السبت  21 كانون الأول 2024

نار على الجبل

2023-08-17 12:49:06 PM
نار على الجبل

تدوين-ذاكرات

نشرت جريدة الإتحاد الصادرة في حيفا بتاريخ 29 تموز من العام 1966 مقالة بعنوان "نار على الجبل" للشاعر محمود درويش يتحدث فيها عن قرية يركا "الدرزية" في الجليل والتي كانت مهددة بمصادرة الأراضي وهدم البيوت بحجة التطوير والتعمير من قبل حكومة الاحتلال.

وفيما يلي نص المقالة:

نادانا جرح في يركا... والجرح هناك يستحيل إخفاؤه لأنه نار على رأس الجبل تأتيه الربح من الجهات الأربع. ومن إحدى هذه الجهات أتينا عندما كانت الشمس ترمي وشاح الظل على جرح القرية فتجعله وحده يضيء. على الطريق الطالعة إلى أعلى الجبل شاهدنا انتصار السواعد على الصخور، صراع الإنسان الأبدي مع الطبيعة. رأينا جثث الصخور المتفتتة تحت الجهد والعرق المقدس. فتذوقنا طعم اللقمة النبيلة التي تستلها الأيدي المعروفة من كبد الصخر. ورأينا، بعد ذلك، إكليل الوحل الذي يتوج مجد الذين يتنفسون من رئات الآخرين، ويبنون على أنقاض الآخرين دار العلى الكاذب!

يركا.. يا يركا! خاب من لم يصدق أن الاضطهاد مثل النار. لا صديق لها.. تأكل الأخضر واليابس. والعمامة والطربوش.. والقرآن والإنجيل وكتاب المخفي أعظم. إن النار إذا اشتعلت في حقل جيرانك یا يرکا فلن تبقي ولن تذر إلا إذا عرفنا أننا متساوون في نصيبنا من الاضطهاد. وهذا الدرس قاسٍ كالصخر يا يركا ولكن من فتت كل هذه الجلاميد قادر على إيقاف النار عند حدها، والذود عن لقمة العيش المرة والخطوة الحرة والكرامة الموفورة.
قالوا لك، يا يركا، عندما أرادوا تفريق حزمة الأعواد أيسهل عليهم كسر كل عود على حدة: إن العرب عرب. والدروز دروز ولن يلتقوا! أرادوا أن يسلخوا الجلد عن العظم اللذين كانا ملتحمين في كل المعارك التي خاضتها أمتنا... انطلت الكذبة على نفر قليل... ولكن حبل الكذب قصير وأضعف من أعواد الذرة والشعير. ويوما بعد يوم تكشفت النوايا وسقطت أوراق التوت. إن الليل إذا هبط لا يميز بين المقابر والقصور ولا بين الأسود والأبيض.

 ونحن... نحن في الليل سواء.

سألنا طفلا حافيا: أين الاجتماع؟ لم يسألنا أي اجتماع نقصد فإن كل طفل وكل امرأة.. وكل شيخ.. وكل شاب في يركا يعيش في ظل الخطر الداهم، ويدرك ما يشغل بال القرية في هذه الأيام ويطرح عليها ستار الوجوم والغضب الذي يرقرق العرق المشتعل على الوجوه النحاسية. لقد أخرج الخطر المفاجئ جميع الناس من بيوتهم الترابية والحجرية والاسمنتية وقذفهم إلى الطرق الترابية الجافة ليحكوا حكاية اليوم: إسرائيل التي أخلصنا لها وسفكنا دماءنا في سبيلها وعلى حدودها، تريد أن تسلبنا كل ما نملك: الأرض الأرض التي منها أخرج الله كل شيء حي.. نخرج منها خبز عيالنا.. ودفاتر أبنائنا.. وسترة عوراتنا. هبوا أننا شجر فأين ستضرب جذورنا إذا لم نملك أرضا.. ولا بحرا نملك. ولا سماء. طبعا لأن خيمة السماء تابعة بطبيعة الحال البساط إذن، نحن لا شيء. لا مصدر رزق.. ولا وطن!

لا ينسى أهالي يركا أن يستذكروا الحكم التركي والانتداب البريطاني الذين لم يعتديا على أراضيهم، وأهالي يركا لا ينسون التعبير عن خيبة آمالهم. يقولون: لم يخطر على بالنا أن إسرائيل ستعاملنا بهذه القسوة التي لم تعاملنا بها تركيا وانجلترا! يا للعار! رأى أهالي يركا أن أفضل مكان لاجتماعنا بهم هو المكان المقدس الذي يركعون فيه لله ويلتقون به في صلواتهم ومراسيمهم الدينية في الخلوة. شعرنا بالرهبة التي يضفيها هذا المكان المقدس على من فيه. جلس قسم من شيوخ القرية على الحصير، ووقف القسم الآخر على أقدامه ووقف في جنبات المكان مئات من الشباب والأطفال فاشتعل المكان بحرارة الغضب العادل، لم تخل عين واحدة من نار الاحتجاج والوعد بالصمود.


جلسنا على مقاعد خشبية نستمع إلى بيان عن القضية المؤلمة.. على مؤامرة اغتصاب معظم أراضي البلدة بما فيها عشرات البيوت المهددة بالهدم والتدمير، باسم الإنشاء والتعمير كل أسرة هنا مصابة. لم يقل أحد: أنج سعد فقد هلك سعيد. كل بیت هنا مهدد بالهلاك. صموداً أيها الرجال! والدروز، كما نعرف جميعاً، أهل نخوة.. عودونا أنهم إذا قالوا فعلوا وقد قالوا لنا يومها أنهم سيدافعون حتى النهاية عن أراضيهم حتى لو كلفهم ذلك دمهم.

 لقد شعرت بجفاف في حلقي عندما وقف شیخ وصاح: سأحرق نفسي أمام باب الكنيست احتجاجا على سلب أرضي. هؤلاء الناس طيبون وبسيطون بعمق ولكنهم غير معزولين عن العالم الخارجي. إنهم يسمعون عن النضال البطولي الذي يشنه المناضلون في كل العالم. إنهم يعرفون كيف يقاوم الاعزل. وهم يعون تاريخ الدروز العامر بالبطولة، هم يعتزون بهذا التاريخ.. وبهذه البطولة. إنهم يبدون الآن كالظباء المذعورة.. ولكنهم في صميمهم يحملون، إذا جرحوا، شراسة الأسد.

جلسنا نسجل اصرارهم وحكایات وشكاوى فردية عن قضيتهم الموجعة.. والمحرضة على الغضب والنقمة. عشرات من الحكايات عن أساليب الخداع والسرقة والتزوير التي تسلب بواسطتها أراضيهم.. عشرات من الحكايات التي تصلح أن تسجل في تاريخ الغاب. حكوا لنا عن مأساة أرملة قتل زوجها في الجيش.. دفع لها المسؤولون تعويضات بمبلغ خمسة آلاف ليرة إسرائيلية، وأخذوا منها، مقابل هذا التعويض البخس، ثمانية عشر دونما من أصل خمس وعشرين دونما كل ما تملك! وعلقوا على الحكاية المؤلمة قائلين: هذه هي دية الشهيد!! وحكوا لنا عن ابتزاز تواقيع التنازل عن ملكية الأرض بالاعتماد على جهل الفلاحين بالقراءة، مستغلين طيبتهم وبساطتهم وثقتهم بكلمة الرجال! ثم وقف الجميع، وأقسموا معاً باسم البيت المقدس يمين الولاء للأرض والدفاع عنها حتى النهاية مهما كلفهم هذا الدفاع من تضحيات. وطلبوا منا ومن الرأي العام والقوى الدمقراطية اليهودية تأييدهم ومساندتهم في نضالهم من أجل حقهم العادل. عند عودتنا من اعلى الجبل كانت الشمس لا تزال تسحب وشاحها الذي تشبثت أذياله في مفاصل الصخور المتفتتة، وتجري حواراً هامساً مع الأرض لا يفهمه إلا من في قلبه وتر مشدود إذا مر عليه نسیم الأرض الطيبة الممزوج بالطيب والعرق، تنهد وصرخ. وفي قلوبنا جميعا مثل هذه الاوتار التي تشكل مجتمعة لحن الاحتجاج الصارخ.

ومرة أخرى رأينا انتصار السواعد الشريفة على الصخور المهزومة، فهل تكون المعركة القادمة أقسى وأشد؟ وفي الليلة ذاتها غنى بيت سيجر: سننتصر في ذات يوم!