الإثنين  29 نيسان 2024

زرعت شجرة جمّيز في أريحا ولم تطلع ثمرتها بعد- بقلم: خالد الحوراني

2023-09-09 03:04:30 PM
زرعت شجرة جمّيز في أريحا ولم تطلع ثمرتها بعد- بقلم: خالد الحوراني
زكريا محمد

تدوين- آراء ومدونات

«فجأة ردّ لي الموت ما أخذه مني، وقفتْ عربته أمام بيتي، وأنزلت كل شيء، أحبتي الذين اختطفهم مني، أصدقاء طفولتي، والأمل بتنورته القصيرة.

لم يعد لدي ما أبكيه، أستطيع الآن أن أضع نعلي تحت رأسي كي آخذ غفوة طويلة».

الذي كتب ذلك أخذ غفوته الطويلة بالفعل وهو يهجس ربما وكأنه في حلم بقصيدة جديدة، قصيدة أو نص مفتوح على كل شيء، الله أعلم.

يبدو الموت في حالته ليس موت رجل واحد وإنما موت مرحلة

رحل زكريا محمد أحد أهم المبدعين في الثقافة الفلسطينية والعربية المعاصرة، وهو في أوج تألقه وعطائه وفي وقت يبدو أن شعبه أحوج ما يكون إليه، إلى هذا النوع من المثقف الزاهد الذي أحبه وقدره حتى أولئك الذين يختلفون معه، ليبدو الموت في حالته ليس موت رجل واحد وإنما موت مرحلة، يمكن قول ذلك بالطبع في حق الكثير من المبدعين والمبدعات الذين يرحلون مبكراً ويتركون إرثاً عظيماً وفراغاً صادماً خلفهم ، لكن زكريا ينطبق عليه القول كما لم يحدث منذ رحيل الشاعر الكبير محمود درويش، وما أنتجته الثقافة المعاصرة في فلسطين منذ على الأقل مرحلة اتفاق أوسلو.

لا نعرف كم من الوقت سيحتاج العالم والنقاد على وجه التحديد لتقليب صفحات وكلمات ورسومات الشاعر زكريا محمد وهو صاحب هذا الكم الكبير من الإنتاج المعرفي المتنوع والكنوز الثمينة والشعر المصفى. الإرث العظيم الذي تركه الراحل العزيز للحياة من بعده. قد يحتاج إلى أكثر من جيل لقراءته كله وهضمه كما فعل التاريخ مع شعراء عظام مثل أبو العلاء المعري وبيسوا البرتغالي وغيرهم. زكريا الذي كتب في الدين والنقد والأدب والأساطير والميثولوجيا. الشاعر ما غيره الذي عبر باللغة إلى مناطق جديدة غير مكتشفة من قبل. مناطق شاسعة يسرح ويمرح فيها خيل الكلام والشعر الذي تجاوز اللغة الشعرية المعهودة، وتسرح فيها الطيور والزهور والنباتات البرية التي لا يأبه بها أحد.

 كان يمكن لزكريا أن يحول العادي والمألوف إلى معجزة، أن يخلط البشر والشجر والحجر في عجينة وجود واحدة

 كان يمكن لزكريا أن يحول العادي والمألوف إلى معجزة، أن يخلط البشر والشجر والحجر في عجينة وجود واحدة. كان يلفتنا وهو يلتفت وكأن واحد غيره هو الذي يكتب وكأن يداً إلهية هي التي تلوح.

الباحث المتعدد الاهتمامات، الشاعر زكريا محمد عبر تلك الحدود إلى شاعرية الكون وفلسفة الوجود والعدم. كلماته وأشعاره خلخلت عالم الشعر وأنارته إلى أبعد حد وكأن الناس لم تسمع من قبل مثل هذه اللغة وهذه البساطة وهذا العمق وهذه الشاعرية. فعل زكريا محمد ذلك باللغة والشعر وأكثر.

«ويحي أنا، ويحي. يدي من حديد، ويأسي من حديد أيضاً. لا أستطيع أن أنتصر، ولا أقدر أن أُهزم».

بعض الشعراء يُفتح لهم باب واسع وينكشف عنهم ولهم السر، سر الوجود أكثر من غيرهم وكأننا بزكريا عشنا مع واحد من هؤلاء بكل بساطة ويا لمحاسن الصدف، أو هكذا سيفعل العالم وهو يكتشف شاعرا كبيرا من فلسطين اسمه زكريا وهو يقرأ ويسمع إلى هذا الصوت الفريد الآن أو بعد حين. تدفقت موهبة زكريا في زمن صعب، موهبة شغلتها الحياة وشاغلتها عن الشعر ولو قليلاً لكن الشعر في النهاية شغلها عن كل ما سواه وانتصر.

هو المعارض اللدود للحالة التي أفرزتها اتفاقات أوسلو ومعارض للسلطة مؤخرا

كان يمكن لزكريا أن يكون وهو أحد أبرز شعراء ومثقفي بلاده سياسياً متطرفاً أو ناشطاً  فقط وهو المعارض اللدود للحالة التي أفرزتها اتفاقات أوسلو ومعارض للسلطة مؤخرا.  قد نتفق أو نختلف مع فكر زكريا وقناعاته السياسية لكنه يبقى خير ممثل لذاك الجيل الذي عايش تلك المرحلة بعجرها، عاش زكريا تلك التجربة الحساسة والتي طبعت ولا تزال تطبع حياة الفلسطينيين وقضيتهم إلى يومنا هذا، التجربة الفاشلة أو الحالة التي أعادت رغم ذلك جزءا من أبناء الشعب الفلسطيني إلى وطنهم وكان زكريا محمد واحد منهم، وأعادت جزءا من كوادر منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وما تبقى من تجليات الوطنية الفلسطينية إلى وضع وكيانية ملتبسة.

قد لا نغامر إذا ما قلنا إن زكريا هو الشاعر الأبرز للمرحلة، الشاعر الذي نحب أن نقرأه أو هكذا سيكرس مع الوقت، شاعر كل الأوقات

إذا كان يصح أن لكل مرحلة ثقافتها وفنها وأغنيتها فإن مرحلة ما قبل أوسلو شيء وما بعدها شيء آخر مختلف، قد لا نغامر إذا ما قلنا إن زكريا هو الشاعر الأبرز للمرحلة، الشاعر الذي نحب أن نقرأه أو هكذا سيكرس مع الوقت، شاعر كل الأوقات.  قد لا نتبين الخط الفاصل بين المراحل إلا بعد حين، مرحلة جديدة دشنها اتفاق السلام المستحيل بكل تأكيد لها خطابها ولغتها ولأن الالتباس في هذه الكيانية السياسية النادرة والحالة الوطنية التي نتجت عنها بات هو العنوان الأبرز فإن التباساً ثقافياً ومعرفياً قد حصل أيضاً وإرباكاً طال كل شيء تقريباً من النشيد وحتى المناهج الدراسية وكذا القصائد والأدب عموماً واللوحة التشكيلية، إرباك دفع ثمنه جيل من المبدعين الذين وضعتهم تحديات الحياة الواقعية على مفترقات طرق، يصعب فيها تبيان أي الطرق تؤدي إلي الحرية وأي الطرق تؤدي إلى الوطن.

 كانت قصائد زكريا قبل ذلك قد أسست لهذه اللغة الجديدة غير المحملة على المعاني الوطنية المباشرة، اللغة التي غامر بها هو وبعض زملائه دشنت ما يمكن أن يطلق عليه مرحلة جديدة في الخطاب، لكن زكريا واصل بعناد الحفر في كل ما طال وعيه ويديه. وحفر بعيداً في الصخر وكأنه منذور لهذه المهمة لا يثنيه عنها شيئ. قلب في دفاتره القديمة وفي الكتب، قلب في كتب السياسة والتاريخ والآثار والدين، قلب في الحجارة والنقوش والمعاني وكأنه يبحث عن ضالته في الرموز التي قد يتركها الإنسان على جدران كهف، وقد ترك الرجل بالمثل، وهو يقول:

رحل زكريا لكن الفن والشعر الذي تركه عمره أطول من عمره كإنسان يا رحمة الله