تدوين- سوار عبد ربه
"وكأني أعيش في اللحظة، تسقط عن كاهلي أعباء الماضي، ومخاوف المستقبل"، يقول المسرحي محمد مشارقة في لقائه مع "تدوين"، واصفا شعوره بعد كل عرض مسرحي يؤديه، "إنها اللحظات الأكثر متعة بالنسبة لي، وفي كل مرة أنهي فيها عرضا أو تجربة أدائية، ينتابني شعور مختلف عن سابقه، أشعر وكأني تخلصت من المشاعر والتجارب السلبية التي مضت، وكذلك من أرق المستقبل المجهول".
هذه الحالة التي تنتاب مشارقة واللحظات التي وصفها بأنها ليست من السهل أن يشعر بها أي إنسان، جعلت منه مدمنا على المسرح، ومن خلالها تأكد أنه المكان الذي ينتمي إليه، ويجد فيه ضالته، بعد سنوات من دراسة الهندسة في جامعة بيرزيت، قبل أن ينتقل لدراسة المسرح في أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية عام 2020.
ليصبح الجسد بهذا المعنى بالنسبة للممثل؛ "لغة" تعبير عن المشاعر الأولية التي يحس بها أي إنسان من حوله، بصرف النظر عن قدراته التعليمية والمعرفية
وخلال سنوات دراسته حظي مشارقة بفرصة الدراسة في مسرح أودين بالدنمارك، الذي أسسه الكاتب المسرحي والمخرج والممثل الإيطالي أوجينيو باربا. يركز هذا المسرح على الجسد كأداة هامة في التمثيل، وأثناء دراسته في "أودين"، تلقى مشارقة تدريبات تختلف عما هو معتاد عليه؛ ليدرك في حينها القدرات الكامنة وراء الجسد كأداة للتعبير، بمعزل عن الكلام المنمق والموضوع ضمن إطار منطقي أو واقعي، ليصبح الجسد بهذا المعنى بالنسبة للممثل؛ "لغة" تعبير عن المشاعر الأولية التي يحس بها أي إنسان من حوله، بصرف النظر عن قدراته التعليمية والمعرفية، وبساطة اللغة التي يفهمها أو تعقيدها.
الجسد في مواجهة العمر والتقلبات المزاجية
واستكمالا لأهمية دور الجسد في المسرح، يرى مشارقة أن الاعتياد على استخدامه وتوظيفه عبر التدريبات؛ يحمي الممثل من تبعات التقدم في السن، التي تؤثر بشكل أو بآخر على الليونة وعلى الثقة فيه، إلا أن تمرين الجسد المستمر تبقي الممثلين قادرين على التكيف مع المتغيرات التي تطرأ على الجسد بفعل التقدم في العمر، ما جعله أكثر إدراكا لأهمية التدريب وضرورته كي يظل الممثل قادرا على إسعاف نفسه بمعزل عن التغييرات الفيزيائية.
وللتدريب مهمة وأهمية أخرى، تمكن الممثل من تحييد جسده عن مشاعره عبر أقنعة؛ هذا لأن التقلبات المزاجية التي تطرأ على نفسية الممثل قد تخذله في مرحلة ما، أثناء تأديته للعرض؛ لذا يتيح تدريب الجسد على الوصول إلى حالة مزاجية محايدة للممثل أن يؤدي الحالة التي تتطلبها الشخصية، بشكل أسهل، تختلف طريقته بين ممثل وآخر؛ لأن لكل واحد منهم أدواته الخاصة، التي يكتشفها ويبنيها خلال سنوات دراسته وعمله، سيما وأن لا أحد من البشر يقرر أن يحس بشعور ما، إنما القرار يكون في ما الذي يمكننا فعله للإحساس بشعور ما، وفقا للممثل.
وبهذا المعنى؛ يصبح الجسد واحدا من أهم الأدوات التي يمكن للممثل أن يستخدمها كي يصل إلى الحالة التي تتطلبها الشخصية، بصرف النظر عن مشاعره الأصلية، من خلال تعريضه إلى التجربة والخطأ، التي من خلالها يكتشف الممثل أدواته التي سترافقه في هذا الجانب.
انضم مشارقة خلال سنوات دراسته في جامعة بيرزيت إلى مسرح الجامعة، وكذلك إلى المسرح الشعبي الذي تأسس عام 1991، كهاوٍ، قبل أن ينطلق في رحلته الدراسية إلى الخارج، ويتعرف على الأدوات التعبيرية المختلفة التي تنقص المسرح الفلسطيني.
المسرح الفلسطيني والجسد
ينظر مشارقة إلى المسرح الفلسطيني في جانب اعتماده على الجسد، كمكان يفتقر إلى الدراية الكافية والتوظيف الصحيح لهذه الأداة؛ إذا ما قورن في أماكن أخرى، مع وجود استثناءات أدركت أهمية هذه الأداة ووظفتها ولو قليلا في تدريباتها وإنتاجاتها.
وكمقترح أولي يمكن الانطلاق منه للالتفات إلى الجسد وأهميته، فكر مشارقة في الدبكة الشعبية الفلسطينية التي من الممكن أن تستخدم في تدريب الممثل وتزويده بأدوات تعبيرية، مبنية بالأساس على تاريخنا كشعب وتاريخ ثقافتنا.
فالدبكة بالنسبة لمحمد مشارقة، مرتبطة بذاكرتنا ووعينا الجمعي والتراكمي، وفي ذاكرة أجسادنا أيضا، وهي كأي رقصة شعبية في العالم يمكن البناء عليها، عبر تطويرها لتصبح أداة تعبير بعيدا عن شكلها التقليدي، بحيث يتم توظيفها لتناسب الإنسان المعاصر، سيما وأن الرقص بالنسبة له وسيلة للتعرف على الجسد والتصالح معه وبناء جسر ثقة وعلاقة واضحة بينه وبين مستخدمه.
تدريب الممثل الجسدي، لا يكون لغاية جعله راقصا أو رياضيا، فهذه تحدث ضمنيا؛ إنما من أجل إعادة هيكلية خيال ومشاعر الممثل
وفي شرحه لوجهة نظره بتدريب الجسد وإمكاناته، قال مشارقة لـ "تدوين" إن تدريب الممثل الجسدي، لا يكون لغاية جعله راقصا أو رياضيا، فهذه تحدث ضمنيا؛ إنما من أجل إعادة هيكلية خيال ومشاعر الممثل، بحيث تبني جسورا ما بين المشاعر والوعي واللاوعي بين الممثل وجسده، وفي الوقت ذاته تجعله قادرا على تطويع ما يمتلكه للتعبير، الأمر الذي سينعكس فيما بعد على هوية المسرح.
المسرح الفلسطيني بين التدريب والتطبيق
واستكمالا للحديث عن المسرح الفلسطيني، فإن الهاجس الذي يطارد مشارقة يتخلص في؛ ما الذي يمكننا كفلسطينيين أن نستخدمه كي يصل ما يقدمه المسرح الفلسطيني لأكبر عدد من الناس محليا، وعالميا، بطريقة تبتعد عن المباشرة أو الكلام النمطي أو ذلك الذي يفلسف الحالة أكثر ما يعبر عنها، معتبرا أن المسرح وجد كي يعالج قضايا نعيشها في حياتنا اليومية، ويفكر بالماضي أيضا ويعيد تقييمه وهيكلته للاستفادة منه، ويستشرف المستقبل.
وعليه؛ يرى مشارقة أنه إذا لم ينجح المسرح في تحقيق هذه الأهداف، يتحول إلى محاضرة أو لأداة ترفيهية فقط، وبهذا تتحول المتعة المنزوعة من المعاجلة والحلول، إلى أعمال خالية من المضمون.
وفي فلسطين، وفقا للممثل، هناك أعمال تذهب باتجاه المحاضرة، وأخرى باتجاه الترفيه فقط، هذا ليس لعدم وجود فنانين أكفاء، إنما المشكلة تكمن في الأساس وهو التدريب؛ الذي ما زال غير جاهز لتوظيف الأمور المذكورة أعلاه، ليكون الجمهور أمام عمل مسلٍّ ومحتوى جميل في آن معا.
ومرورا على بعض الأعمال المسرحية الفلسطينية التي اطلع عليها مشارقة اطلاعا متواضعا، خلص إلى أن المواد الموجودة في المسرحيات سواء العنصر البشري أو التقني يمكنها أن تعرض وتؤدى بطريقة أفضل؛ هذا لأن الممثل لا يمتلك من الأدوات ما يؤهله لابتكار طرق تعبيرية، تمكن المخرج من تركيب المسرحية المناسبة.
كي يبدأ المجتمع الفلسطيني بالنظر إلى المسرح بطريقة مختلفة، يجب أن يصبح المسرح جزءًا من إرثه
أما فيما يتعلق بالثقافة المسرحية عند الشعب الفلسطيني، ومدى انخراطه وتذوقه للمسرح وإنتاجاته، اعتبر مشارقة أنه كي يبدأ المجتمع الفلسطيني بالنظر إلى المسرح بطريقة مختلفة، يجب أن يصبح المسرح جزءًا من إرثه، إلا أن المسرح الفلسطيني ما زال في مرحلة بناء الإرث، معتبرا أن الشعب الفلسطيني ليس لديه تذوق للمسرح؛ وكي يدخل في هذه المرحلة، على المسرح أن يتواءم مع طريقة عيش المجتمع وطريقة تعامله مع الأشياء.
وكحل لهذه المعضلة، فكر مشارقة بأن المسرحيات يجب أن تدرس المعطيات المتعلقة بتفاصيل حياتنا كشعب فلسطيني ثم توظيفها بطريقة مختلفة كي تبدأ الناس بتشرب الأعمال الموجودة والاستمتاع بها.
وعلى سبيل المثال، من المعطيات الواجب على صناع العمل أخذها بعين الاعتبار، بحسب الممثل، أن يكونوا واعين لمن هم جمهورهم، فلو عرض عمل في منطقة حيوية كرام الله، يمكن للجمهور أن يفهم معادلة أن تعرض مسرحية مدتها ساعتين، تتطلب من الجمهور أن يجلس صامتا على مدار عرضها، أما في المناطق النائية تصبح هذه المعادلة صعبة التحقق؛ هذا لأن تجربة الإنسان تختلف باختلاف بيئته، وهذا الاختلاف أيضا سيعرض صناع العمل للانتقاد من جمهور معين مطلع على المسرح ومتاح له أن يتابع باستمرار، على مباشرة رسالة العمل على سبيل المثال، في حين أن العمل ذاته قد يعجب جمهورا آخر في منطقة أخرى دون انتقاد أو انتباه إلى تفاصيل كهذه.
بعض الأعمال المسرحية تحاكي طبقة المثقفين والمختصين في المسرح، متناسية الشعب، ما خلق فجوة بين الاثنين
وفي المسرح الفلسطيني مشكلة أخرى وفقا للممثل، وهي أن أعماله في بعض الأحيان تحاكي طبقة المثقفين والمختصين في هذا الجانب، متناسية الشعب، الأمر الذي خلق فجوة بين الاثنين.
وفي سؤاله عما إذا كانت العملية عكسية بحيث يختار المتلقي العمل الذي سيشاهده وبهذا يصبح هو صاحب القرار في المتابعة أو عدمها كي لا يتحمل المسرحيين وحدهم عبء الفجوة الموجودة، أكد مشارقة على أهمية هذه النقطة، إلا أنه يرى أن الجمهور يستطيع أن يكون صاحب القرار إذا كان مطلعا على أعمال الفرقة الداعية للعرض، لكن هذا لا يحدث دائما فهناك فرق جديدة تظهر لا يعرفها الناس وهويتها ما زالت في طور البناء. كما أن الجمهور أحيانا لا يقرأ تفاصيل العرض المذكورة في الدعوات المنشورة عبر منصة "فيسبوك" على سبيل المثال، وهذا الأمر يجب أن يلتفت إليه صناع العمل الفني أيضا، ومعالجته لاستقطاب أوسع شريحة ممكنة.