الأحد  24 تشرين الثاني 2024

حول خطاب فوز باسم خندقجي بالبوكر 2024- ملاحظات أولية- فراس حج محمد

2024-04-29 04:09:57 AM
حول خطاب فوز باسم خندقجي بالبوكر 2024- ملاحظات أولية- فراس حج محمد

تدوين- آراء ومدونات 

لا شك في أن فوز الروائي باسم خندقجي بجائزة البوكر لعام 2024 له دلالاته التي تقرأ في سياق ما يجري في فلسطين، من مقتلة عظيمة يمارسها المحتل علينا كل يوم، فيستشهد العشرات منا يوميا، ويوميا تتكثف المعاناة أكثر وأكثر، حتى يصبح البقاء على قيد الحياة والاستمرار في العيش معجزة أو خيالا أو شبه أسطورة، في غزة تحديداً. ولذلك بادرتُ بإرسال رسالة عبر الواتسآب لأخيه يوسف مهنئا ومباركا ومستبشرا بقرب خروجه إلى فضاء الحرية: "مبارك لباسم الذي تجلى بدرا في سماء الحرية... لعلها بشرى التحرر قريبا". وأعلنت على صفحتي في الفيسبوك الخبر فكتبت: "باسم خندقجي حرّا في سماء بلا حدّ... مبارك، وإلى الأمام، السجن لن يقف حدا لأن تكون موجوداً".

إن منح الأسرى الكتاب جوائز- وهم يستحقونها فنيا- لهو أمر بالغ الاهتمام، وقد أحسنت لجنة جوائز فلسطين لهذا العام أن منحت أيضا الأسير الكاتب كميل أبو حنيش جائزة فلسطين للدراسات الاجتماعية والعلوم الإنسانية عن كتابه المهم "الكتابة والسجن"، للفائز وكتابه هنا أيضا دلالة مركبة.

عليّ أن أقرّر أن وجود المبدع الفلسطيني على خريطة الأسماء المتداولة إعلاميا لهو نوع من التحقق الوجودي وإعادة تثبيته في ظل هذه الهجمة الشرسة على الكيانية السياسية للفلسطيني التي تطال وجوده السياسي والثقافي ومن ثَم الإنساني، كواحد من البشر يستحق أن يعيش كبقية الناس، آمنا في سربه، معافى في بدنه، مالكا قوت يومه، مكونة لأسرة، وراعيا لأبنائه. وينجح الفلسطيني دائما في تثبيت هذا الحق وهو يمارس عمله الثقافي وبجدارة واستحقاق، بالأمس تفوز الكاتبة الفلسطينية إيزابيلا حماد بجائزة أسبن ووردز الأدبية، وقبلها عدنية شبلي، بل إن الوصول إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر أمر في غاية الأهمية لباسم وللكاتب أسامة العيسة.

مع وصول هذين الكاتبين للقائمة القصيرة ترددت كثيرا القضية الفلسطينية وأعيد طرح الأسئلة الجوهرية التي ينطلق منها الإبداع الفلسطيني، لا سيّما أن كلا الكاتبين (خندقجي والعيسة) كتبا في صلب القضية، ومن يقرأ الروايتين سيرى أسئلة الصراع على فلسطين حاضرة وبقوة، كل بطريقته وأدواته وتقنياته السردية المختلفة والمتنوعة.

هذا الحضور للقضية في الروايتين قابله تغييب كبير للقضية في الفيديوهات المعدة مسبقا عن الروايات الست، ومنها روايتا باسم وأسامة، وأشد ما غيبت القضية الفلسطينية في الحديث عن باسم، بلغة وخطاب لا يقول الحقيقة لا بوضوح ولا بغير وضوح. تشعر أن الفيديو يتحدث عن غائب ومغيب في دهاليز مجهولة لا أحد يعرف عنها شيئا أشبه بغيبة صاحب الرجعة الإمام الثاني عشر حسب المعتقد الشيعي.

تتابع هذا خلال إعلان الكاتب نبيل سليمان- بوصفه رئيس لجنة التحكيم لهذا العام- عن رواية باسم خندقجي قدمها بطريقة ملتوية. مستخدما كلمات ومصطلحات عامة؛ التحرر، العنصرية، الآخر، العالم، ولم تمس "قداسة" الاحتلال بأي غبار، حتى رنا إدريس ممثلة دار الآداب البيروتية، ناشرة الرواية، ارتجلت كلمة قصيرة بعد إعلان الفوز وذكرت على استحياء أن الروائي باسم ساندته أسرته طوال (21) عاما من السجن. شخصيا شعرت أنها تقولها وهي خائفة، وتشعر بشيء من الحرج، وكأن الأسير ليس مناضلا ومقاوما وابنا لحركة وطنية تناضل للدفاع من أجل حرية الوطن والإنسان، وإنما مجرد سجين، أين؟ ولماذا؟ لا يقول خطابها المرتجف شيئاً.

أظن لو أنّ الإمارات تريد لقضيتنا الخير، لعبّرت بوضوح عن أن باسما أسير فلسطيني يمارس الاحتلال أفظع صور التعذيب والتنكيل بحقه وبحق أكثر من عشرة آلاف فلسطيني أسرى. هؤلاء الأسرى الذين أصبح باسم من هذه اللحظة يمثلهم جميعا، ويمثل قضيتهم، ولا يمثل ننفسه فقط، ولا يمثل كتابته فقط، بل يمثل كل الإبداع الفلسطيني، وخاصة ذلك الإبداع الخارج من رحم المعتقلات المقفلة بوجه العالم، فأصبحوا مقطوعين عن العالم بقرار من كائن عنصري وجد نفسه بغفلة من الزمن يحمل رتبة وزير أمن داخلي، لينكل بالأسرى، ويعربد ويسلح المستوطنين، ويبارك عمليات القتل اليومي ضدنا.

لو كانت الإمارات فعلا- إن أحسنا النوايا- تريد خدمتنا بتطبيعها المهين مع الاحتلال، لجعلت من فوز باسم خندقجي فرصة للتشنيع على جرائم الاحتلال في غزة والقدس وعموم الأراضي الفلسطينية، لا سيّما وأنّ رواية أسامة العيسة تحمل اسم "سماء القدس السابعة". وكم كان مفيدا جدا لو حطمت الجائزة بعض قواعدها من أجل نصرة شعب مظلوم، فتربط بين الروايتين "قناع بلون السماء" و"سماء القدس السابعة" لما لهما من تشابه خارجي على الأقل في العنوان، فمفردة السماء حاضرة في كلتا الروايتين، وتمنح الجائزة مناصفة لهذين الكاتبين اللذين يمثلان قضية عادلة، سياسيا وإنسانيا، والروايتان باعتراف لجنة التحكيم تستحقان، ككل الروايات الأخرى المشاركة. فلو أخذ القرار بالإجماع على أن تعطى الجائزة لفلسطين ممثلة بالكاتبين لكان للأمر وقعه الذي سيكون أجمل وأعلى شأناً.

بالتأكيد لا تتحمل لجنة التحكيم هذا الإخراج السيئ للفوز بخطاب هزيل، حتى نقديا، بل إن من يقف خلف الجائزة هم من "فكر وقدر" "ثم فكر وقدر" ليكون الخطاب فيه هذا القدر من البلاهة وعدم الإقناع، بل وإثارة الاشمئزاز والقرف وهو يخرج بهذه الصورة البائسة. هذه الصورة تؤكد موقفي الرافض للمشاركة في كل جوائز دول التطبيع مع الاحتلال، فإنها والله لا تعطى الجوائز إلا بثمن وتدبير سياسي صار معروفا ومدركاً، فهل كان فوز رواية "قناع بلون السماء" ثمنا لدماء أهل فلسطين، وغزة على وجه الخصوص؟ كما بادرت زميلة وكتبت لي معلقة على هذا الفوز الذي لن يفسر إلا بهذه الكيفية؛ لأن الخطاب يقول هذا، وليس لأن باسما لا يستحق الفوز فنيا، بل إنه من أنضج الكتاب خارج السجن وداخله، وأقول ذلك وقد تابعته منذ عمله الأول وحتى آخر عمل. فمسألة الاستحقاق لا خلاف عليها إنما طريقة  الاحتفاء بهذا الحق، هنا تكمن المشكلة، بل قل المعضلة.

إن باسما ومعه أكثر من (130) كاتبا أسيرا في سجون الاحتلال الصهيوني، يهربون إبداعاتهم كما يهربون نطفهم لعلهم يظفرون ببعض حياة، في كتاب أو بولد قد يموتون في الأقبية المظلمة دون أن يتحسس أحدهم شعر رأسه، كما فعلوا بوليد دقة (أبو ميلاد)، وقصته ومآلاتها تحكي الحكاية كلها. فلا داعيَ لإعادة سردها

لا يوصف هذا الخطاب- خطاب الإعلان عن باسم خندقجي فائز بالبوكر- إلا أنه خطاب يرضي الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى يرضي بعض السذج بسلوك الإمارات الداعم لفلسطين، إنهم بهذا العمل لم يدعموا فلسطين بل غيبوها، وضبّبوا الزجاج، بل هشموه، لتتهشّم صورة الفلسطيني المناضل، إنه خطاب الجبان، في الوقت الذي يصنع الشباب الأمريكي والأوروبي خطابه الأقوى عبر تصديه لكل هذا الجبروت العالمي المتمثل بالكيانات الثلاث: الكيان الغاصب، وأمريكا، وبريطانيا، ومن دار بفلكها من أنظمة ودول، ففي الوقت الذي يصمت فيه النظام العربي الرسمي وأدواته الثقافية المنافقة، تصدح بالحرية ملايين الحناجر في العالم. هذا هو الخطاب الذي نحتاجه الآن، وليس الستين ألف دولار الذي ستتقاسمها الدار مع أهل باسم، وينفضّ السامر.

رجاء لا تطبّلوا للجوائز ولا تمدحوها فوالله إنها لرشوة على الوطن، وثمة أشياء غير هذه، لا يحسن بالمرء أن يقولها، لعل الحظ يسعفه ليعلن عنها في ما تبقى له من عمر، فالمسألة معقدة وليست بهذه البساطة، كما قد يظن بعض الحالمين الذين لا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم!