تدوين- رولا سرحان
"يتألف سلوك البشر من أمرين: الهروب من الألم والاتجاه نحو المتعة"، تلك هي العبارة التي يأخذ منها بطل مسلسل (مسكن الألم Painkiller) فكرته لإنتاج عقار جديد ليتم طرحه في الأسواق الأمريكية للحفاظ على ما بقي من ميراث عمه الذي خلق إمبراطورية ضخمة من صناعة العقاقير الطبية.
تم عرض مسلسل (مسكن الألم Painkiller) على منصة Netflix في العاشر من آب الحالي، ويحكي، في ست حلقات، قصة تحول عقار الأوكسيكوتن OxyContin - وهو عقار أفيويني- إلى وباء في الولايات المتحدة، متتبعا التأثيرات المباشرة للقرارات التجارية والرأسمالية التي تستهدفُ الربح على حساب حياة الناس. ولا تنحصر تلك التداعيات في دائرة المرضى بل تتسع لتتحول إلى حالة من الوباء الذي تتأثر به حياة عائلات أولئك المرضى، وحياة الأطباء، ومندوبي توزيع الدواء، والمراهقين، ويستفيد منه تجار المخدرات. وهي حالة لها تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية التي طالت حياة الملايين باستدخال مشاكل إضافية على حياتهم مثل التشرد والبطالة والتغيب عن المدرسة والاضطراب الأسري والإفلاس. الغايةُ التي تصبحُ نفعية وربحية من وراء إطلاق الدواء ستتفوق كثيرا على فكرة أهمية تجاوز الألم، فليس الدافع وراء إنتاج مسكن الألم هو تخفيف أوجاع الناس وإنما تحقيق عائد مالي خيالي من الأرباح، والحفاظ على اسم العائلة، عائلة ساكلر Sackler .
يستمد المسلسل بناءه الدرامي من أحداث حقيقية خلال فترة التسعينات من القرن الماضي، والتي تعود لها جذور أزمة إدمان المواد الأفيونية، والتي ما زالت تعاني منها الولايات المتحدة إلى اليوم، والتي بدأت عندما تم طرح عقار OxyContin الذي أنتجته وروجت له شركة Purdue Pharma ووافقت عليه إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، والذي كان نتيجته حالات من الوفيات نتيجة الإدمان على العقار الموصوف طبيياً والمرخص قانونياً.
ويسلط المسلسل الضوء، على عقم البيروقراطية وفسادها في مواجهة رأس المال، الذي لا يعدم وسيلة كي يحقق هدفه الغائي. تقدم الراوية للحكاية، وهي الممثلة القديرة أوزو أدوبا Uzo Aduba، في بداية المسلسل، تلك المفارقة التي يتكشف عمقها في الحلقات اللاحقة، المتعلقة بسؤال القيمة، وتطرح سؤال العدالة في وجه المشاهد مباشرة، تلك القيمة التي لا يمكن تحققها بالنسبة لمن تأثروا من تعاطي العقار ولا لمن عانوا من تداعياته، ليكون المقابل المضاد للعدالة هو نفي العدالة واستبدالها بالتعويض، أي الدفع payment. وهي كلمة مفتاحية تحدد مسار المسلسل الذي يضع كل قيمة في مقام السلعة القابلة للتداول في السوق، فكل قيمة هي سلعة يمكن دفع ثمنها.
ودفع الثمن لا يكون إجبارياً بل يتحول إلى حالة طوعية، منفذها سيكولوجي بالأساس، وقائم على تحقيق الرغبات والمتع الحياتية، التي تتمحور فقط حول المتع الاستهلاكية، والتي ستقود الساعي خلفها لاحقاً إلى حالة من الخواء والفراغ الروحي، بعد الوصول إلى حالة قصوى من الإشباع الاستهلاكي الذي يجرد الإنسان من شعوره بإنسانيته، لأنه متجرد من قيمه الأخلاقية، فيترك في حالة عدمية وعبثية في آن. فحياة شارون شيفر، سارت في المسلسل في هذا الاتجاه. فهي شابة جميلة تنضم لفريق مندوبي مبيعات العقار في شركة بيردو، لتتحول حياتها تحولاً دراماتيكياً، يعرضه المسلسل بطريقة مشوقة، عبر تحقيقها لأحلامها بامتلاك سيارة فارهة وشقة، وارتداء أغلى الماركات العالمية، وحضور الحفلات والمؤتمرات، وشعورها بتحقيق الذات. تلك الحالة لا تفهم إلا وفق فكرة التغلغل الاستهلاكي الذي يعبئ الفراغ الروحي، فيصبحُ الإنسان وكأنه قد وجد ضالته، بينما يكون قد وقع تحت تأثير الاستحواذ الرأسمالي، فهي حالة من الخضوع الكامل لسحر الواقع الاستهلاكي الذي يرتبط بتحوير أحلام الناس وطموحاتهم وسلوكياتهم التي ما تفنك تنمو وتتسارع فينمو معها رأس المال ويتسع ويسيطر على مجالات حيوية أخرى في حياتهم.
في إحدى حلقات المسلسل التي يتصاعد فيها المنحى الدرامي، سنستمع لأغنية جاي هوكينز I put a spell on you”- ألقيت بتعويذة عليك"، والتي أشتهرت في ستينيات القرن الماضي، لتصبح النص المصاحب للمشاهد التي دون نص، فنقرأ من خلالها أحداث المسلسل ببعد أكثر اتساعاً، إذ ستتحدث الرأسمالية الساحرة إلينا من خلال كلمات الأغنية:
"ألقيتُ بتعويذة عليك
لأنك لي
توقف عن الأشياء التي تقوم بها
احترس
أنا لا أكذب
نعم، لا يمكنني أن أطيق
لا للخداع
نعم، لا يمكنني أن أطيق
لا تحبطني
ألقيتُ بتعويذة عليك
لأنك لي، أوه نعم"
سنلاحق شارون وهي تلاحق تحقيق أحلامها كما نتابع تحولها من فتاة عادية بسيطة، إلى مروجة عقار يؤدي إلى الإدمان، يتعاطاه حتى زملاؤها في العمل. حالة الإنبهار التي تعيشها شارون، هي حالة الانبهار الاستهلاكي التي يتعرض لها كل منا، لكن الفارق يكمن في مدى المقدرة على السيطرة على حالة الانبهار تلك، بحيث يصبح الاستهلاك قابلا للضبط، وهو ما لم تتمكن شارون من فعله، إلا في نهاية المسلسل، عندما وقعت تحت ثقل تعارض قيمها مع القيم التي يفرضها صاحب رأس المال، لتكون أمام معضلة الخيار ما بين استيقاظها الروحي وانسلاب عقلها الاستهلاكي.
يعود بنا المسلسل إلى تلك الأسئلة التي رافقت الحداثة وما بعد الحداثة، فمن السعي نحو الهدف الذي يبتغي تحرير الإنسان من كل الإكراهات، ستصبح العقلانية والسعادة الشخصية وإشباع الحاجات تحت سيطرة صنم أعلى هو رأس المال الذي يخضعها إلى التنظيم الممركز للإنتاج والاستهلاك، تحت شعارٍ ساحر بأن التقدم هو السير باتجاه الوفرة والحرية والسعادة الأرضية البعيدة عن كل قيمة. ولكن ستظهر القيمة العليا في المسلسل لتكون قيمة السيطرة أو التحكم في الربح من خلال السيطرة على الألم والتحكم فيه، فمن خلال السيطرة على ألم الناس سيكون بالإمكان السيطرة عليهم، لتصبح رأسمالية الألم، في المسلسل هي الخلاص، عبر تغليف الخلاص من الألم بأنه سعادة مطلقة، فصناعة دواء مسكن للألم ستكون عبارة عن مشروع على الناس ربطه بتحسين جودة الحياة. فالمورفين الذي كان مرتبطاً بالموت سيتم استبداله بالأوكسيكوتن OxyContin، دواء أكثر تأثيراً من المورفين، يوضع في أيدي متعاطين جدد تحت شعار "العقار الذي لم تكن تعلم أنك بحاجته". هكذا تتفتق الفكرة في رأس صاحب شركة Purdue Pharma، ريتشارد ساكلر، الذي يلعب دوره الممثل القدير جيمس برودريك James Brodrick، فالرأسمالي الناجح هو من يستطيع خلق ما لا يتوقع الناس أنهم بحاجته، فيمتلكونه، فيتملّكهم، فيمتلكهم صاحب رأس المال. والفكرة كانت امتلاك الألم وتحويله إلى سلعة، فمن منا لا يرغب بشراء خلاصه من الألم؟
شراء الخلاص من الألم، ستكون درة تاج عائلة ساكلر، وهي عائلة أمريكية عملت في مجال صناعة العقاقير الدوائية وامتلكت شركتان كبريان في هذا المجال. لكن التاج لن يبقى على رأس العائلة ما دام مرتبطاً بالألم، لذلك كان ساكلر العم، إلى جانب طموحه الرأسمالي مهتماً بتخليد إرثه الذي يدرك أنه لن يتحقق من خلال المتاجرة بآلام الناس ومعاناتهم. وكان مدركا أن تخليد الإث إنما سيكون عبر الفعل الثقافي. وفي ذلك تعبيرٌ عن إحدى التناقضات التي يعيشها الرأسمالي والرأسمالية. فإلغاء القيمة ضرورة والحفاظ عليها ضرورة أخرى لأنه ليس بالإمكان تحقيق الذات الرأسمالية إلا عبر قيمة خارجةً عنها. ستجد عائلة ساكلر سبيلاً لتخليد إرثها من خلال بناء المتاحف، والمكتبات، وشراء التحف واللوحات الفنية الأصلية الخالدة، تصبح قيمة الثقافة مهمة، لكنها في الحقيقة تصبح بلا قيمة لأن الرأسمالية المتوحشة التي أطلقتها عائلة ساكلر ودورها في وباء المواد الأفيوينية في الولايات المتحدة خلدت إرثها باعتبارها "الأسرة الأكثر شراً في أمريكا" وأنها عائلة من "أسوأ تجار المخدرات في التاريخ"، ومن هنا دائماً ما تمتلك الرأسمالية في داخل تناقضاتها بذور فنائها أو تجددها.