الجمعة  22 تشرين الثاني 2024

بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد (2023/ 2024): لماذا ندرّس الأدب في المدارس؟

2023-09-05 09:43:02 AM
بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد (2023/ 2024): لماذا ندرّس الأدب في المدارس؟
مهمة الأدب الأولى هي المتعة والتأثير الوجداني وليس ضخ الأفكار والمفردات اللغوية والتراكيب النحوية

تدوين- فراس حج محمد

يرتبط الأدب- عادة- بتحقيق رغبات عاطفية وشعورية قبل أن يخاطب العقل، فهو من أكثر حقول المعارف التعليمية التصاقاً بما يُعرف بالذكاء العاطفي، وعليه فإنه من المفيد- تعليميّاً- الإجابة على السؤال أعلاه، لاسيما وقد أصبحت علاقتنا أضعف بالنصوص الأدبية بفعل عوامل كثيرة، قد أخصص لها وقفة خاصة بها.  

يطلق على الذكاء العاطفي مصطلحات رديفة متعددة من مثل: ذكاء المشاعر، والذكاء الانفعالي، والذكاء الوجداني، والذكاء الاجتماعي، وذكاء التعامل مع الذات، وذكاء التعامل مع الآخرين، والذكاء البين شخصي، وربما هناك مصطلحات أخرى، لكنها بالمجمل تدور حول ما يؤشر له هذا الذكاء من معانٍ، أو ما يتصل به من مهارات وقدرات، تتصل بعلاقة الفرد بنفسه أو علاقته بغيره، فردا وجماعة، علاقة للجانب الانفعالي الوجداني دور كبير فيها.

ولقد خاض العلماء والدارسون فيه كثيراً، وألفت فيه الكتب، واستجلب من حقول علم النفس إلى حقول التربية والتعليم؛ فعقدت له دورات وورش عمل، وصممت له نشاطات وفعاليات، وتوجه المعلمون والطلاب نحو ملاحظة ما يتصل بالعاطفة والمشاعر من قضايا في النصوص المدروسة والأنشطة التعليمية، وما يتوجب عليهم داخل الغرفة الصفية أو داخل أسوار المدرسة من أخلاقيات ومعاملات بين أفراد المجتمع المدرسي لتدور في فلك هذا الذكاء، وأخيرا انتقل هذا الاهتمام إلى كتب التنمية البشرية وتدريباتها، على ما في هذا الاتصال من التباس ما بين علم النفس ومهارات التنمية البشرية.

لا أقدر من الأدب- بشتى فنونه- على فعل هذه المهمة في تنمية القدرات العاطفية لدى الطلاب والطالبات وتوجيهها التوجيه السليم

تؤكد الأبحاث العلمية أن الإنسان ذو قدرات مختلفة، فُسّرت لدى هؤلاء العلماء أنها ذكاءات متعددة، وتختلف باختلاف عوامل متعددة أرجعها العلماء إلى عوامل وراثية، وأخرى اجتماعية وثقافية، وأن الناس مختلفون فيما بينهم فيما يغلب عليهم من أنواع الذكاء هذه، وأنه بالإمكان أن يهتمّ المرء بنفسه، أو أن يهتمّ به غيره، فينمي قدراته في الذكاء بفعل تدريبات معينة، فهي مكتسبة، ولدى الإنسان السوي استعداد فطريّ لتنميتها، وما الحياة في أصلها إلا خليط من هذه التجارب الحياتية التي يلزم الإنسان التعامل معها، حسب الظروف والأحداث التي تستجدّ على الإنسان. وبالإمكان أن تتحسن تلك القدرات جميعها أو بعضها على الأقل في عمليات التعليم أو التدريب المدروسة والموجّهة، محاكاةً لما يحدث في الواقع من تلك التجارب.

وبناء على ذلك وجدت أنشطة تعليمية وتدريبية لرفع مستوى الأداء والتمكن من مهارات متعددة، مرتبطة بنوع معين من الذكاء، ومن هذه الأنشطة ما يستهدف رعاية الذكاء الانفعالي العاطفي والوجداني لدى الطلاب بأنشطة لا صفية، وأخرى صفية، وثالثة تعليمية تحليلية.

وتساعد طرق التدريس وأساليبه واستراتيجياته على تنمية هذا النوع من الذكاء، كالعصف الذهني، والتعليم التعاوني، والتعلم عن بعد، والتعليم الخاصّ المتجه نحو ذوي الاحتياجات الخاصة أو متدني الأداء، أو من يعانون من صعوبات في التعليم، فهذه بكيفية أو بأخرى يحتاج من يقوم عليها تعليما وتعلماً ومن يندمج فيها إلى كثير من مهارات الذكاء العاطفي، بل وتحتاج الأنشطة المنفذة إلى أن تكون مبنية على هذا النوع من الذكاء، لما لهذه الفئات من المتعلمين من حساسية خاصة تجاه ما ومن حولها.

هذه أساسيات عامة في عملية التعلم والتعليم، أما المحتوى التعليمي، فإنني أرى أنه لا أقدر من الأدب- بشتى فنونه- على فعل هذه المهمة في تنمية القدرات العاطفية لدى الطلاب والطالبات وتوجيهها التوجيه السليم، بل إنني أعتقد جازما أن الكاتب؛ شاعراً وقاصاً وروائيا يعتمد في صياغة نصوصه على الناحية العاطفية؛ لأنه يريد أن يُمتع القارئ ويؤثر فيه وجدانيا، فمهمة الأدب الأولى هي المتعة والتأثير الوجداني وليس ضخ الأفكار والمفردات اللغوية والتراكيب النحوية، إنما الأفكار ومعها أساليبها محصلة حاصل، إذ لا أدب دون أفكار وأساليب ولغة، ولكن ما يعطي هذه الأفكار تأثيرها الوجداني العظيم في نفوس المتلقين هي الصنعة الأدبية التي أحد أعمدتها اتكاؤها على العاطفة واستثارتها، لذلك لم يهمل التحليل المدرسي توجيه الطلاب نحو العاطفة المختزنة في المقطوعة الأدبية شعرا أو نثرا، وتقمّص الحالة الشعورية في تلك النصوص، والاندماج معها عاطفيا، وملاحظة مدى الانسجام ما بين اللغة المستخدمة وحقول الألفاظ مع هذه الحالة.

تقوم عمليات التذوق الأدبي والفني للنصوص المدروسة على هذا الجانب من خلال عناية التحليل الفني بالتأثير بالطلاب وجدانيا، ليتخذوا مواقف عاطفية إيجابية تجاه الأشياء والأحداث في النص المدروس أولا، ومن ثمّ صقل مشاعر الطلاب ليكونوا أكثر إيجابية في الحياة التي يعيشون فيها، ومن أجل هذا الغرض يحرص مؤلفو المناهج الوطنية- عادة- على أن تكون هذه النصوص ذات صلة كبيرة بواقع الطلاب، لتزداد درجة الفاعلية بين المدرسة ومكوناتها والمجتمع وقضاياه، وهذا ما يفسر اختلاف المناهج التعليمية ومقرراتها بين الدول والمجتمعات المختلفة، هذا الاختلاف الناشئ عن طبيعة المجتمع وأفكاره، أكانت زراعية أم صناعية مثلا، وسواء أكانت غربية أم شرقية، تقدمية أو استعمارية، محتلة أو مستقلة، وهكذا.

ورد عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قوله: "ارووا الشعر؛ فإنه يدل على محاسن الأخلاق ويقي مساويها"

يكاد يكون نجاح الكاتب أو مؤلفو المقررات الدراسية في هذه المهمة البداية الحقيقية للنجاح الأدبي في تمثيل النص لأفكار المجتمع أدبيا، معتمدين في بناء التأثير على سحر المخاطبة الذاتية والنفسية العاطفية، واللعب على "الوتر الحساس" في مدغدغة عواطف المتلقين المعنيين بها بالدرجة الأولى، وهم الطلاب وغير الطلاب، وأقصد هنا القرّاء بشكل عام خارج النظام التعليمي، فما الذي يجبر المتلقي على قراءة مئات الصفحات لنجيب محفوظ- مثلاً- في روايته الثلاثية لولا هذه المتعة؟ وما الذي كان يجبر جمهور المستمعين في المضافات القديمة على الاستماع للحكواتي؛ وهو يسرد السيَر الشعبية، لولا هذا التأثير الوجداني العاطفي؟ وما الذي يدفع المشاهد أن يبكي لمشهد تمثيلي في مسرحية أو مسلسل غير هذا التأثير الوجداني؟ وما الذي يدفعه لأن يضحك على مشهد كوميدي لولا هذه المشاركة الوجدانية؟ وما الذي يجعله يقضي ساعتين أو أكثر بشكل متواصل لحضور فيلم سينمائي أو مسرحية لولا ما يترجّاه من هذه النشوة التي يتحصّل عليها؟ عدا ما يفعله مشاهدون آخرون مغرمون بمتابعة المسلسلات بمئات الحلقات، فلا يكادون يضيّعون حلقة واحدة. إن دافعهم إلى ذلك- بلا شك- المتعة والتلذذ بهذه الفنية أو الأدبية التي تشبع رغباتهم الانفعالية طوال الوقت.

إن حديث القراء الممتع عن الروايات والقصائد يعكس مدى تأثير تلك الأعمال في القراء بشكل عام، وتركها بصمات واضحة في شخصياتهم، وتسللها إلى محفوظهم، دون قصد منهم على الحفظ، بل حبهم للكتّاب عن بُعد وارتباطهم بهم بعلاقة صداقة متينة، تعود إلى هذه القوة الناعمة التي يختزن بها الأدب. فكيف صنع نزار قباني جمهوريته لولا هذا الحب الجارف الذي عبأ قصيدته به، وجعله حاضرا إلى الآن على الرغم من موته البيولوجي منذ عقدين تقريباَ؟ لعلنا نتذكر أيضا ما تفعله قصائد الشعراء في الجيوش، وهي تلقى على مسامع الجنود في أرض المعارك.

لقد كانت اللغة الأدبية على الدوام مخزن هائل من المشاعر، ولذلك هي عدة الكاتب في كل أدب ينتجه، ولذلك لم تكن هذه اللغة في يوم ما لغة علمية موضوعية محايدة مُعلّبة جافّة جامدة، إنما هي مرجل فيّاض من المشاعر والمعاني النفسية العميقة التي تكشف عند تحليلها- وهذه هي مهمة التعليم- عن أهمية الصياغة الأدبية الجيدة للنصوص التي تهتم بالبعد النفسي للغة الأدبية ذاتها، وارتباطها الدلالي مع موضوعها الذي تتحدث عنه.

إن دُرِّس الطالب نماذج رديئة سيكون لها نتائج كارثية على أصعدة متعددة، أقلها نفور الطالب من عملية التعليم، وربما أعلاها خطراً دفع الطالب بطريقة غير مباشرة ليتلمّس الجودة الأدبية في الأداب الأخرى الأجنبية، ما يساهم في تغريبه، وفقدانه لشخصيته وهويته.

لكلّ ذلك؛ كان لا بد من وجود أدب في كل مقررات العالم الدراسية؛ لتربي ذوق الطلاب الأدبي، وتُمتعهم، وتُعينهم على تزجية الوقت الثقيل في المدرسة، ويتوخى المؤلفون في الدرجة الأولى أن تكون هذه النصوص عالية الجودة أدبيا، وافتراض الجودة هو افتراض أن تكون مؤثرة عاطفيا ببعديها اللغوي والأسلوبي، أولاً، ومن خلال هذا التأثير العاطفي يتم الدخول إلى صناعة عقول الطلاب وتغذيتها بالأفكار واللغة والعبارات والأساليب المتنوعة، فكل فروع اللغة- على سبيل التذكير والتنبيه- يجب أن تدرس بتوظيف النصوص الأدبية العالية في توهجها العاطفي المستند إلى الصحة المطلقة والمثالية في بابها، سواء في ذلك النحو والصرف والإملاء والخطّ، ناهيكم عن تعليم البلاغة ذاتها وعلم العروض والبحور الشعرية.

ورد عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قوله: "ارووا الشعر؛ فإنه يدل على محاسن الأخلاق ويقي مساويها"، وكان للقرآن الكريم، بوصفه أعلى نموذج أدبي عربي، هذا الأثر في نفوس المتلقين له؛ يلحظ الدارس شيئا من هذا الانفعال العاطفي الظاهر جدا في تقدير القرآن الكريم أدبيا ومشاعريا بقول الوليد بن المغيرة- وهو ليس من أتباع الإسلام- "والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته"، فلا يفهم هذا القول الفهم الصحيح دون الالتفات إلى البعد النفسي العاطفي في هذا الرأي، إنه ينمّ عن تعظيم كبير، ويظهر ما تخفي النفس من انفعال تجاه القرآن الكريم، ويخفي وراءه أيضا تقدير للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتعظيم للإسلام في آخر المطاف في تحليل مرامي هذا القول.

وعلى ذلك سارت السنة المحببة في التدريس في اختيار النماذج الأدبية؛ لتكون سبيلا لصناعة العاطفة وتقويتها، سواء أكانت عواطف ذاتية، مما يتصل بالمرء نفسه، من احترامه لذاته، وتقدير لوجوده، وأن يحفظ كرامته، وأن يتحلى بأخلاق عالية. أم كانت عواطف اجتماعية، بين الفرد وغيره من تقديره للآخرين واحترامهم، والإنصات الجيد لهم، ومحاورتهم، وحسن الاختلاف معهم، أو في صقل العواطف العامة الوطنية والدينية والإنسانية، وكلها موجودة في الأدب، ولا بد عند اختيار النصوص الأدبية- شعرا ونثراً- أن تكون متضمنة عند التحليل مجموعة من هذه المشاعر والاتجاهات الإيجابية ليدور حولها التعليم وتعمل الأنشطة التعليمية على رعايتها، ومعالجة ما تومئ إليه من دلالات عكسية، ومن إخلالات وجدانية، وخاصة ما استقرّ في المجتمع من اتجاهات سلبية تجاه المرأة أو تجاه الأقليات الطائفية أو تجاه دين معين، أو ما شابه ذلك، من تقدير سلبي خاضع لمواضعات الفقر والغنى والعائلة والطبقة والمهنة، والاتجاه السياسي.

لا يكفي من عملية التعليم أن تزود الطلاب بالعلوم والمعارف المجردة عن منظومة القيم، أو تزودهم بالمهارات الخالية عن التأثير الانفعالي العاطفي، فلا بد من أن تعالج النصوص الأدبية ضمن بيئة المدرسة الكلية عمليات ضبط النفس، والسيطرة على الذات عند الغضب عبر نماذج أدبية متضمنة لهذا الغرض، كما لا بد من وجود نصوص أدبية تنمي العاطفة الذاتية وحسن التعامل مع العاطفة الشخصية من خلال تعلم شعر الغزل، وأن يتبين الطالب بالنموذج الحيّ كيف يقدر الشعراء المرأة التقدير الكبير، لدرجة أن وجودها استولى على جزء كبير من المدونة الشعرية العربية والأدبية بشكل عام، لتكون النتيجة في واقعه العملي الحياتيّ احترام الطالب لأمه ولزميلته ولأخته ولمعلمته ولزوجته في المستقبل، ولأي امرأة في المجتمع، فإذا لم يتم العمل على هذه القيمة داخل الغرفة الصفية من خلال مقررات موجهة ومدروسة جيدا سيظل المجتمع يعاني من وجود نزعات التعالي البغيض والشعور بالتفوق تجاه المرأة أو تجاه غيرها من قضايا خاصة أو أشخاص معيّنين، وسنظل نشهد بين الحين والآخر حوادث خطيرة من الاضطهاد الموجه ضد هذه الفئات المستضعفة.

كما تقوم النصوص الأدبية المختارة المفتوحة على الأفقين، القومي والوطني معاً على توجيه الطلاب لتقدير انتمائهم القومي لأمتهم، ولوطنهم كجزء من الأمة، من خلال تلك النصوص التي تبين عظمة هذه الأمة ليشعر الطالب أنه ذو تاريخ مجيد، فيمتلئ عزة وكرامة وطنية وقومية، فليس من شعور أجمل من شعور المرء وهو يعلم أن له أمة عظيمة، إن هذا يدغدغ عواطفه ويشعره بالزهو الحقيقي، فكان لا بد من دراسة نماذج من أدب الحرب العربي وسير العظماء الوطنيين والقوميين والدينيين، التاريخيين والمعاصرين، ولكي تكتمل الصورة يجب ألا يعيش المتعلم دائما في الوهم، فيعرف أن الأمة العظيمة يمكن لها أن تنكسر لكن هذا الانكسار لا ينهيها، فيتشبع الطالب بالمعرفة والتوازن ويستطيع أن يكوّن فكرة متكاملة عن تاريخه وأمته، فيحسن التعامل في الحالتين، فلا يتعصب تعصباً أعمى لتاريخه، ولا يتنكر له، ويقلل من شأنه- كما يحدث لدى الكثيرين ممن فقدوا الثقة بالأمة وأمجادها لسوء أحوالها المعاصرة، فكان ذلك سببا كبيرا في القلق النفسي والاضطراب العاطفي لدى هذا الفريق، وربما قادهم إلى معاداة الأمة والتنصل منهاـ واتجهوا إلى الانغراس في حضارة أخرى أو أصيبوا بالعدمية المدمّرة، ماديا ومعنوياً، وكلاهما شديد الخطر على الطلاب جميعاً، وفي جميع المراحل، لاسيما إذا تولى عملية التعليم شخص مصاب بهذه اللوثة القاتلة.

هذه قضية تختلف عن الانفتاح على الآخر، الذي هو مطلوب جداً، وأن يكون مُتَضَمّناً في النصوص الأدبية المجلوبة المترجمة من الآداب الأخرى، فعليها أن تعزز الاتجاهات الوطنية والقومية في الدرجة الأولى، وألّا تناقضها، وتكون مهمتها أن تبين أن للآخرين حضارة مهمة، وأنّ لهم تاريخاً مجيداً أيضا، ونشترك معهم في الأفكار والمعارف والسلوكيات والقيم الإنسانية العالمية، لنربي في الطالب انتماءه إلى هذا العالم، فنقارن أدب الأمم الأخرى بأدبنا ونجمع المتشابهات، ونناقش المختلفات، ونضعها في سياق من احترام الآخرين وخصوصيتهم الثقافية، فلا يشعر الطالب بالعزلة والانتقاص، بل إنه- ومعه كل سكان العالم- له ولهم الهموم نفسها، وله ولهم التوجهات القيمية والعاطفية ذاتها، فكل شخص في العالم يحب وطنه ودينه ويدافع عنهما، وكل شخص في العالم له عواطف تقدير ذاتية في احترام الذات والآخرين وتقدير الإمكانيات الفردية والجماعية، والكل يسعى إلى التطور، وغير ذلك من قيم ومشاعر، فالكل مجمع على قيم الحق والخير والجمال، وعلى عملية التعليم المدروسة هذه ضمن استراتيجيات ممنهجة أن تدفع الطالب إلى الرغبة والاستزادة في المعرفة والتعلم، فيتوجه إلى مصادر التعلم، فتزيد لديه الشغف بالتعرف إلى الذات الفردية والجماعية، والتعرف على الآخرين أيضاً من ثقافات متنوعة.

وعلى الجانب الآخر يهتم الأدب بمعالجة ظواهر عاطفية انفعالية سيئة، وخاصة نزعة العنف والاعتداء على الآخرين والحسد والغيرة والتنمر، لتصل عملية التعليم إلى عملية من التكامل المرْضيّ عنه في صقل شخصية الطالب، والاهتمام بمشاعر الحزن وتوطين الطالب على مواجهتها من خلال مناقشة نماذج من أدب الرثاء، شعره ونثره، والتعمق نفسيا في أثر هذا الأدب على المصاب بمصيبة الموت، فيجد فيه بعض العزاء، ما يخفف عنه بلاءه ومصيبته. ومعالجة موضوع الموت ومشاعره في النصوص الأدبية المدرسية يجب ألا يكون ضمن دائرة الأدب التشاؤمي المختزن لكمّ من المشاعر السوداء المغلقة التي قد تدفع الطالب إلى عبثية الحياة وكراهية كل جميل فيها، وقد تدفعه إلى الانتحار، وكان من الضروري على سبيل المثال الحرص من الوقوع في هذه المصيدة التي وقع فيها مؤلفو أحد المقررات الفلسطينية للغة العربية، فضمنوا كتاب الصف الثاني عشر قصيدة "أنا وليلى" في كتاب المطالعة، وهي قصيدة مغلقة على مشاعر الإحباط، لا تتناسب وهذا العمر إطلاقاً، فالمسألة ليست جمالية فقط، وليس كل نص جيد يصلح أن يكون نصا تعليميا، لاسيما إذا كان الموضوع يتعلق باستجابة الطلاب سلبيا للموضوع الجمالي على افتراض أن قصيدة "أنا وليلى" قصيدة جيدة في الاعتبار النقدي التحليلي، وهذا يقودني إلى لفت النظر إلى مسألة مهمّة، وهي الحرص على أن تكون النماذج الأدبية المدروسة عالية القيمة الأدبية، لأن في اختيار النص الجيد متعة في التعليم، ونشوة في التحليل تجعله أكثر تأثيرا في النفس.

عدا أن النصوص الجيدة المختارة من مدونتنا الأدبية الممتدة لعصور طويلة يمنح الطالب شعورا بالثقة تجاه أدبه الموصوف بالجيد، وإلا إن دُرِّس نماذج رديئة سيكون لها نتائج كارثية على أصعدة متعددة، أقلها نفور الطالب من عملية التعليم، وربما أعلاها خطراً دفع الطالب بطريقة غير مباشرة ليتلمّس الجودة الأدبية في الأداب الأخرى الأجنبية، ما يساهم في تغريبه، وفقدانه لشخصيته وهويته.

إنّ هذه العواطف والقيم النبيلة التي يسعى إليها الأدب موجودة، أو يجب أن تكون موجودة في البيئة المدرسية؛ لتتكامل دراسة الأدب مع غيره من المباحث الأخرى؛ العلمية والإنسانية، وليس فقط في تعليم الأدب واللغة، ويعيشها الطالب في الصف، وفي الاستراحة، وفي الانتظام في الطابور، واحترام النظام، والالتزام بدوره وهو واقف في طابور المقصف، فيتجنب التزاحم والسباب والعربدة. بهذا التصور، أظن أن المدرسة بكوادرها كافة وإمكانياتها ومنهجيتها المعهودة تكون قادرة على خلق طالب متوازن عاطفياً، يقدر ذاته، ويسعى لأن يكون عضوا فاعلا مؤثرا في مجتمعه، بوابته في ذلك تدريس الأدب بمهارة عالية، لكنه لا يتوقف عنده، ولا يجوز أن يتوقف عنده.