تدوين- ثقافات
ننشر في تدوين المقالة الشهيرة التي كتبها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط "ما الأنوار؟"، والتي نشرت في مجلة برلين الشهرية عام 1784 (Berlinische Monatsschrift. Dezember-Heft 1784. S. 481-494)، كجواب على رجل الدين يوهان فريدريك تسولنر Johann Friedrich Zöllner، الذي طرحه في عدد ديسمبر 1783 لهذه المجلة، في موضوع دافع فيه على الزواج في الكنيسة. وكان المقصود منه هو استفزاز المدافعين عن الأنوار في اعتقادهم الساذج في نظره بأن عموم الجمهور يفهم نصوصهم. فقد نعتهم في نفس العدد الذي أجاب فيه كانط على سؤاله الإستفزازي بالقردة.
ترجمة المقال هي لحميد الأشهب، الذي يرى أن ما دفعه لترجمة نص كانط هذا، ليس هو الترويج لفكر الأنوار الأوربية، بل لأن المناخ العام لألمانيا في ذلك الوقت، والدول الأوروبية معها، يشبه إلى حد بعيد مناخ الدول العربية المعاصر. ولا نريد هنا إيقاظ الشعور بأننا نحاول إسقاط تاريخ أمم على أمم أخرى، بل إن تقدم الأمم يكون دائما تفاعليا، أخذا وعطاء، تأثيرا وتأثيرا مضادا. ما قد يهم المفكر العربي المعاصر في المقام الأول في هذا النص هو عدم البقاء مكتوف اليدين اتجاه ما يحدث على طول خارطة العرب، أو اعتباره قدرا محتوما، بل محاولة فهم ما يحدث ومحاولة تحليله والمشاركة في تقديم حلول. فرياح التغيير لم تهدأ من الهبوب في البلدان العربية، على الرغم من سرقات للحراك العربي، سواء من طرف الحكام العرب أنفسهم أو أيادي خارجية أو حركات دينية رجعية، لا تفهم إلا لغة العنف والهدم.
“إن الأنوار هي خروج الإنسان من القصور/عدم الرشد الذي سببه لنفسه بنفسه. القصور هو إعاقة عدم استعمال المرء لعقله دون قيادة شخص آخر
إذا لم يُبعث بعد من رحم السلطات التي تحكم العرب منذ عهود أي “ملك أو أمير فيلسوف”، يُشبه فريدريك الثاني، الذي لم يكتف بالحكم فقط، بل نظر لممارسة السلطة وأخذ موقفا معاديا من الحرب، على الرغم من أنه أُقحم فيها، فإن الوضع الحالي سيرجعنا إلى عصور الظلام والتناحر المستمر بين أصحاب القرار في الدول العربية. قد يفهم صاحب السلطة العربي المعاصر، الذي يشارك بنشاط في حروب الممالك، ويُساهم في إشعال فتيل الفتنة السياسية بين الفرقاء العرب، ويتفنن في تشتيت المسلمين بتشجيع فرقة ضد فرقة أخرى، ومذهب ضد آخر، والشيعة ضد السنة؛ بل يشن حروبا مذهبية “مقدسة” على آخرين بمآزرة من يعتبرهم مبدئيا أعداء في العقيدة، بأن السلطة ليست تشريفا، بل تكليفا، وبأن مصيرها -إذا لم تكن نابعة من إرادة الشعوب- لن يكون إلا الإندثار، كما يشهد التاريخ على ذلك. قد يفهم المفكر العربي، بأن المطلوب ليس هو التركيز على أعراض “مرض العرب”، بل التسرب لفهم أسباب هذا المرض. فالملاحظ أن المفكر العربي الذي يهتم حاليا بأحوال أمته، لم يتجاوز بعد مرحلة الترقب والإنتظار، بل في بعض المرات يسقط، عن وعي أو دون وعي، في مآزرة نظام هذا الحاكم أو ذاك، منسلخا بذلك على دوره الأساسي، المتمثل في إيقاظ المجتمعات العربية، وتشجيعها على أخذ مصيرها بين أيديها، لأن ما يهم حكامها، ليس هو مساعدتها للخروج من حالة القصور إلى مرحلة النضج، بل إبقائها تابعة لها ومسيرة من طرفها. أتحدى شخصيا كل حاكم عربي يدعي بأنه يفكر في عتق شعبه من عبوديات لا حصر لها، بقدر ما يعمل جاهدا للمحافظة على سلطته وامتيازات الفئة التي تسبح في فلكه، على حساب رعية لم تصل بعد إلى مرحلة المواطنة.
المطلوب الآن في الدول العربية هو أن تطالب شعوبها بحقها في المواطنة، بكل ما يترتب عن ذلك من نتائج، وبالخصوص تحمل مسؤولياتها اتجاه ذواتها واتجاه أوطانها. فليس هناك مواطنة دون حرية، وليس هناك حرية دون مسؤولية، وليس هناك مسؤولية دون وعي وتربية وبناء مُثل أخلاقية إنسانية توحد الشعوب وتساعدها على تقرير مصيرها.
مقال كانط ما الأنوار:
“إن الأنوار هي خروج الإنسان من القصور/عدم الرشد الذي سببه لنفسه بنفسه. القصور هو إعاقة عدم استعمال المرء لعقله دون قيادة شخص آخر. وتسبيب شيئ للذات بالذات هو هذا القصور، عندما لا يكمن سبب هذا الأخير في ضعف في العقل، بل في غياب قرار وشجاعة استعمال العقل الذاتي دون قيادة شخص آخر. إن شعار الأنوار هو Sapere aude، لتكن لك الشجاعة لاستعمال عقلك الذاتي/الخاص.
إن الكسل والجبن هما السببان اللذان يجعلان من الجزء الأعظم من البشر، على الرغم من أن الطبيعة حررتهم منذ زمن قديم من قياة شخص آخر لهم، أن يظلوا حياتهم كلها قاصرين، وهذا ما يسهل على آخرين تطويعهم تحت سيطرتهم. من الراحة بمكان أن يبقى الإنسان قاصرا. عندما يكون عندي كتاب يملك عقلا بالنسبة لي وقِسّ يكون له ضمير بالنسبة لي وطبيب ينصحني بنظام غذائي معين، فلا أكون مضطرا للقيام بأي مجهود. لا أكون في حاجة لأفكر، عندما يكون بإمكاني أن أدفع ثمنا، ذلك أن الآخرين سيقومون بهذه المهمة المضنية عوضي. إن الأوصياء على الناس، الذي يحكمون السيطرة عليهم، قد أوهموا الغالبية العظمى منهم (بما في ذلك كل الجنس اللطيف) بأن الخطوة إلى النضج صعبة وخطيرة. فبعدما اعتبروا حيواناتهم الأليفة غبية ويرعونها بحزم، لكي لا تقوم هذه الحيوانات الوديعة بأية خطوة خارج الحضيرة التي سُجِنت فيها، فإنهم يظهرون لهم بحبسهم هذا كل الخطر الذي يهددهم في حالة ما حاولوا المشي بمحض إرادتهم. لكن هذا الخطر غير خطير بالمرة، ذلك أنهم قد يسقطون بعض المرات، لكنهم سيتعلمون المشي في آخر المطاف ، لكن مثال من أمثلة حبسهم يخجلهم ويذعرهم.
من الصعب لكل فرد فرد الخروج من قصوره الذي أصبح تقريبا جزء من طبيعته. إنه مغرم به وأصبح بالفعل غير قادر على استعمال عقله، لأن المرء لم يسمح له أبدا بالقيام بهذه المحاولة. فقوانين وصيغ الإستعمال أو سوء الإستعمال الميكانيكي العقلي لمواهب الطبيعة، هي قيود عدم الرشد التي تكبر أكثر فأكثر. وكل من حاول رفضها، سوف لن يقوم بهذا إلا بشكل ضعيف جدا، لأنه غير متعود على مثل هذه الخطوة الحرة. من هنا فليس هناك إلا قليلة قلة استطاعت بالفعل، بفضل استخدام عقلها، التطور خارج هذا القصور والقيام بخطوة أكيدة.
من الممكن أن يتنور جمهور ما انطلاقا من ذاته، ويعتبر هذا أمر لا مفر منه، إذا ما ترك المرء له حريته. هكذا إذن سيجد بعض الذين يفكرون باستقلال، على الرغم من ركام الوصاية المفروضة عليهم، وبعدما يتخلصون بأنفسهم من سلطة عدم الرشد، الوصول إلى روح التقويم الشخصي لقيمتهم الذاتية ووظيفة البشر قصد التفكير بأنفسهم، لكي يتكاثروا. وأهم شيئ هنا هو أن الجمهور، الذي قيد من قبل إلى هذا النير، سيُفرض عليه البقاء على حاله، عندما يُحرّض من طرف أوليائه غير القادرين على الأنوار ، بغرس أحكام مسبقة مضرة، لأنهم يحاولون في آخر المطاف الثأر من الذين كانوا يعتبرون من قبل السابقين عليهم أسيادا لهم. من هنا لا يمكن للجمهور الوصول إلى الأنوار إلا ببطئ. فعن طريق الثورة قد لا يصل المرء إلا إلى قمامة الإستبداد الشخصي والرغبة في الربح وسلطة الإضطهاد، ولن يقوم أي إصلاح لطريقة التفكير، لكن ستقوم أحكام مسبقة جديدة، تشبه تماما الأحكام السابقة القديمة، والتي ستخدم قيادة الجمهور العريض الغير المُفكِّر.
إن الكسل والجبن هما السببان اللذان يجعلان من الجزء الأعظم من البشر، على الرغم من أن الطبيعة حررتهم منذ زمن قديم من قياة شخص آخر لهم، أن يظلوا حياتهم كلها قاصرين، وهذا ما يسهل على آخرين تطويعهم تحت سيطرتهم
ليس هناك شيئ ضروري آخر لهذه الأنوار من غير الحرية، وبالخصوص ذاك النوع منها الذي لا يضر، يعني استعمال المرء لكل أجزاء عقله في الميدان العمومي. لكن أسمع نداءات من كل جانب: لا تفكروا. يقول الضابط: لا تفكر، بل عش. ويقول مجلس المالية: لا تفكر، بل ادفع. ورجل الدين: لاتفكر، بل اعتقد/آمن. ليس هناك إلا سيد وحيد يقول: فكروا أكثر ما يمكن وفي أي شيئ تريدون، لكن أطيعوا. هناك تقييد للحرية في كل مكان. لكن أي تقييد يكون عائقا بالنسبة للأنوار وأيه لا يكون كذلك، بل لصالحها ومشجعا لها؟ أجيب: من الضروري أن يستعمل المرء بحرية عقله العمومي، وهذا الإستعمال وحده هو الذي بإمكانه نشر الأنوار بين الناس. لكن من الضروري كذلك أن يكون هذا الإستعمال الخاص للعقل مقيدا جدا في غالب الأحيان، دون أن يكون عائقا في وجه تقدم الأنوار . ما أعنيه بالإستعمال العمومي للعقل الشخصي هو ذاك العقل الذي يستعمله المفكر أمام مجموع الجمهور القارئ. وأسمي الإستعمال الخاص للعقل، ذاك الإستعمال الذي يقوم به من يشتغل في دائرة عمومية أو من وُكِّلَت له وظيفة من هذا القبيل. ذلك أن الوظيفة التي يقوم بها المرء، والتي تكون في الصالح العام، تكون في حاجة بالضرورة لميكانيزم معين، يفرض على بعض أعضاء المجتمع السلوك بطريقة سلبية (غير نشيطة، إ.م)، تكون موجهة لمصالح عمومية بإجماع متفق عليه للحكومة أو على الأقل تكون موجهة لكي لا تُفسد هذه المصالح.
من طبيعة الحال، لا يحق هنا التفكير، بل على المرء أن يطيع. لكن إذا كان جزء هذه الآلة عضوا في نفس الوقت في المجتمع برمته، أو حتى عضوا في المجتمع العالمي، وبالتالي بصفته مفكرا يتجه لجمهور بالمعنى القح للكلمة عن طريق كتاباته، فبإمكانه التفكير على كل حال، دون أن تتأثر الوظيفة التي يقوم بها سلبيا من خلال هذا التفكير، وهي وظيفة يعين فيها كعضو سلبي. سيكون من الهلاك بمكان إذا سفسط ضابط حول فائدة وهدف ما عليه القيام به عندما يؤمر من طرف رئيسه بالقيام بعمل ما. لكن لا يمكن أن ننكر له عن استحقاق، أن يقدم كمفكر ملاحظات على أخطاء الحرب وتقديمها لجمهوره للبث فيها. لا يحق للمواطن أن يرفض دفع الضرائب المفروضة عليه، بل يمكن لومه على هذا واعتباره فضيحة يعاقب عليها القانون العام. وبغض النظر عن واجب مواطن ما، فإن هذا لا يمنعه كمفكر التعبير عن رأيه وانتقاد عدم جدوى أو حتى ظلم مثل هذه القرارات.
نفس الشيئ ينطبق على القس الذي يعلم تلامذته الدين طبقا لرموز الكنيسة التي يخدم، لأنه وُظِّف من أجل هذا الغرض. لكن كمفكر، له كامل الحرية، بل مسؤولية التفكير الجدي والدقيق في الرموز الخاطئة وتقديم اقتراحات للجمهور على كيفية تحسين الدين والكنيسة. وليس في هذا الأمر أي شيئ يعيق ضميره. ذلك أن ما يقوم به من خلال عمله لصالح الكنيسة، يجب أن يتصوره باحترام كشيئ ليست له عليه سلطة لكي يلقنه بحرية، بل عين للقيام بهذه المهمة بأمر وباسم من يُشغله. سيقول: تلقن كنيستنا هذا الأمر أو ذاك، وهذه أسباب الثبوتية التي تتأسس عليها. ومن بعد ذلك يستخرج كل القوانين التطبيقية التي تخدم دائرته الكنسية، وهي قوانين لا يكون متفقا عليها عن قناعة واستحقاق، بل يتعهد بتطبيقها، لأنه ليس من المستحيل كليا ألا تكون هناك حقيقة ما تكمن فيها، وعلى كل حال مادام لم يكن هناك تناقض ديني داخلي فيها. لكن إذا كان يعتقد بأنه قد وجد هذا التناقض، فإنه سوف لن يكون قادرا على الإستمرار في وطيفته براحة ضمير، وعليه الإستقالة منه. إن استعمال العقل من طرف معلم/أستاذ موظف اتجاه دائرته الكنسية، ما هو إلا استعمال خاص/شخصي، لأن هذا الأخير شخصي، وبالنظر إلى هذا فإن القس ليس حرا، ولا يحق له أن يكون هكذا، لأنه يقوم بمهمة غريبة عنه. على العكس من هذا، وبما أنه مفكرا، يتحدث عن طريق كتاباته إلى جمهور حقيقي، يعني إلى العالم، فإنه يتمتع بذلك بحرية دون قيود لاستعمال عقله والتحدث باسمه. ذلك أن الأوصياء على الشعب (في الأمور الروحية) يصبحون بأنفسهم قاصرين، وهذا أمر متناقض، ينتج عنه تأزيل (من الأزلية، إ.م) التناقض.
إذا لم يُسمح لشعب ما تقرير مصيره بنفسه، فلا يسمح لأي عاهل تقريره لهذا الشعب، ذلك أن قراراته القانونية تتأسس على توحيد إرادة الشعب بإرادته
أليس من حق مجتمع ديني، كنيسة ما مثلا أو أية كلاسيكية تستحق الإحترام (كما يسمي ذلك الهلنديون)، الإلتزام عن طريق الحَلْفِ برمز قار غير متغير بمساعدة وصاية عليا كل فرد من الأفراد المنتمين لها لقيادة الشعب باستمرار وتأزيل هذا الرمز؟ أقول: إن هذا مستحيل بطريقة مطلقة. ذلك أن مثل هذا العقد الذي يُقرر إيقاف كل تنوير للجنس البشري للأبد هو ببساطة مرفوض نهائيا، ومن الضروري أن تقرر السلطة العليا، الدولة، في هذا الأمر. لا يمكن لعصر من العصور التحالف وحصر العصر اللاحق عليه في وضع يجعل من المستحيل على هذا الأخير تطوير معارفه الجدية أساسا وتطهيره من الأخطاء وتطوير الأنوار بطريقة أساسية.
سيكون هذا جريمة ضد الطبيعة الإنسانية، التي تتحدد في الأصل عن طريق هذا التقدم، ومن حق الأجيال اللاحقة رفض مثل هذه القرارات بقوة باعتبارها مدنسة ومحرمة. يكمن محك كل ما يقرره المرء كقانون للشعب في إشكالية ما إذا كان هذا الشعب يريد بنفسه الخضوع لهذا القانون. قد يكون هذا الأمر ممكنا، في انتظار قانون أفضل، لوقت معين لضمان نظام تُتْرك الحرية فيه لكل مواطن، بما في ذلك رجل الدين بصفته مفكرا، للتعبير بحرية، عن طريق كتاباته، على أخطاء القانون القديم، والإستمرار في تطبيق هذا الأخير إلى حين الوصول إلى اقتناع القيام باقتراح جماعي كبير (حتى وإن لم يكن بالإجماع) للعرش (للملك إ.م)، للدفاع عن الجماعات التي يعتقد المرء بأنها صالحة للقيام بتغيير التوجه الديني، دون إعاقة أولائك الذين يريدون البقاء في التصور القديم للدين. لا يُسمح التشبث بالإتفاق على دستور ديني لا يشك في صلاحيته علنيا أي أحد، حتى ولو كان لمدة حياة الشخص الواحد، وفي نفس الوقت القضاء على تحسين تقدم الإنسانية، وعن طريق هذا الإضرار بالجيل اللاحق. يمكن للإنسان رفض الأنوار بصفة شخصية، لمدة معينة، لكن إذا رفضها، حتى ولو كان ذلك لأسباب شخصية ذاتية أو بالنظر إلى الجيل القادم، فإن ذلك يعني المس بالحقوق الإنسانية المقدسة والمشي عليها بالأقدام.
إذا لم يُسمح لشعب ما تقرير مصيره بنفسه، فلا يسمح لأي عاهل تقريره لهذا الشعب، ذلك أن قراراته القانونية تتأسس على توحيد إرادة الشعب بإرادته. وإذا كان يرى بأن التحسين الحقيقي أو المفترض يتماشى والنظام الشعبي، فعليه أن يترك رعيته تقوم بتحسين ما تراه ضروريا لخلاصها الروحي، لأن ذلك لا يدخل في تخصصه. ما يجب عليه القيام به هو الحرص لكي لا يُعيق فريق فريقا آخر بالعنف للوصول إلى هذا الخلاص بكل مَلكاته. يسيئ جلالته لنفسه إذا ما تدخل في هذا الأمر، بتشريف حكومته ضد آراء رعيته، حتى ولو قام بذلك انطلاقا من رأيه الخاص، فإنه سيواجه تهمة: لا يحق للقيصر التدخل في الكلام Caesar non est supra grammaticos. أكثر من هذا إذا قلل من سلطته بدعم استبداد بعض المستبدين الدينيين في دولته ضد باقي رعيته.
عندما يسأل المرء: هل نعيش الآن في عصر تنوير؟ فإن الجواب يكون: لا، لكننا نعيش في عصر الأنوار. ذلك أن الشيئ الكثير غير متوفر لكي، وكما هي حالة الأمور الآن عندما نأخذها في كليتها، يستعمل الناس بطريقة جيدة عقولهم فيها وفيما يخص الدين دون توجيه من آخرين. فقد وضحنا بما فيه الكفاية بأن الحقل مفتوح أمامهم الآن للتطور في هذا الميدان بحرية وبأن عوائق الأنوار أو الخروج من قصورهم المسبب من طرفهم شخصيا قد أصبح ضئيلا. وبالنظر إلى هذا فإن هذا العصر هو عصر الأنوار أو قرن فريدريك Friedrich.
إن الأمير الذي يقول بأنه من الواجب عدم التدخل في الأمور الدينية للناس، لكنه يريد أن يترك لهم الحرية في هذا الأمر، و يرفض أن يلقب بالمُتسامح، هو أمير مُنور ويستحق مباركة هذا الجيل والجيل المقبل لكونه مَكَّنَ الجنس البشري من رشده وترك الحرية لاستعمال العقل من طرف كل فرد فيما يخص أمور الضمير. فتحت قيادته سُمح لرجال الدين الذين يستحقون الإحترام، بغض النظر عن مهامهم الرسمية، تفحص الرموز المفترضة أو الأحكام المستخلصة منها، باعتبارهم مفكرين، وتقديمها للعموم بحرية. أكثر من هذا يُسمح بهذا حتى لمن لا يزاول أية مهمة رسمية. تنتشر روح هذه الحرية خارج الميدان الديني كذلك، حتى في الميادين التي تتصارع فيها ضد حكومة تسيئ فهمها. ويوضح هذا الأمر مثال، يتمثل في كون السلام العام/العمومي والوحدة المجتمعية لا تحتاج لأي خوف عليها من الحرية. ذلك أن الناس يشتغلون على أنفسهم للخروج من صلابتهم، إذا لم يعمل المرء بنية مسبقة لإبقائهم في هذه الصلابة.
لقد حددت النقطة الأساسية للأنوار، يعني خروج الناس من قصورهم المسبب من طرفهم، في الأمور الدينية بامتياز، لأنه ليس في مصلحة مُسَيِرِينَا لعب دور الوصاية على من يحكمون في ميداني الفنون والعلوم، وبالخصوص فرض إبقائهم في أكبر قصور مضر بهم، يعني ذاك الذي يسلبهم كرامتهم. إن طريقة تفكير رئيس دولة، الذي يعطي أهمية للحرية، تذهب إلى أبعد من هذا وتفهم التالي: فحتى في احترام التشريعات، فإنه لا خطر في السماح لرعيته باستعمال عقلها بطريقة واضحة والتعبير عن أفكارها فيما يخص صياغة أحسن لهذه التشريعات، حتى بنقد صريح لهذه الأخيرة وتقديمها للجمهور. ولنا هنا مثال ساطع على أن لنا عاهل نحترمه لم يسبق له مثيل من قبل.
يمكن للمتنور، ممن لا يخاف من ظله ويتوفر على جيش كبير منظم لضمان الأمن العام أن يقول ما لا يمكن لأية دولة حره قوله: فكروا أكثر ما يمكن وفي أي شيئ تريدون، لكن أطيعوا. وهنا يظهر شيئ ومخرج إنساني غريب. إذا ما تأمله المرء في كليته سيجد أن كل شيئ فيه متناقض. من بين أعلى درجات حرية المواطن هناك حريته الدينية، وهي حرية يضع أمامها أيضا حواجزا لا يمكن عبورها، على العكس من هذا فإن هذا الفضاء يعطي إمكانية تطويرها من خلال كل إمكانياتها. عندما تفض الطبيعة نبتة الميول لحرية التفكير من تحت هذا الغشاء الصلب، وهي نبتة تسهر عليها بعطف، فإن هذا الأمر يؤثر دون رجعة على طريقة تفكير الشعب لكي يتمكن من السلوك أكثر وأكثر بحرية، وفي آخر المطاف تعامل المبادئ الأساسية للحكومة مع الإنسان، الذي لم يعد آلة فقط، طبقا لكرامته”.
كونيكسبيرغ، 30 شتنبر 1784.
إيمانويل كانط