السبت  04 أيار 2024

منطقية الحياة في فلسفة باربي وأوبنهايمر

2023-07-27 10:31:34 AM
منطقية الحياة في فلسفة باربي وأوبنهايمر

تدوين- ترجمة: مروان عمرو  

نشرت منصة "firstshowing" مقالا بعنوان "منطقية الحياة في فلسفة باربي وأوبنهايمر"، للناقد أليكس بيلينجتون.

وفيما يلي ترجمة المقال: 

"الرحلة الاستكشافية الحقيقية لا تتمثل في البحث عن أراضٍ جديدة بل الرؤية بعيون جديدة"، مارسيل براوست.

يُعرض الآن اثنان من أفضل الأفلام لعام 2023 في صالات العرض في جميع أنحاء العالم؛ كريستوفر نولان أوبنهايمر وجريتا جيرويج باربي. نعم كلاهما فيلمان رائعان يستحقان كل الثناء، كلاهما طموح وفريد ومبدع، وكلاهما من إنتاج صانعي أفلام موهوبين يفهمون القوة الرائعة لسرد القصص المرئية.

قد يختلف الفيلمان من نواحٍ عديدة، لا سيما في الأسلوب، لكنها في الواقع متشابهان تمامًا من نواحٍ عديدة أخرى. أشعر بالرهبة والسعادة لأن لدينا إثنين من أكثر الأفلام الفلسفية التي شاهدتها منذ سنوات، وكلاهما أفلام أنتجت بميزانية كبيرة، وكلاهما يحفزان فكريا.

هذه لحظة تنشيط للسينما فيجب أن نستمتع بها. إن أكثر ما أقدره هو مدى اعتماد كل فيلم على السرد الفكري للقصص، دون رغبة في إرضاء الجمهور أو أن يكون في متناول الجميع. هناك الكثير لمناقشته حول كل من الفيلمين، وأريد أن أتعمق في الفلسفة الموجودة في كلا الفيلمين، لأستعير اقتباسًا على تويتر: "إنها ليست باربي وأوبنهايمر. إنها باربي، وأوبنهايمر".

أنا سعيد جدا لأن هذه الأفلام جيدة وذكية جدًا، لقد شاهدت باربي وأوبنهايمر مرتين. المشاهدة الثانية كانت أكثر روعة، حيث أمكنني أن ألاحظ بتفصيل أكثر كل ما يفعله هؤلاء المخرجون وكيف يعملون بشكل رائع في الفيلم. صناعة الأفلام الفكرية غير شائعة هذه الأيام، ومع ذلك لدينا الآن فيلمان كبيران يدفعانك إلى أقصى الحدود مرة أخرى. أوبنهايمر لـ "نولان" ليس مجرد قصة عن الرجل الذي قاد الفريق الذي صنع القنبلة الذرية، إنه يتعلق بالآثار الأخلاقية والصراعات الوجودية التي أتت مع ذلك. يتعلق الأمر بمدى صعوبة التعامل مع الشعور بالذنب والحزن الذي يأتي مع معرفة أنك قد تسببت بمقتل الكثير من الناس، فيؤدي بك ذلك إلى عالم يخشى الموت دائما.

من ناحية أخرى، تتعامل باربي من "غيرويج" مع المخاوف الوجودية. ماذا يحدث عندما تخرج إلى "العالم الحقيقي" وتعلم أن هويتك، والعالم الذي أتيت منه، لا يمثلان الواقع الفعلي. لقد كان مجرد خيال طوباوي، والعالم الحقيقي أكثر تحيزًا للجنس والجشع والإهمال.

يطرح الفيلمان أسئلة فلسفية عميقة مماثلة: ماذا يعني أن تكون أنت، وكيف تفهم حياتك، وتحديداً فيما يتعلق بكيفية تأثير حياتك على العالم - بطرق جيدة وسيئة.

إن مشاهدة أوبنهايمر أشبه بمشاهدة فيلم رعب (على الرغم من أن النقاد يتجادلون حول ما إذا كان تصنيف الفيلم "رعب" أو أي تصنيف آخر) - في مرحلة ما ندرك أن هذا العالم المتفائل والمحترم سيواجه بعضًا من الظلام الحالك عند مواجهة رعب ما بناه - حتى مع سياق خطورة "الظلام العظيم" الآخر الذي كان يهدد العالم في نفس الوقت. هناك مشاهد في الشوط الثاني تثيرك نفسيا، حيث تظهر رؤى الموتى، واهتزاز الغرفة بعنف، وظهور ضوء ساطع. تصور نولان ببراعة هذا الشعور الذي يصعب وصفه بالرهبة والذنب والموت.

أوبنهايمر هو سيرة ذاتية، ولا يتعلق الأمر بما فعلته القنبلة، لأنه يريد أن يروي قصة هذا الرجل ويضعنا في مكانه. طُرحت العديد من التساؤلات حول ما إذا كان حقًا رجلًا سيئًا، لأن كل ما أراد فعله هو إنقاذ العالم. هناك أيضًا أسئلة حول – ما بعد إنشاء هذه الأداة الفتاكة، كيف تتفاعل وكيف تتعامل مع الأمر، وكيف تمضي قدمًا، كيف تعيش حتى؟ يعلم الجميع اقتباسات أوبنهايمر الشهيرة المستعارة من "البهاغافاد غيتا" وهو الكتاب المقدس للهندوسية، ويظهر لنا الفيلم أنه تعامل مع معضلات وجودية مخيفة: هل هو الموت؟ هل هو الآن مدمر العام؟ ماذا فعل؟

أحد أفضل التحليلات التي قرأتها هو الذي كتبه زميلي بيلج إيبيري في موقع "فلتشير". في تحليله، ربط بين اللقطات الافتتاحية واللقطات النهائية للفيلم وواصل شرح كيف أن استعارة بصرية ذكية لهوس أوبي بالفهم العلمي للعالم. يشير إيبيري كيف أن التموجات التي يراها في البركة تعكس الدوائر المرسومة على الخرائط في نهاية الفيلم، حيث تقيس حجم التفجيرات النووية فوق المدن في روسيا (وأماكن أخرى). تشرح محررة الفيلم، جينيفر لام: "العلم بالنسبة له هو الجمال والفن والشعر، إنه يجعل الفيلم أكثر تدميراً في النهاية". بعد ذهابه في رحلة مدتها ثلاث ساعات مع أوبي، أدرك أن افتتانه بالعلم والمعرفة حول الكون الذي نعيش فيه جميعًا قد عبر إلى "العالم الحقيقي" مع عواقب وخيمة. ربما لم يدرك ذلك بعد، لكن الإنسانية تغيرت إلى الأبد. إنه مسؤول من الناحية النظرية، لكن لا يمكننا أن نلومه (وحده) ولا يمكننا أن نلوم افتتانه بالعلم. هناك بالطبع، محادثات أخرى حول حتمية الأسلحة الذرية - إذا لم يكن أوبنهايمر، لكان شخصا آخر قد اكتشف كيفية استخدام الانشطار لصنع قنبلة. تنتهي مقالته بقناعة قوية:

"صوّر نولان المشاهد الختامية على أنها تحذير ونذير للموت، وهي تتحرك بشكل هائل على هذا النحو. لكنها أيضًا عن أن هذه الشخصية، تكشّف لها أنها دمرت العالم: هو دمر عالمه، مفهومه الذاتي للواقع. حيث رأى ذات مرة الروابط المذهلة التي تكمن في قلب كل المادة وحتى في العلاقات الإنسانية، الآن لا يرى سوى الرعب والنار، للقوة التدميرية التي تكمن تحت شكل الأشياء".

إنه فيلم معقد بشكل كبير ويطرح العديد من الأسئلة - هل نعتبر رجلا واحدا هو المسؤول الوحيد حقًا عما صنعه إذا ما أساء الآخرون استخدام إبداعاته بطرق شائنة خاصةً عندما يكون الأمر مجرد فتح أسرار علمية لكوننا؟ يضرب أوبنهايمر بقوة هذا الإدراك العميق والساحق. إنه تدقيق كبير للحياة التي نعيش - وهو أيضًا فحص لإنسانيتنا، ولعالمنا الحقيقي، ولتوق الرجال للحرب والقوة.

في الواقع، تتعمق باربي في فلسفة المعنى والوجود أكثر من أوبنهايمر- يعتبر هذا الأمر غريبا إلا أنه حقيقي-. إنها مستعارة من قصة بينوكيو، فهي تتحدث عن امرأة بلاستيكية مثالية تدخل إلى العالم الحقيقي وتكتشف ما يعنيه أن تكون امرأة "حقيقية"، ليست مجرد باربي المثالية.

واحدة من أجمل المشاهد هي عندما تكون لديها لحظة مع نفسها لأول مرة في العالم الحقيقي؛ تجلس على مقعد وفجأة تتنفس وتتجول في العالم من حولها. تنظر إلى الأشجار والسماء، وتلاحظ السعادة والحزن والغضب والاكتئاب والفرح في كل مكان حولها. ترى الأطفال يلعبون، وزوجين يتجادلان، وأناسًا سعداء وحزينين وتدرك أن هذا هو التعقيد السحري الكبير للحياة.

كل هذا شاهدته مرة واحدة؛ إنها لحظة عميقة ومذهلة بصريًا من الوضوح الوجودي. في وقت لاحق تلتقي حرفيا بصانعها، ويجب أن تواجه فكرة ما يعنيه أن تكون باربي وإذا كانت حرة في أن تكون على طبيعتها وتعيش في هذا "العالم الحقيقي" بالطريقة التي تريد أن تعيش بها.

إنها لا تعرف حتى ما هو هذا بالضبط، إنها في طريقها لمعرفة ذلك. يتم كل هذا كتجربة "الكهف" لأفلاطون فخروجها من باربي لاند لأول مرة وإدراك أن العالم ليس في الواقع الوردي اللامع المثالي. هذا يشبه ما يمكن للفيلم أن يصل بك إلى قصة "حرر عقلك" في فيلم "ذا ماتريكس"، وهكذا فعلت فهي انتقلت إلى العالم الحقيقي من أجل "رحلة استكشافية".

حتى أنهم يذكرون مارسيل براوست في فيلم باربي في مرحلة ما. (وهناك حديث عن كتب الفلسفة التي على أرفف أوبي في مشهد واحد أيضًا). أطروحة باربي النهائية هي هذا السؤال عن هويتها، وكيف تتنقل وتتواجد في العالم، وكيف تغير تجربتها وفهمها للعالم ومن هي.

تشرح لها روث هاندلر، مبتكرة دمية باربي، أن فكرة باربي هي أيضًا أكثر أهمية من التعريف المثالي الفعلي لباربي أو صورة باربي، وهذا هو ما يهم حقًا. إنها تقريبًا إشارة مباشرة إلى فيلم "في فور فينديتي"، وخطاب "في" التمكيني الذي يقول فيه "تحت هذا القناع توجد فكرة، السيد كريدي، والأفكار المقاومة للرصاص" - يمكن للأفكار أن تتجاوز الشخوص، فالأفكار تتجاوز الشخص، أو باربي كفرد. هذا شيء عميق يجب أن تتعامل معه أيضًا.

هل أصبحت "فكرة" باربي التي تجسدها سامة، وأكثر ضررًا للعالم من كونها مفيدة؟ كيف يمكنها تحرير نفسها من ذلك، ومواجهة النظام الأبوي، وإعادة تأسيس فكرة تمثل حقًا مدى شعورها بالقوة. من الغريب أن فيلم باربي باهظ الثمن من إنتاج شركة "ماتيل" تجرأ على الانغماس في هذا النوع من النقاش الفلسفي، لكن هذا جزء من عبقرية هذا الفيلم.

هذا ما يجعل هذين الفيلمين من أفلام هوليوود مفعمين بالحيوية والإثارة، لأنهما يجرؤان على أن يكونا استفزازيين فكريا وهذا ما نراه في عدد قليل جدًا من أفلام هوليوود المعاصرة.

ليس من قبيل المصادفة أن يعرض كلا الفيلمين شخصياتهما الرئيسية التي تعانيان انهياراً عقلياً، في محاولة لمعرفة من هم وما هو مكانهم في هذا العالم. المتوازيات هنا رائعة، فهي مختلفة جدًا وفي نفس الوقت متشابهة جدًا في استكشافها للوجود والمعنى وكيف يمكن لشخص واحد (أو حتى فكرة واحدة) أن يكون له تأثير كبير على الإنسانية وعلى "عالمنا الحقيقي". هل غيرت باربي العالم للأسوأ؟ هل هي في الواقع تمثيل ضار للنسوية السامة؟ هل غير أوبنهايمر العالم نحو الأسوأ؟ هل هو في الواقع تمثيل ضار لخطورة العلم؟ لحسن الحظ فإن كلا المخرجين موهوبان وذكيان بما يكفي لعدم تقديم إجابة واحدة واضحة ونهائية لهذا النوع من الأسئلة. الفيلمان هما استكشاف للأفكار ويطرحان نقاشا كما في الأعمال الفنية المثيرة للتفكير.

باربي، على الرغم من أنها وردية ولامعة ومشرقة وممتعة، فإنها تفحص أيضًا نفس الجوانب المظلمة من العالم مثل أوبنهايمر. "هل المرأة مسؤولة حقًا بمفردها عما [تسببه] إذا أساء الآخرون استخدام إبداعاتها بطرق شائنة؟”، بالإشارة إلى ما كتبته سابقًا عن أوبنهايمر، باربي هي أيضًا "فحص كبير للحياة - وهي أيضًا فحص لإنسانيتنا، ولعالمنا الحقيقي، ولتوق الرجال للحرب والقوة.

بصفتي محبًا للفلسفة وللأفكار الكبيرة والسينما التي يمكن أن تتساءل عن كل هذه الأفكار العظيمة، يسعدني أن هذين الفيلمين عميقان للغاية ومثيران وناجحان. الفكرة المبتذلة لما يعنيه "الذهاب إلى السينما" أصبحت أعلى وأعلى صوتًا في السنوات القليلة الماضية؛ "أغلق عقلك واستمتع به"، كما يحبون أن يقولوا. ومع ذلك، فإن السينما الحقيقية، ورواية القصص الذكية الحقيقية، تدور حول تشغيل عقلك. فهي لديها القدرة على جعلك تفكر، وتجعلك تعيد النظر في حياتك، وخياراتك، وهويتك.

 وربما، ربما فقط، قد تجعلك تتساءل من أنت. مرة أخرى، هناك اقتباس مثالي لمارسيل براوست لهذا: "إذا كان القليل من الحلم خطيرًا، فإن علاجه ليس بأن تحلم أقل، ولكن احلم أكثر، بل احلم طوال الوقت".

أذكر مجدد بأن الأفلام يمكنها القيام بذلك. أحد المقاطع المفضلة لدي في نهاية الفيلم عندما كانت باربي تتحدث مع روث، تشرح ربما الأشياء التي تعتقد أنها تجعلك أنت، ليست في الواقع الأشياء التي تجعلك أنت. نحتاج جميعًا إلى التوقف والتفكير في هذا الأمر، وحل هذا اللغز، لفهم أنفسنا حقًا وفهم ما يجعلنا نحن، وما الذي يحدد البشرية. نحن بحاجة إلى أن نقرر ما إذا كنا نريد حقًا أن نجعل العالم مكانًا أفضل، أو إذا كنا جميعًا نريد المزيد من القوة أو الكمال.