وجهة نظر السلطة الإنضباطية وأشكال الإخضاع وبتاريخ مركز حول إجراءات التوضيع/ الموضعة Objectivation وتأسس الإتيقي لحظة تصور لذات قادرة على تشكيل ذاتها كذات داخل حقل تكون فيه حرة تجاه إجراءات المنع والحجز وبواسطة إجراءات التذييت subjectivation التي هي إجراءات إتيقية في جوهرها. ولم يعد الأمر يتعلق بالحجز والمنع والعزل، فإواليات السلطة التي تصف المراقبة والعقاب والتعذيب وترسيماتها واستراتيجياتها تترك المجال لتجارب المتع والملذات وتفسج المجال للرغبة حيث يجب على الذات أن تدير حياتها بحسب أشكال محددة من ممارسة ذاتها وحياتها، وأن تحول وجودها إلى عمل فني وفقا لأسلوب مخصوص في الوجود: "هذا ما حاولت تشكيله من جديد نشأة وتكون ممارسة ذاتية هدفها هو أن يجعل المرء نفسه صانعا لجمال حياته الخاصة (19).

إن التقابل بين القانون والممنوع من جهة وفن الحياة وتقنيات الذات وأسلبة الوجود Pexistence de Stylisation  من الجهة الثانية، هو تقابل بين الإخضاع والتحرر بين الموضعة والتذييت، تقابل يجعل من الحرية مشكلة الذات التي تتوهم حريتها لحظة موضعتها.

إن قدر الذات هو أن تعيش في السلطة وبالسلطة فأينما ولت الذات وجهها، إلا وتوجد سلطة وحيثما توجد سلطة يوجد فعل المجابهة والمقاومة لكن مأزق الذات يكمن في سلطة على الحياة أم حياة السلطة، سلطة الحقيقة أم حقيقة السلطة

فاذا كان لا مناص للذات من سيطرة سلطة مجهرية متخفية والتي تلاحق الذات أينما حلت، فانه لا مناص لسلطة ميكروفزيائية من الذات التي تنصت لنداء حريتها والتي تنخرط في مقاومات من أجل إفتكاكها وفرضها واقعا. واذا كانت السلطة تدميرا للذات وتحويلا للحرية إلى توهم فان حرية حقيقية للذات رهينة الانخراط في تجربة الحرية بما هي خروج من مأزق توهم الحرية وذلك بممارسة الإنهمام الإتيقي وجمالية الوجود.

إن قدر الذات هو أن تعيش في السلطة وبالسلطة فأينما ولت الذات وجهها، إلا وتوجد سلطة وحيثما توجد سلطة يوجد فعل المجابهة والمقاومة لكن مأزق الذات يكمن في سلطة على الحياة أم حياة السلطة، سلطة الحقيقة أم حقيقة السلطة: ففي اللحظة التي اتخذت فيها السلطة الحياة موضوعا وهدفا تشكلت مقاومة للسلطة تستند بدروها إلى الحياة: "في الإنسان ذاته يجب تحرير الحياة، مادام الإنسان نفسه يعتبر كبحا لها. تغدو الحياة مقاومة للسلطة في الوقت الذي تتخذ فيه السلطة من الحياة موضوعا (...) عندما تغدو السلطة حياة السلطة، تغدو المقاومة سلطة الحياة، سلطة حيوية تند عن التحديد وعن التعيين داخل مسالك هذا المبيان أو ذاك. القوة الصادرة عن الخارج، أليس في هذا دعوة إلى فكر الحياة، أليس فيه نوع من النزعة الحيوية التي ينتهي إليها فكر فوكو؟ أليست الحياة، تلك القدرة على مقاومة القوة (20).

إذا كانت السلطة هي قدر الذات، فان المقاومة هي سلاح الذات ضد السلطة لذلك يجب أن نبحث في الإنسان ذاته عن القوى التي تقاوم موت الإنسان، واذا كانت السلطة ليست موضوعا للحيازة والتملك، بل تمارس انطلاقا من نقاط لا تحصى، واذا كانت السلطة محايثة للحياة وتأتي للإنسان من الأسفل لتوليد الآثار التقسيمية والتوزيعية لتخترق المجابهات والمقاومات، واذا كانت السلطة قصدية وبلا ذات تحكمها وقاحة موقعيه وعقلانية تكتيكية فإنها بتمظراتها تلك وبأسلوب تخفيها إنما ترسم جاهزية عامة للقبض على الإنسان أينما كان قصد ترويعه والتحكم في قواه الأشد خطرا على السلطة.
لكن السلطة التي أنتجت استراتيجياتها وترسيماتها لإخضاع الذات وضبطها هي ذاتها التي خلقت المقاومات والمجابهات وقوى الرفض والتمرد: "إنه حيثما توجد سلطة توجد المقاومة (...) فلا يمكن أن تنوجد هذه العلاقات إلا تبعا لتعدد نقاط المقاومة (...) فنقاط المقاومة هذه موجودة في كل مكان في الشبكة السلطوية، لا يوجد إذا بالنسبة إلى السلطة مكان واحد للرفض الكبير – روح التمرد - مركز جميع أنواع العصيان، قانون واضح للثوري.

توجد مقاومات تشكل حالات نوعية: مقاومات ممكنة، ضرورية، مستبعدة، عفوية، وحشية، منعزلة، متفق عليها، زاحفة، عنيفة، متضاربة، سريعة في قبول التسوية، مهتمه أو مستعدة للتضحية فان هذه المقاومات متعذرة الوجود إلا في الحقل الاستراتيجي للعلاقات السلطوية"(21).

تكمن قوة فوكو وراهنية فكره إذن في رصد تموقع السلطة ومواضعها واستراتيجياتها ورصد تنوع نقاط المقاومة وتكثرها وفي كل ذلك إنما يرصد الحاضر بلغة السلطة ويفكر في مصير الذات بلغة المقاومة وهو ليس بعيدا عن دولوز حينما يعود إلى الحدث ويجعل من الفلسفة صرخة وغضب تجاه عصرها: "(...)، الفلسفة لا تنفصل عن الغضب ضد المرحلة) (22)، والمقاومة ضد السلطة، وليس مختلفا عن نيتشة حينما يشخص الحاضر ليكشف عن علامات علته ويستخرج قواه الشيطانية التي تتربص بنا.

إن راهنية فوكو لا تنحصر في تشخيص الحاضر بل تأسيس العلامات التي تحيل إلى أنماط للحياة وإمكانية الوجود، علامات لحياة متدفقة ونابضة ففي فكره وأسلوب كتابته تصبح الحياة شيئا أرفع مما هو في الذات متحرره من كل ما يسجنها. إنه يكتب تبعا لرحلة قادمة لا راهنة لم تكتسب بعد لغة ومعنى، حاله كـ (زرادشت) نيتشة، وهو ما يجعل من الكتابه لا مجرد إبداع أو تواصلا بل مقاومة، فأن نوجد هو أن نبدع أي أن نقاوم تلك هي راهنية الرابطة القوية والعميقة بين العلامات والحدث والحياة الحيوية التي تمكن من التوجه في الصيرورة نحو الحرية.

لقد أبدع فوكو في فلسفته ما يعطينا راهنا قدرة على المقاومة وعلى تحول الذات في صيرورتها إلى صرخة غضب وعصيان ضد كل أشكال الطغيان.

 

الهوامش

(1) Préface à la transgression, Critique n°195-196:  Hommage à Georges Bataille, 1963, in DE, vol. I, texte n° 13. op.cit p.p. 233-250.

- Non au sexe roi, Le Nouvel Observateur, n° 644, mars 1977, in DE, vol. III, texte n° 200. op.cit. p.p. 256-269.

- Le sujet et le pouvoir, D.E, Vol.IV, op. cit. p.p. 222- 243.

(2) فوكو، المراقبة والمعاقبة، وقع ذكره، ص 68. المصدر ال فرنسي:

.35..M. C. op. cit. p
(3) Nietzsche, La généalogie, l’histoire, in Hommage à Jean Hyppolite, PUF, 1971.

(4) دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، وقع ذكره، ص.ص93-94.
(5) Eribon Didier, Michel Foucault et ses ,contemporains, Fayard, Paris.1994.
(6) ماركوز هربرت، نظرية الوجود عند هيغل، أساس الفلسفة التاريخية، ترجمة وتقديم وتعليق، ابراهيم فتحي، دار
التنوير، بيروت، لبنان، 1988، ص49.

Nietzsche,La naissance de la tragédie, Tra. Par Jean mornold et jaques morland, Librairie générale française, Paris, p. 62.

- هيراقليطس، الشذرات، جدل الحب والحرب، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار التنوير، ط2، 1983، ص65-53.
- جيل دولوز وفليكس غتاري، ما هي الفلسفة؟، تعريب جورج سعد، دار عويدات الدولية بيروت - باريس، الطبعة
الأولى، ص.ص. 49-50.

(8)Deleuze, «Qu’est ce qu’un dispositif?», ) 7( و ) 8 ( Michel Foucault philosophe, Rencontre

internationale, Paris 9, 10,11 janvier 1988, Ed. Seuil, 1989. pp.185-195.

(9)Foucault (M.), L’archéologie du savoir, Gallimard, 1969, pp.172-173.

(10) ميشيل فوكو، مخترق حدود الفلسفة، حوار روجيه- بول دروا Roger pol Droit مع فوكو، وقد نشر في جريدة لوموند الفرنسية بتاريخ 6 سبتمبر 1986، أي بعد سنتين من وفاة فوكو. ويتمحور الحوار حول سبل تخلص الفلسفة من انغلاقها وانفتاحها على الراهن. تعريب محمد ميلاد، مسارات فلسفية، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، الطبعة الأولى،
2004، ص.15.

(11) Préface de Michel Foucault à la traduction  américaine du livre de Gilles Deleuze et Felix

Guattari, L'Anti-OEdipe: capitalisme et schizophrénie. In Michel Foucault, Dits et Ecrits II, 1976-1988, Paris, Gallimard, 2001 (1ère Edition 1994), p. 133-136.

(12) أنظر: دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، ص.ص. 29-51.
(13) دولوز، المعرفة والسلطة...، وقع ذكره، ص51.
(14) ميشيل فوكو، مخترق حدود الفلسفة، وقع ذكره ص17.
- أنظر: ما هي الفلسفة، وقع ذكره، ص.ص 15-17.
(15) حوار دولوز وريمون بيلور وفرنسوا إوالد، وقد نشر ضمن عدد خصصته له المجلة الفرنسية Magazine
, Littéraire , n°,257, septembre1988. ورد في محمد ميلاد، مسارات فلسفية، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، الطبعة الأولى، 2004، ص60.
(16) نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة وتقديم محمد الناجي، أفريقيا الشرق، المغرب، ب.ط، 2006، الجزء الأول،
استهلال زرادشت، ص11.

(17) ,M. Foucault, xNietzsche, Lagénéalogie, I' histoire" in,D. E, vol.ll, p138.

(18) حوار دولوز وريمون بيلور وفرنسوا إوالد، وقد نشر ضمن عدد خصصته له المجلة الفرنسية Magazine
, n°257, septembre,1988. Littéraire ورد في: محمد ميلاد، مسارات فلسفية، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، الطبعة الأولى، 2004، ص59.. (التشديد في القول من عندنا).
(19) ميشيل فوكو، الانهمام بالذات، حوار فرنسوا إوالد Magazine littéraire, n° 207, juin,1984تعريب محمد ميلاد، مسارات فلسفية، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، الطبعة الأولى، 2004، ص29.
(20) دولوز، المعرفة والسلطة، وقع ذكره، ص.ص.99-100.
(21) فوكو، إرادة المعرفة، وقع ذكره، ص.ص 103-104.

(22).Deleuze, Pourparles, Minuit, 1990. P,7.

[(*)]لا ينفصل التفكير في راهن فوكو عن التفكير في مضامين فكر الاختراق والمقاومة الذي ميز المسيرة الفلسفية لفيلسوفنا منذ بداية الستينات. فمفهومي الاختراق والمقاومة Résistance/ Transgression يتحددان في علاقة بمفهوم المقاومة لدى فوكو ويستدعيان جملة من المعاني التي تحيل إلى خارجية تتجاوز نسق المعرفة والسلطة، كمعنى الاختراق والتجاوز transgression الذي استلهمه فوكو من باتاي Bataille ومن فكرة الخارج dehors التي استقاها من قراءته لـ بلانشو Blanchot في سنوات الستين، ويتعلق الأمر في الحالتين بوصف الطريقة التي يتمكن من خلالها الفرد وعبر إجراءات معينة للكتابة، من النجاح إراديا أو بشكل مفاجئ في الإمساك بالمخططات الاستراتيجية المحددة لهوية وتراتيبية الخطاب والتطبيع معه. وبالنظر إلى أنه لا وجود لمعرفة ممكنة بموضوعات مستحيلة، فان هذه الحالات الأدبية المعقدة والباطنية ésotériques وبواسطة عمل بعض الإجراءات اللغوية المحدودة إنما تمثل وفق فوكو، في لحظة أولى، استحالة الموضعة المعيارية I' objectivation normative للفرد. إن الأدب بما هو حقل مخصوص لفكرة الاختراق يتوافق مع ضرورة طرح مشكل لا يتعلق فقط بالممارسات اللاوصفية، بل بالفعل في بعده الفردي والجماعي. إن لفظ المقاومة قد ظهر في سنوات السبعين في معنى مختلف تماما عن الاختراق. فالمقاومة تحدث أينما توجد سلطة لأنها غير منفصلة عن علاقات السلطة، بل تنتج بدورها علاقات السلطة، وتكون نتيجة لها في آن، نظرا لأن علاقات السلطة منتشرة في كل مكان، فان المقاومة هي الفعل الممكن لخلق فضاءات للمجابهة والصراع، ورفض كل محاولات الموضعة والإخضاع. يفترض تحليل علاقات السلطة وبؤر المقاومة الانطلاق من ثنائية التكتيك tactique والاستراتيجيا stratégie التي تحدد الفعل، ذلك أن كل فعل صادر عن الفرد هو بمثابة نقطة مجابهة موجهة ضد الآخر. إن الصلة بين علاقات السلطة من جهة واستراتيجيات المقاومة لا يمكن اختزالها إلى مجرد رسم ديالكتيكي schéma dialectique لأن تحليل السلطة ووصف ممارساتها وفق فوكو يتداخل مع بؤر التوتر وتنتجها. ويؤكد فوكو إذن على ثلاث نقاط:1) المقاومة ليست سابقة على السلطة أي فعل ما قبل سلطوي، 2) المقاومة ليست منفصلة السلطة بل تتواجد معها، 3) المقاومة ليست آنية ومؤقتة بل دائمة وراهنة. معنى ذلك أنه لا وجود منطقيا لما قبلية للمقاومة أو لحد زمني كرونولوجي للمقاومة. إن الثنائية: مقاومة / سلطة ليس هي ثنائية حرية / هيمنة، لأن المقاومة تحتوي على نفس خصائص السلطة: "إنها كالسلطة غير مستقرة mobile وخلاقة inventive ومنتجة productive وكالسلطة فإنها تنتظم  s'organize وتتجمد coagule وتتصلب cimente إنها كالسلطة تأتي من أسفل وتتوزع وفقا لترسيمات استراتيجية ، إن المقاومة لا تأتي من خارج حدود السلطة بل تشبه السلطة وتتماهى معها، وهذا لا يعني أنها غير ممكنة، إنها يمكن أن تعيد إنتاج علاقات السلطة وبذلك يمكن أن تعيد إنتاج بؤر جديدة للمقاومات: "إنها تكون بمثابة حد دائم limite permanente  ونقطة قلب ممكنة renversement possible . فما بين علاقات السلطة واستراتيجيات المقاومة والصراع stratégies de lutte يوجد نداء متبادل appel réciproque سلسلة لامحدودة înement indéfini encha وانقلاب دائم. "إن حد فوكو لهذه العلاقة التبادلية السرمدية بين المقاومة والسلطة لا يمكن احتزالها في النموذج التبسيطي الذي يعتبر السلطة سلبية والمقاومات ايجابية وتعبيرا عن تجربة تحررية من السلطة، فعلاقات السلطة موجودة حيث يوجد الأفراد أحرار في كل مكان. إذن ليس ضد السلطة تنبثق المقاومات بل ضد آثار السلطة على الأفراد، وضد بعض حالات الهيمنة في= الفضاء المفتوح بواسطة علاقات السلطة، وعلى عكس ذلك إذا لم توجد المقاومة فسوف لن يكون هناك آثار للسلطة بل فقط مشكل الخضوع والطاعة. وبالتالي فان الانتقال من مفهوم الاختراق إلى مفهوم المقاومة يعبر إذن عن ديناميكية حركة فكر فوكو في بداية أبحاثه حينما طرح مشكل إمكانية المقاومة في ضوء شبكة الاستراتيجيات السلطة، وفي نهاية مسيرته الفلسفية حينما قام بقلب هذه الفرضية في ضوء مشروع الأنطولوجيا النقدية للحاضر الذي يتحدد بموازاة مع فكرة تحليل ينطلق من أشكال المقاومات لمختلف أشكال السلطة: "بدل تحليل السلطة من زاوية عقلانيتها الداخلية يجب تحليل علاقات السلطة عبر مجابهة الاستراتيجيات المخصوصة للسلطة".

[(*)]لحظة دراسته لفكر فوكو في سياق علاقته بمعاصريه يؤكد إيريبون على أن العلاقة الفكرية والفلسفية التي تجمع فوكو بـ دولوز تتسم بالغموض والثراء والتنوع وهو ما يفضي للقول بالتقارب الاستراتيجي حول القضايا المطروحة في فلسفاتهم خاصة تلك المتصلة بالحاضر والراهن وحقيقة الذات ومصيرها.

[(*)] يتسم راهن البشر اليوم بالتشتت والانقسام لقول ماركوز، هذا الانشعاب هو الذي يفقد الإنسانية قوة التوحد ضد كل أشكال الطغيان /( نظرية الوجود عند هيغل). كما يبدو العالم الحاضر والراهن لقول نيتشة مملوء بالتناقضات الكثيرة، التي تؤدي إلى عدائية صارمة= بين عناصر الصراع / الشقاق الأبدي de  onflit éternel leبما هو أب الأشياء/ أولادة التراجيديا). وذلك ما يستلهمه نيتشة من الموقف الهراقليطي في شذراته "الحرب هي ملك الجميع وأب الجميع، ولقد أظهرت البعض على أنهم آلهة، وأظهرت البعض الآخر على أنهم بشر، لقد جعلت من البعض عبيدا والبعض الآخر أحرارا / (هيراقليطس، الشذرات). ويأخذ هذا الصراع الأبدي والحرب معنى الكاوس choas، إذ نجد جيل دولوز يوضح لنا أن أكثر ما يميز الـ سديم (ليس غياب التحديدات بقدر ما هو السرعة اللامتناهية التي تولد فيها التحديدات وتتلاشى: ليس هناك حركة تنطلق من تحديد إلى تحديد، بل على العكس، استحالة العلاقة بين التحديدين، لأن ظهور الواحد منهما مشروط باختفاء الآخر ..." أما هي الفلسفة، دولوز وجيتاري – بتصرف).

[(*)] فلسفة اللاراهن I' inactuel عند نيتشة تقترن بتصور مخصوص لتطور التاريخ الذي يكشف عن الصراع بين القوى المتصارعة، القوى الارتكاسية والقوى الفعالة التي تفضي إلى موت الإله وانبثاق الإنسان الأعلى le surhomme كأفق للاراهن وللصيرورة، يحاول من خلاله نيتشه تعويض النقص الذي انتهى إليه التاريخ عند هيغل القائل بنهاية التاريخ . هذا الأفق اللاراهن هو بمثابة تتويجا لإرادة القوة، والذي يمثله زرادشت السائر في طريقه إلى الإنسان الأعلى / المتفوق الذي لم يتحقق بعد. وما يعلل اعتبار نيتشة فيلسوف اللاراهن هو ما ورد في أعماله التي لم يكتبها للزمن الحاضر بل لاعتبارات لاراهنة ككتاب (ما وراء الخير والشر) الذي وضع له عنوانا فرعيا: "تمهيد لفلسفة للمستقبل" Prélude pour une philosophie de I' avenir . وكتاب (هكذا تكلم زرادشت) Ainsi parlait Zarathoustra هذا الإنسان الأعلى الذي يبحث عن استمراره والذي لا يجده سوى في تحقيق إرادة القوة، هذه الإرادة هي منبع الصيرورة ومنتجة العود الأبدي الذي ليس من شأن أحد أن يفوز بها سوى الإنسان الأرقى، الذي يتحمل عواصف الرياح في الأرض التي لا أول لها ولا آخر: "إني أعلمكم الإنسان الأرقى، فهو معنى هذه الأرض. ولتقل إراداتكم: ليكن الإنسان الأرقى معنى هذه الأرض ...).

[(*)] إن تفكر فوكو في السلطة وخاصة من خلال كتابه (المراقبة والمعاقبة) ينطوي على دعوة إلى ضرورة التخلي عن عدد من المسلمات التي طبعت المواقف التقليدية: 1) مسلمة الملكية والتي مفادها أن السلطة في ملكية طبقة. 2) مسلمة انحصار موقع السلطة وتميزه والتي تفيد أن السلطة هي سلطة الدولة وإنها تتجسم في أجهزتها. 3) مسلمة التبعية والتي مفادها أن السلطة المجسمة في أجهزة الدولة تابعة لنمط إنتاج ما بالنسبة لها بنية تحتية. 4) مسلمة الجوهر أو الأعراض: والتي مفادها أن للسلطة جوهرا كما أنها عرض يظهر على أولئك يملكون زمامها من خلال تميزهم عن من تمارس عليهم السلطة. 5) مسلمة أنماط التأثير والتي مفادها أن السلطة تتصرف بعنف أو تمارس نفسها كأيديولوجيا تارة تقمع وأخرى تخدع وتموه. 6) مسلمة الشرعية: ومفادها أن السلطة تتجلى في القانون. والتصور الذي يقطع مع هذه المسلمات حسب دولوز هو ما أسسه فوكو في كتاب (المراقبة والمعاقبة) من اعتبار السلطة علاقات وروابط بين القوى التي تؤسس للسلطة بما هي علاقات ميكروفزيائية متعددة النقط منتشرة وإنها تحدد فرديات وتنشىء وظائف خاصة، ويستعمل دولوز هنا عبارة مبيان أي الآلة المجردة، خارطة لعلاقات القوى، خارطة كثافة وشدة تبرز صلات أو روابط لا يمكن حصرها في مكان وموضع بعينه.

[(*)] مفهوم اللافلسفة أو غير الفلسفي يعنى من منظور فوكو الخروج عن النسق التقليدي المعتاد للتفلسف، كما نجد تعريفا للافلسفة مع دولوز لقوله "نحن نرى على الأقل ما ليست فلسفة ؛ إنها ليست تأملا ولا اتصالا (...) لأن التأملات هي الأشياء نفسها (...) كما هي ليست تفكرا لأن لا أحد بحاجة للفلسفة كي يفكر حول أي موضوع كان (...) ولا تجد الفلسفة أي ملجأ أخير لها في الاتصال إ ذ أن الاتصال لا يعمل بالقوة إلا في مجال الآراء لخلق التسويات (...) الفلسفة لا تتأمل ولا تفكر ولا تتصل (...) إنها المعرفة من خلال المفهومات (...)"/ أما هي الفلسفة).

[(*)](*) في قول زرادشت ما يجعل من نيتشة فيلسوف اللاراهن الذي يربك الراهن ذلك أن زرادشت هو التعبير عن معني الترحال والحركة من سفر إلى سفر، من المستقبل إلى  الزمن الراهن، الزمن الذي يسعي إلى التقدم نحو زمن الانسان المتفوق الذي هو وحدة زمن إرادة القوة والتي لا معني للتاريخ بدونها.