السبت  12 تموز 2025

هل نريد مثقفا يقود الوعي، أم يستخدم لتأكيده؟

2025-07-12 02:09:12 AM
هل نريد مثقفا يقود الوعي، أم يستخدم لتأكيده؟

تدوين-توفيق العيسى

في كل مرةٍ تهب فيها العاصفة، يستدعى "المثقف" إلى قفص الاتهام. لا باعتباره شاهدا بل متهما مسبقا. توجه إليه أصابع التخوين، يحاسب وكأنما بيده مقاليد الحرب والسلام، وكأنه هو من قرر الخرائط والصفقات.

سؤال "أين المثقف؟" سؤال مشروع حين يطرح من منطق الحرص على دور العقل والمعنى وسط فوضى الرصاص. لكنه حين يطرح كاتهام معلب، وكشعار جاهز للاستهلاك في كل مرحلة، فهو جلد للذات أكثر مما هو مساءلة حقيقية، وتعويم للحقيقة أكثر مما هو تعرية لها.

والحقيقة اليوم أن المثقف ليس غائبًا، بل مغيب. ليس لاهٍ عن المحرقة، بل محترق بها، وإذا ما اكتفينا بإلقاء اللوم عليه، فإننا نغفل البنية التي صادرت صوته، أو حاصرته، أو حولته إلى صورة ممجوجة على هامش المشهد العام.

ننظر حولنا، في هذا الفضاء الافتراضي على أقل تقدير، ونرى أن كثيرًا من الكتاب والمثقفين والمبدعين لا يشغلهم إلا ما يجري في غزة، يتنفسون دمها، ويكتبون من رئة مكسورة. ورغم ذلك، يتهمون بأنهم "يكتبون عن الحب"، أو "يلهون عن المجازر"، فهل المطلوب أن يحفروا خنادقهم في نصوصهم؟ أن يذبحوا المعنى كلما كتبوا قصيدة؟

إن هذا التوجه التخويني  والذي يصدره في كثير من الأحيان مثقفون وكتاب أيضا!! لا ينبع من قراءة جادة لدور المثقف، بل من تصورات شعبوية تفرغ الكلمة من معناها، ففي حين يطالب المثقف بأن يكون الصوت الأخلاقي، يتم تجاهل ما إذا كان هناك من يسمع هذا الصوت أصلًا.

هل هناك من يقرأ للمثقف؟ من يصغي له؟ من يسمح له بالتعبير دون أن يقصى أو يخَون؟ لقد أصبح تعريف "المثقف" ذاته موضوع نزاع، فلكل فئة مثقفها، ولكل مرحلة أدواتها في التصنيف والنفي والإقصاء، فمن وافق توجهاتك صار "مثقفًا عضويًا"، ومن اختلف صار "مترفًا" أو "انهزاميًا"، وكأن المثقف يجب أن يكون أداة لإثبات صحة آرائنا، لا عقلًا نقديًا يمارس دوره خارج وصايتنا.

حين نطالب المثقف اليوم أن ينهض وحده، أن "يحرك" الشارع أو يوقظ الأمة، نعيد إنتاج سردية أبو النواس في قصر الرشيد، كأننا في زمن الشاعر المترف لا زمن الحرب والمجازر والدمار. وهذا التخيل الرومانسي لدور المثقف يفتح الباب واسعا للشعارات، ويغلقه في وجه الفعل الحقيقي. لأن الفعل لا يبدأ من تحميل فرد مسؤولية الانهيار، بل من إعادة بناء جماعي للوعي، وللبنية التي تمكن هذا الوعي.

وأسوأ ما في هذا الخطاب أنه يُحمّل المثقف مسؤوليات لا يملك أدواتها، ويطالبه بدور لا يسمح له بأدائه، فنراه يوضع في كفة مقابل الأنظمة، والجيوش، وأجهزة القمع، وكأنه قوة مضادة توازيها، لا فرد في مجتمع مسحوق يعاني ما يعانيه غيره، بل وربما أكثر.

هنا يحسن التذكير بتوصيف غرامشي للمثقف العضوي، لا بوصفه كائنًا فوقيا معزولا، بل بوصفه نتاجًا لبنية اجتماعية، فاعلًا في حقل صراع طبقي، يحاول أن يمارس دوره التنويري من داخل نسيج اجتماعي معقد لا خارجه، لكن هذه الوظيفة تظل معطلة حين ينظر إلى المثقف على أنه مخلص فردي، لا جزء من مشروع تغييري أشمل.

المثقف لا يعيش في برج عاجي، بل في عمارة متصدعة. يعيش الأزمة اليومية كأي عامل أو موظف أو عاطل. يصارع ارتفاع الأسعار، ويقف في طوابير الخبز، ويخاف التهجير، وربما هو أول من يلاحق، أو يسجن، أو يحاصر صوته.

لقد فصل المثقف منذ زمن عن القرار السياسي، لا سلطة له ولا نفوذ، بل كثيرا ما أقصي عمدا لأنه خطر على سرديات متعددة، ولأنه لا يكرر المقولات الجاهزة، وفي ظل الهجوم النيوليبرالي على الوعي والعمل الثقافي، تحول كثير من المثقفين إلى أيدي عاملة بلا حماية، أو مشاريع عاطلين مزمنين، أو مهاجرين قسريين، استبدلت الثقافة بالدعاية، والمثقف بالناطق الإعلامي.

هذا التفريغ الممنهج لدور المثقف لم يكن عشوائيًا. إنه أحد أوجه "العنف الرمزي" كما يسميه بورديو، حيث تمارس الهيمنة لا بالقوة فحسب، بل بإفراغ الوعي من قدرته على مساءلة ذاته، وعبر هذا المنظور، يصبح المثقف المقموع شاهدًا على اغترابه، بل أداة لإدامة هذا الاغتراب، حين يختزل دوره في تزيين  حفلة الخراب، أو الاحتواء، لا الفضح والتفكيك.

الرهان إذًا ليس على "المثقف" كمنقذ خارق، بل على النهوض الجمعي. لا خلاص نخبوي، ولا فداء فردي، دور المثقف ضروري، نعم، لكنه ليس بديلًا عن المجتمع، بل مكملا له. والمطلوب هو تحالف بين المثقف ومحيطه، بين الكلمة والشارع، لا أن يُترك المثقف وحده في العراء، ثم يلام على عجزه.

من السهل جلد المثقف، لكن الأصعب أن نسأل أنفسنا: هل نريد منه أن يوقظنا، أم أن يكتب داخل أحلامنا؟

هل نريده أن يقود الوعي، أم يستخدم لتأكيده فقط؟

هل نحتمل مثقفًا يقول لنا ما لا نريد أن نسمعه، أم نُريده فقط حين يردد ما نعرفه سلفًا؟

وإذا كان لا بد من مساءلة، فلنسائل السياقات كلها، من يشيطن المثقف إذا خالفه؟ من يطلب من المثقف أن يكون بوقًا، لا ضميرًا؟

ولنعد للسؤال الأول، هل نريد مثقفا يقود الوعي، أم يستخدم لتأكيده؟.