تدوين- تغطيات
يتخذ الفنان التشكيلي الفلسطيني خالد حوراني من "التحايل" استراتيجية لإتمام أعماله الفنية، بدا ذلك واضحا من خلال شروحاته لثلاثة من أعماله خلال حوارية عقدت في مؤسسة محمود درويش، ضمن برنامج "مبدع في حضرة درويش"، الذي حاورته فيها، الشاعرة رولا سرحان.
ليست أحاديث الناس التي تدور من حوله، ومزاحهم، والجمل التي تسقط من فمهم سهوا، أو غير ذلك، بالأمور العابرة أو العادية بالنسبة لعقل الفنان خالد حوراني، فمنها ومن عقلهم اللاواعي، يستقي أفكارا لفنه، ويطوعها لتصبح أعمالا ملموسة ومرئية. وهي في الوقت نفسه طريق يتحرك من خلالها من أجل أن يستمر الفن في دوره المعرفي بالنسبة له، فالفن طريقته للتعلم، وطريقته للوجود، والتي تتجسد من خلال المشاركة التي تعني بالنسبة له مشاركة قلقه وأفكاره عن وحول الحياة. فالفن هو وسيلة لرؤية الحياة والواقع، وهو ما يساعد في خلق عالم جمالي يعزز حضور الفن أيضا في مقابل الفنون الإبداعية الأخرى. فالفنون البصرية كما يقول: "هي في منطقة ليس لها نفس ذلك الحضور، فالفنون البصرية والفن التشكيلي، ليست فنا جماهيريا مثل الغناء والتمثيل أو حتى الشعر في المدونة العربية، أشعر أن الفنون البصرية ليس لها نفس ذلك الحضور، وفي مرحلة ما كنت أشفق على نفسي وعلى الفنانين الكبار والعظام الذين أتعلم منهم."
و يضيف حوراني " إن الفن هو عملية حوار بين شخصين أو أكثر وليس مقولة من طرف واحد، فمعظم أعمالي الفنية ناتجة عن قصص أو تفكير أو نقد لشيء ما، فما يتركه في نفسي خبر صغير أو خبر كبير يتخمر ويصبح فكرة."
يتجلى هذا بوضوح في قصة عمله الفني "البطيخة"، التي استقى فكرتها من ضابط في الإدارة المدنية، عندما اشترط على بعض الفنانين التشكيليين الفلسطينيين آنذاك الذين سعوا إلى تشكيل رابطة للتشكيليين فترة السبعينيات، ألا ينظموا التجمعات وألا تحتوي المعارض على أعمال تحريضية، وألا يرسموا العلم الفلسطيني ولا ألوانه، ولا حتى "البطيخة".
العلم الذي صار بطيخة
من هذه الحادثة التي أخبره بها الفنان عصام بدر، الذي كان رفقة الفنانين سليمان منصور ونبيل عناني في اجتماعهم مع ضابط الإدارة المدنية آنذاك، تمكن من إدخال العلم الفلسطيني إلى مشروع "أطلس فلسطين" الذي جرى في بولندا عام 2007، وهدف إلى إعادة التفكير في الخارطة والأغاني الوطنية واختراع قواميس جديدة لكل بلد من وجهة نظر فنانيها.
وعن هذا العمل قالت رولا سرحان، التي أدارت الحوار: "البطيخة أعادتنا لمرحلة من التماهي بين الفعل السياسي وأهمية الثقافة في الفعل السياسي، إذ شهدت الحركة النضالية الفلسطينية في مرحلة ما حضور قوي للثقافة مع السياسة، إلى أن وصلنا اليوم إلى حالة من الانفصال".
تحولت البطيخة إلى عمل أيقوني بعد هبة الشيخ جراح عام 2020، ووصلت إلى العالمية وباتت تستخدم في التظاهرات التي ينظمها فلسطينيون ومناصرون للقضية الفلسطينية في مختلف أنحاء العالم. ووفقا لحوراني: "حقيقة لم أكن أتوقع أن يصل هذا العمل إلى هذه الجماهيرية، التي وصلت إلى العالمية رغم أني كنت في وقت سابق أقدم البطيخة وأعرضها في معارض محلية وعالمية، ولكنها عادت وتم الاحتفاء بها بشكل غير مسبوق نتيجة أنها كانت قادرة على اقتراح شيء مختلف دون أن يتم حصاره أو رفضه، وهذه هي أهمية الفن، وهذه هي الاستراتيجية أيضا التي يجب أن يتم اتباعها في السياسة وفي الحياة."
الخيال والفن والسياسة مهمتها تقترح شيء بديل في إطار رفض ما يفرض علينا، فنحن نستحق حياة كريمة، ...فنحن كشعب وقع علينا أذى كبير من الاحتلال الإسرائيلي، ومستمر ومتفاقم."
معرض من لحم ودم في السجن
وعن معرضه الذي أقيم في سجن "كتسعيوت" في النقب المحتل، قال خالد حوراني إنه "عندما كان مسجونا في الانتفاضة الأولى لمدة ثلاثة أشهر، أخذ يرسم وجوه الأسرى على قمصانهم، حتى تشكل لديه 28 رسمة، فاقترح أحد الأسرى واسمه سليم، أن ينظموا معرضا لهذه الرسومات، وأن يدعو عليه بقية الأسرى القابعين في الأقسام الأخرى، وهذا ما حدث، إلا أن المعرض لم يرق للجيش رغم خلوه من المضامين "التحريضية"، وطالبوا بفضه".
لكن الأمر لم ينته عند رغبة الجيش في فضه، فاقترح أسير آخر أن يتحول المعرض من ثابت إلى متحرك، وأن يرتدي كل واحد منهم قميصه الخاص، وبهذا يتم التحايل على قرارات إدارة السجن، علق خالد حوراني على هذه الحادثة بوصفها حيلة ذكية، واستراتيجية ذكية لكيفية التحايل على الأمر الواقع.
بيكاسو في فلسطين.. حراس يحرسون حراسا
بين عامي 2009 و2011، لمعت في ذهن الفنان خالد حوراني فكرة أن يجلب لوحة لبيكاسو إلى فلسطين، لم يكن العمل مهما بالقدر الذي أراد فيه خالد أن يختبر رحلة اللوحة إلى فلسطين.
وحول هذا قال "جلب هذه اللوحة، تختصره عبارة "لا شيء مستحيل"، إذ تمكنا بعد عامين من المحاولة أن نحضرها وأن نعرضها على ما يقارب 6000 فلسطيني، قبل أن تعود إلى قواعدها بسلام، حتى بلغ صيتها إلى الأسرى في سجون الاحتلال". إذ تلقى حوراني رسالة من أسير في سجن جلبوع، فيها تحية ورسمة مستوحاة من لوحة بيكاسو "المرأة في الحرب العالمية"، عرضها فيما بعد في معرض بألمانيا.
وكما خضعت لوحة بيكاسو التي أحضرها حوراني إلى شروط كثيرة، بينها أن تكون تحت الحراسة طوال الوقت، حتى أصبح الحراس جزءا من اللوحة، ما منع المصورين من التقاط صورة خالية من حارسين أحدهما على يمينها، والآخر على يسارها، أخضع حوراني لوحة الأسير إلى شرط الحراسة، ومن هنا انطلق بمشروع وصفه بأنه "حراس يحسرون حراس"، وأخذ يلتقط في كل معرض يشارك فيه صورة للحارسين مع اللوحة، وفي المعرض الذي يليه يعرض الصورة التي كان قد التقطها في المعرض السابق، إلى أن أصبح الحراس هم ثيمة العمل، ولم تعد اللوحة الأصلية ظاهرة.
بين جيلين
يقع خالد حوراني عمريا وفنيا بين جيلين، جيل العمالقة المؤسسين للفن التشكيلي في فلسطين، وجيل الشباب، ويتحرك في هذه المساحة البينية بين الجيلين، ما مكنه من تأسيس خبرة مستقاة من الكبار والعظماء، وأيضا أن يستمد روح العطاء من جيل الشباب، ما انعكس على خصوصية وفرادة أعماله الفنية، كما جاء في تقديم رولا سرحان، التي رأت أن النقد والجمال هي واحدة من السمات الحاضرة في أعماله.
وعن هذا قال حوراني إن كونه يقع بين جيلين منحه فرصة لتعلم الكثير، وأخذ الخبرة والتجربة من الجيل السابق، وفي الوقت ذاته التعلم من الجيل الجديد، الذي يثير غيرته كونه يفكر بطريقة حرة أكثر، وينمتي إلى روح العصر، كما أنه جيل غير مهزوم على عكس جيله الذي وصفه بالمرتبك.
وخالد حوراني فنان وكاتب ومنسق. يشغل حاليا منصب المدير الفني للأكاديمية الدولية للفنون في فلسطين، عرضت أعمال حوراني عبر الشرق الأوسط وأوروبا والولايات الأمريكيّة المتحدة، كما نسق و شارك في العديد من ورشات عمل لفنانين عالميّيّن. أسس في 1997 غاليري المطل في رام الله.شغل وظيفة مصمم مجلة الكرمل التي أسسها وأدارها محمود درويش (1988- 2009)، كما شغل منصب المدير العام لقسم الفنون الجميلة في وزارة الثقافة الفلسطينية (2004- 2006).