تدوين- تغطيات
قدم أستاذ التعليم العالي والباحث في علم اجتماع الثقافة والأنثروبولوجيا التونسي منير السعيداني محاضرة على منبر إلكتروني (مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي- تونس) بعنوان "مجتمع المقاومة وثقافتها"، بلور فيها منظورا انطلق من بعض الكتابات في علم الاجتماع التي تستخدم مفهوم المقاومة، وتوزع فيها التحليل على ثلاث مجالات، مع التركيز على المقاومة في المعنى القومي والوطني، وتطبيقه على الحالة الفلسطينية.
وبين المحاضر أن لمفهوم المقاومة في علم الاجتماع ثلاث استعمالات. الاستعمال الأول بحسب السعيداني "يوجد في بعض البحوث التي تطلق مفهوم المقاومة على كل فعل يصدر عن إنسان المجتمعات المعاصرة، بالتركيز على عالم "العمل"، باعتباره عالما فيه الكثير من الضغط والقهر"، بحيث تكون المقاومة في هذا السياق نشطة في معنى الإضرابات والانخراط في العمل النقابي، وكل الحركات الاحتجاجية الممكنة، أو مقاومة سلبية على صيغة ردود فعل نفسية.
السياق الثاني الذي يستخدم فيه مفهوم المقاومة، بحسب السعيداني هو سياق ثقافي، فيه تقابل ما بين ثقافة مهيمنة وثقافة مهيمن عليها، على صيغة ثقافة مركزية هي المهيمنة وثقافة فرعية هي المهيمن عليها. ودلل السعيداني على هذا الاستخدام ببعض الأمثلة كالثقافة البرجوازية مقابل ثقافة الطبقات المسودة، والثقافة الذكورية مقابل الثقافة النسوية، والثقافة المدينية مقابل الثقافة الريفية، وهنا عادة ما تكون الثقافات الفرعية، ثقافات احتجاجية ومتمردة، تقاوم النمط الثقافي السائد، أو التركيب الاجتماعي الثقافي السائد.
والسياق الثالث لاستخدام مفهوم المقاومة وفقا للمحاضر، يتناولها في المعنى القومي والوطني أي بوصفها حركة تحرر إما من الاحتلال المباشر، أو من استعمار غير مباشر، أو متصدية لأعمال تعتبر منافية للسيادة الوطنية؛ كاقتطاع أجزاء من الوطن، أو تقسيمه أو محاولات السيطرة عليه.
وفي تحليله ركز المحاضر على المعنى الثالث للمقاومة، بالتعامل معها على أساس أنها حدثٌ أولا، مستعيدا بعض الأحداث التي مثلت أفعال مقاومة خاضها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني لأرضه، الذي بدأ منذ ما قبل عام 1948، كالانتفاضات، ومعركة الكرامة، والمواجهات المسلحة، وغيرها.
وعليه فإن أول المعاني التي وصل إليها الباحث، بتطبيق مفهوم المقاومة على الحالة الفلسطينية؛ يعتبر أن المقاومة هي حدث أولا، وهي ثانيا حالة اجتماعية تاريخية، يتمثل وجهها الأبرز في المواجهة المسلحة بوصفها حربا تحتلّ موقعا مركزيا في هذه الحالة التي تقوم على المواجهة بين الإرادة التحررية التي اتخذت في الكثير من الأحيان مظاهر المقاومة العسكرية، والإرادة الاستعمارية، التي هي في الحالة الصهيونية إرادة احتلال إحلالي واستيطاني، يمارس التهجير والترانسفير، وتعويض أصحاب الأرض الأصليين بغزاة ومستوطنين.
ويرى السعيداني أن المواجهة العسكرية لها انعكاساتها على المجتمعات، خاصة إذا كانت ذات طبيعة وطنية وقومية، بحيث تمس بالتنظيم الاجتماعي وبثقافة المجتمع واقتصاده، وعلاقات مكوناته السياسية والاجتماعية ببعضها البعض.
المقاومة، ظاهرة اجتماعية مركبة وكلية، ومتعددة المستويات، تخلق سياقا اجتماعيا يعيد ترتيب العلاقات الاجتماعية، ما بين الطبقات
وبهذا المعنى، تصبح المقاومة، ظاهرة اجتماعية مركبة وكلية، ومتعددة المستويات، تخلق سياقا اجتماعيا يعيد ترتيب العلاقات الاجتماعية، ما بين الطبقات، التي منها ما هو مساند للمقاومة، ومنها غير المساند، أو حتى عدو لها، وفقا للمحاضر.
وبحسب الباحث، إعادة ترتيب العلاقات الاجتماعية هذا، يفرز قوى سياسية منخرطة في مشروع المقاومة وأخرى غير منخرطة فيه، ويفرز كذلك ثقافة مقاومة، وأخرى انهزامية أو غير مقاومة. ويطال هذا الترتيب أيضا الاقتصاد، الذي يكون إما مبنيا أو غير مبني على أساس تحقيق مصلحة المقاومة في أن تكون لها الموارد الاقتصادية الكافية لتظل مستمرة وقادرة على الانتصار أو، على الأقل، الصمود واستدامة فعلها العسكري.
ويكون للاقتصاد مقومات إسناد للمقاومة إذا كان متحررا من الأثر الخارجي المعادي ومن العلاقات الاستعمارية وإلى أقصى حد ممكن من العلاقات الاستغلالية التي لا يمكن أن ينتج عنها الانسجام الاجتماعي الضروري ما بين مكونات المجتمع، لتكوين جبهة اجتماعية وسياسية واسعة تسند تلك المقاومة.
سياسيا، يكون في فترات المقاومة، بحسب الباحث، نوع من السلوك الاستراتيجي تخوضه قوى اجتماعية متعددة من خلال الوسائل الحزبية، والجماهيرية أو التي تعتمدها منظمات المجتمع المدني من أجل تجسيد وحدة وطنية واسعة بما أمكن خلف هذه المقاومة، وخاصة في الأمثلة التي تقرب كثيرا من المثال الفلسطيني، لأنه فريد من نوعه، في ظل ما يكابده الشعب من أبشع أنواع الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الذي يعتمد، لا فقط التهجير واغتصاب الأرض، ولا فقط تعويض سكانها الأصليين بغزاة يأتون من كل أصقاع الدنيا بدعاوي أسطورية فيها الكثير من الخرافة التي لم يتمكنوا حتى الآن من إثباتها بدليل تاريخي واحد، بل أيضا ممارسات للتطهير العرقي والتقتيل الجماعي والمجازر والإبادة الإثنية والثقافية.
ثلاثة مستويات لمجتمع المقاومة
وبحسب المحاضر، عندما نتحدث عن مجتمع المقاومة في السياق الحالي، الذي تميز بالعدوان الصهيوني الهمجي على كامل فلسطين من أجل تثبيت المشروع الصهيوني والسيطرة الاستعمارية على هذه الأرض، يتجسد مجتمع المقاومة على ثلاث مستويات، محلي، وعربي أو عربي إسلامي، وعالمي.
يتعلق المستوى المحلي، وفقا للسعيداني بالداخل الفلسطيني المباشر، وتمكن رؤيته في البنية العسكرية الموزعة على جملة من الفصائل المسلحة، التي هي تنظيم اجتماعي للمقاومة، يخوض ممارسات محددة، ويخضع إلى بنية، وتقوده جملة من القيم، ويستند إلى معايير تقربه أكثر ما أمكن حسب استراتيجيته من تحقيق أهدافه.
وفي هذا المستوى، تمارس المقاومة، المواجهات المباشرة، والعمل على الاطلاع على أحوال العدو والتجسس عليه، وممارسات أخرى تتعلق ببناء بنية تحتية للمقاومة، كالأنفاق التي يختبئ فيها المقاتلون، وتجهيز موارد قتالية.
أما فيما يتعلق بالقيم التي تبرز في هذا المستوى، وفقا للسعيداني فتتمثل في الهمة العالية والصمود الذي نجده لدى المواطنين الفلسطينيين العاديين والكوادر ممثلين في الأطباء، والصحفيين، والمثقفين. وكذلك يتجسد النظام القيمي في معاملة فصائل المقاومة الفلسطينية للأسرى لديها.
مستوى تجسد مجتمع المقاومة الثاني، بحسب الباحث هو العربي أو العربي الإسلامي، الذي فيه وجه شعبي، ظهر منذ انطلاق عملية عبور 7 أكتوبر بالابتهاج لها، ثم مع بداية العدوان وتمثل في الحركة الواسعة لدى الجمهور عبر التظاهر في الشوارع وإبداء كثير من مظاهر المساندة للمقاومة من خلال المسيرات والاعتصامات والتجمهر ورفع الأعلام وارتداء الكوفية الفلسطينية.
وتنبع أهمية هذه الأفعال وفقا للمحاضر، في كونها أعادت نوعا من الحيوية إلى الشارع السياسي بعد أن ظن بعض المحللين أنه بعد الهبة الجماهرية في السنوات السابقة خلال الثورات العربية أصبح هناك نوع من الخمول في الشارع السياسي العربي رغم وجود موجة ثانية من الحركات الاحتجاجية والمطلبية والاجتماعية.
وأخيرا يتجسد مستوى مجتمع المقاومة الثالث حسب المحاضر، في المستوى الإنساني العالمي، الذي تمثل في الزخم الجماهيري الهائل في العواصم والمدن العالمية، التي أخرجت مساندة الثورة الفلسطينية وحركة التحرر الفلسطينية ومقاومتها من انحسارها في بعض الدوائر النخبوية، وخاصة منها الأكاديمية والمثقفة والسياسية الحزبية المرتبطة بمجموعات العمل الإنساني والأطروحات اليسارية، إلى الشارع بحيث تكون فلسطين مرة أخرى، لا فقط بالنسبة إلى الممارسة السياسية الجماهيرية الواسعة في البلاد العربية والعربية الإسلامية بل أيضا بالنسبة إلى الممارسة المقاومة الجماهيرية الواسعة العالمية موردا جديدا أضاف الكثير إلى الممارسات المقاومة في البلدان الرأسمالية المتقدمة بعد أن كانت استلهمت حركة الجماهير العربية المقاومة في هبات "احتلوا وول ستريت" وغيرها.
وخلص المحاضر إلى أنه عبر مستوياته الثلاثة هذه، شكل مجتمع المقاومة نقطة مركزية في تحول ثقافة المقاومة التي وجدت في حركة التحرير الوطني الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية الآن، فرصة لاستعادة زمام التفكير النقدي في كثير من المقولات، لا فقط في اتجاه كشف المقولات السياسية الاستعمارية المساندة للاحتلال الصهيوني لكامل الأرض الفلسطينية أو المتجاوزة للقانون الدولي، بل أيضا في اتجاه إحداث انعطافة كبرى على المستوى العالمي لأنها وضعت على محك الاختبار الحقيقي جملة الادّعاءات التي قامت عليها الثقافة الفكرية وحتى العلمية السائدة على امتداد العالم.
وختم الباحث محاضرته باستحضار عنوان كتاب فرانز فانون " بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" مشيرا إلى كل ذوي البشرات السوداء على امتداد العالم، نزعوا الأقنعة البيضاء التي كانت تشوه وجوههم ليرتدوا الكوفية الفلسطينية رمزا للمقاومة.
لمتابعة المحاضرة كاملة