معز كراجة: "المعرفة التحررية دون أن تترجم إلى سلوك تحرري لا معنى له".
إبراهيم ربايعة: "دون ردم حالة الشرخ بين المثقف والثائر، لن يكون هناك إنتاج معرفي يبنى عليه".
وسام رفيدي: "المؤسسة الأكاديمية الفلسطينية لم تبنى على أساس إنتاج معرفة معادية للاستعمار".
تدوين- سوار عبد ربه
لم نكن يوما كفلسطينيين، أكثر حاجة من اليوم، للانكشاف على ذاتنا الجمعية، ومساءلتها، بل تتعدى الحاجة حد المكاشفة، لتصل إلى ضرورة الإقرار بفقدها، أو على الأقل تفككها، وتماهيها مع التجزئة الاستعمارية، أما ذلك الهروب المتكرر نحو اللا-إجابة في علاقة الفلسطيني بالفلسطيني الآخر، تجاوز كونه انعكاسا لحالة العجز التي بتنا نتعامل معها كحقيقة بديهية، إلى كونه تكريسا لواقع التجزئة، ليس فقط الجيوسياسية، بل الوطنية، والاجتماعية، والقيمية، والشعورية، ما يعني أن عطبا ما أصاب وعينا الجمعي الوطني وشوه ذاتنا الفلسطينية.
أما ذلك الهروب المتكرر نحو اللا-إجابة في علاقة الفلسطيني بالفلسطيني الآخر، تجاوز كونه انعكاسا لحالة العجز التي بتنا نتعامل معها كحقيقة بديهية، إلى كونه تكريسا لواقع التجزئة
وليس ثمة في سياقنا الفلسطيني الراهن ما هو أقدر من حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها الاستعمار الاستيطاني على قطاع غزة منذ ثمانية أشهر، على تمثيل حالة التشرذم التي آلت إليها هويتنا الجمعية الفلسطينية، حين تركنا غزة وحدها تقاوم، ووحدها تستمر في الانفجار، ووحدها تعيد لملمة التشرذم الهوياتي، لصالح هوية وطنية تحررية فلسطينية جامعة.
بحثا عن ذاتنا الفلسطينية
يحاول التقرير التالي الإجابة عن الأسئلة الملحة التي فرضت نفسها ضمن سياق الحرب، فردية كانت أم جماعية، أم فردية تنطوي على بعد جماعي، ليس انطلاقا من السؤال الأكثر شيوعا منذ عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول 2023، وهو سؤال وإن تعددت صياغاته إلا أنه في جوهره واحد، "ما العمل؟" أو "ماذا يمكننا أن نفعل؟"، أو الصيغة الأسبق لهذين السؤالين "كيف ننخرط في المواجهة؟" إنما انطلاقا من سؤال "لماذا نسأل أنفسنا ما الذي يمكننا فعله؟"، "وما الذي أوصل الفلسطيني للتفاعل مع الأحداث تبعا للحيز الجغرافي الذي شكله الاستعمار".
يتخذ التقرير من حالة العجز المزدوج التي رافقتنا كفلسطينيين غير غزيّين، على الالتحاق بركب معركة طوفان الأقصى أولا، ثم عجزنا على التحرك بشكل جمعي ضد حرب الإبادة التي مارستها، وما زالت، آلة الحرب الصهيونية على الغزيّين وحدهم دون سواهم، مرتَكَزا أساسيا للبحث في مفهوم الثقافة التحررية في السياق الفلسطيني الاستعماري، ذلك أن غيابها شبه التام، جعلنا مقتنعين ليس فقط بأننا عاجزون على استنهاض حالة وعي ثوري جمعي، إنما أيضا على ابتكار أساليب وطرق مختلفة للانخراط في نكبة غزة الجديدة.
إن حالة العجز التي وصل إليها الفلسطيني تجاه نفسه، وواقعه الاستعماري، تعود إلى أسباب كثيرة، سيقف هذا التقرير على المعرفية منها، من خلال تناول المؤسسة الأكاديمية الفلسطينية، بوصفها فضاءً منتجا للمعرفة، ومساهما في تحرير إنتاجها تحت الاستعمار.
ولهذا، التقت "تدوين" بمجموعة من الباحثين والأكاديميين الفلسطينيين؛ لمحاولة تفكيك مفهومي الإنتاج المعرفي، والمعرفي التحرري في منظار المؤسسة الأكاديمية الفلسطينية، ثم الإجابة على سؤال "هل مؤسساتنا الفلسطينية تنتج معرفة أولا ومعرفة تحررية ثانيا؟" وفق شروط ومواصفات، موضحة أدناه، كما سيجيب التقرير عما إذا كانت إنتاجات المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية قادرة على مواجهة المعرفة الاستعمارية، ولا يغفل التقرير عن الإتيان على ذكر نماذج من المعرفة التحررية، وصولا إلى حرب غزة وسؤال "ماذا علينا أن نفعل؟"، وعن دور المؤسسة الأكاديمية بكل مكوناتها بما فيها الكادر التعليمي في حرب الإبادة، ثم الإجابة أخيرا على سؤال "أهذه المعرفة التي نريد"؟
مفهوم الإنتاج المعرفي.. وتشكل حقل المعرفة التحررية فلسطينيا
يرى الباحث والأكاديمي إبراهيم ربايعة أنه "لا يوجد مفهمة جامعة متفق عليها، لإنتاج المعرفة التحررية في السياق الاستعماري الفلسطيني؛ بسبب الاختلاف على المفهوم والأدوار في هذا الإطار، كما لا توجد مدرسة فلسطينية جامعة لإنتاج المعرفة".
ويضيف: "ارتأى بعض الأكاديميين أن ثمة ضرورة للتحول إلى مدرسة ومركز للإنتاج المعرفي، لكن هذه المبادرات لم تصل لمرحلة التنظيم الجمعي على مستوى المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية وحتى على مستوى المؤسسة الأكاديمية الواحدة".
أما عن تشكل حقل المعرفة التحررية وبداية طرحه في الأكاديميا الفلسطينية، يقول ربايعة: "المعرفة التحررية كحقل بدأت وتبلورت وتكونت من أسفل، وليس من أعلى، أي أنها بدأت من الشارع، عبر الممارسة اليومية، وفي السلوك، وهذا التبلور نضج في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وولد الانتفاضة الأولى التي كانت تمتلك بنية معرفية، سمحت لها أن تتقد شعلتها وأن تمتد لسنوات وأن تشكل ظاهرة ملفتة على مستوى الفعل المقاوم الفلسطيني".
ووفقا للباحث؛ لاحقا بدأت تظهر تأطيرات اجتماعية لهذه المعرفة، وتحولت لحالة من السلوك المقاوم المستند إلى وعي ثوري حقيقي".
كيف تُنتج المعرفة في سياق استعماري؟ شروط وتحديات
أما الباحث والأكاديمي الفلسطيني معز كراجة، فيستند في تعريفه لإنتاج المعرفة، على بضع شروط، إن تحققت فنحن أمام إنتاج معرفي، وإن غابت فليس ثمة عملية إنتاج.
يرى كراجة أن لإنتاج المعرفة شروطا ومواصفات؛ أولها أن تكون معرفة ذاتية نحن أصحابها، سيما وإن كنا نتحدث عن معرفة تحررية، لا أن نكون استهلاكيين لها أو منفتحين على المعارف الأخرى فقط؛ دون أن يعني ذلك إحداث قطيعة مع المعرفة العالمية؛ ذلك أن المعرفة عندما تنتج، تصبح ملكا للإنسان بصرف النظر عن منشأها.
أما الشرط الثاني، وفقا لكراجة، أن تكون المعرفة بنت سياق المجتمع، تعبر عنه وتنتمي إلى سياقنا الاستعماري الفلسطيني، كما يجب أن تحقق الانسجام بين النظرية والتجربة، أي ألا تُنتج داخل مكاتب مغلقة، ولا من مثقفين، أو أكاديميين، أو كتاب، منفصلين عن الواقع أو بعيدين عنه، أو غير منخرطين فيه.
المعرفة لا تُنتج داخل مكاتب مغلقة
رابعا، يرى الباحث، أن على المعرفة أن تكون إبداعية، ليس فقط أن تحمل توصيفا، أو بيانات ومعلومات، أو تتخذ قالب السرد التاريخي، فالمعرفة هي حالة نقدية، بحاجة إلى قراءة معمقة وتفكيك لواقع مجتمعنا وإدراك لسياقات متشابكة.
وأخيرا، على المعرفة أن تكون تراكمية، وفقا لكراجة، "تتيح للباحث أو الأكاديمي أو المؤسسة، البناء على إنتاجات سابقة والمراكمة عليها، نقدها، والاختلاف أو الاتفاق معها، ثم يشق كل مستخدم لها طريقه الخاص"، ويعزو الباحث غياب التراكمية لعدم وجود مؤسسات تكرس وقتا وجهدا ومصادر لإنتاج المعرفة.
"ما يفسده الواقع يشفيه التخيّل" - باسم خندقجي| قناع بلون السماء
وتهدف المعرفة من وجهة نظر الباحث إلى تغيير الواقع، عبر نقده والتشكيك فيه، بغية تحسينه، ذلك عبر منح الإنسان خيالا أوسع لواقع أفضل، حتى نصل إلى معرفة تحررية قادرة على إعطائنا مخيالا جماعيا، يرفض الانسجام مع الواقع المعاش والاعتياد عليه، والتعامل معه على أنه الحقيقة البديهية.
وبحسب كراجة؛ "الخيال يخلق إنسانا متوترا في علاقته مع واقعه، يمكّنه من النظر إليه بطريقة مغايرة، تقود نحو الأفضل".
المؤسسة الأكاديمية بوصفها فضاءً معرفيًّا
تعتبر المؤسسة الأكاديمية فضاءً مركزيا للتعلم والمعرفة، يجب ألا تكون معزولة عن السياق الذي نشأت فيه، تبعا للظروف السياسية والاجتماعية القائمة، كما يفترض أن تكون مواكبة للتغيرات المقرونة بهذين المستويين، وخلق أدوات قادرة على المواجهة والاشتباك مع محيطها، سيما وإن كانت هذه المؤسسة قائمة ضمن سياق استعماري، كحالتنا الفلسطينية، فهنا تصبح عملية المعرفة سواء كانت نقلا أم إنتاجا عملية مركبة تتطلب منها أن تكون فاعلة وأن تعيد تموقعها بشكل مستمر، وفقا للمتغيرات من حولها.
ولهذا، يناقش التقرير ما إذا كانت المؤسسة الأكاديمية الفلسطينية، تنتج معرفة تراعي الحالة الاستعمارية، وتواجه مشروعها الثقافي المتمثل بالمعرفة الاستعمارية.
المؤسسة الأكاديمية الفلسطينية.. انفصال عن الواقع وعجز
يخلص كراجة وفقا للشروط أعلاه، إلى أن المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية غير قادرة على إنتاج المعرفة؛ لأنها لا تكرس الطاقات اللازمة لذلك؛ بسبب غياب رؤية عامة لإنتاج هذه المعرفة، كما أنها مفصولة عن الواقع الفلسطيني وليست جزءًا منه، كما أن الأبحاث الصادرة عنها والتي تعد أحد أهم أدوات إنتاج المعرفة، حالتها سيئة على مستوى الأكاديميا؛ لأن الأبحاث اليوم أصبحت مجرد جهد يقوم به الأكاديمي للحصول على ترقية، ولا تأخذ بُعد إنتاج المعرفة.
"غير أن الدور المفترض للمؤسسة الأكاديمية هو أن تقتحم المجتمع، وتقود الرأي العام فيه، وأن تغيره للأفضل، لكن ما يحدث هو أن المجتمع بكل ما فيه من مشاكل وانحرافات سياسية وثقافية واقتصادية هو من اقتحم المؤسسة الأكاديمية"، وفقا للباحث.
أما الأكاديمي والباحث وسام رفيدي، ينطلق في مداخلته من سؤالين أساسيين، الأول حول بنائنا كمجتمع مقاوم وصامد يخدم مقاومة الاستعمار أم كمجتمع استهلاكي تابع للمستعمر، والثاني حول المعرفة داخل المؤسسة الأكاديمية هل هي من تنتجها أم فقط تعيد إصدار المعرفة الوافدة إلينا.
واستنادا إلى هذين المدخلين، يرى رفيدي أننا لم نُبنى كمجتمع مقاوم على كل الأصعدة، فقط أعدنا إنتاج المجتمعات الاستهلاكية التابعة للمركز الإمبريالي، كما أن المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية لم تبنى على أساس إنتاج معرفة معادية للاستعمار، كونها ليست جزءًا من مجتمع مقاوم.
لم نُبنى كمجتمع مقاوم على كل الأصعدة، فقط أعدنا إنتاج المجتمعات الاستهلاكية التابعة للمركز الإمبريالي
من جانبه، يعتبر الأكاديمي إبراهيم ربايعة أن "المؤسسة الأكاديمية الفلسطينية بشكلها الحالي تعرضت لـ "اللبرلة" المكثفة سواء على مستوى البنى، أو الهياكل، أو الوظائف، أو الكادر البشري، أو طبيعة المادة المعرفية المبنية عليها، وراحت هذه المؤسسة تعمل ضمن معايير، باحثة عن التصنيف الدولي، وبالتالي دخلت في القولبة الغربية ذات المرتكزات الاستعمارية لمفهوم التعليم وفكرته وأدواته، أي أصبحت تتعامل مع التعليم كما وليس كيفا".
"كما أن مفهومي التسليع وملاحقة السوق، اقترنا بالمؤسسة الأكاديمية، ما جعلها متكيفة مع الحالة العامة، بالإضافة إلى محدودية الموارد لدى المؤسسة التعليمية، وغياب الحاضنة التي تقوم على إسنادها، وكذلك حاجتها الدائمة للمال، التي جعلتها تعتمد برامج مُلاحقة للسوق، لاستقطاب طلاب أكثر وبالتالي جيبوهم، مما أسفر عن غياب مفهوم التعليم الشعبي الجامع"، وفقا لربايعة.
المؤسسة الأكاديمية الفلسطينية أصبحت تتعامل مع التعليم كما وليس كيفا
وبحسب الباحث الفلسطيني، فإن غياب هذا المفهوم، يكشف عن أن البنية والفكر الناظم للمؤسسة التعليمية الفلسطينية، ليس الفكر الموائم والمتكيف والدافع لفكر المعرفة التحررية.
أما الباحث وسام رفيدي، يرى أن المؤسسة الأكاديمية إذا لم تصنف نفسها أنها تنتهج سياسة إنتاج المعرفة التحررية، سينعكس ذلك على المساقات وطريقة التعامل مع الطلبة، وعلى العلاقة ما بينها وبين طلبتها، وكذلك على علاقة الأكاديمي بطلبته، إذ لن يخلق علاقة ديمقراطية تفجر طاقات الطالب للمعرفة والنقد وستبقى علاقة ذات طابع فوقي تعيد إنتاج نظام المدرسة.
كما أن عدم تصنيف الجامعة لنفسها على أنها تنتج معرفة معادية للاستعمار تضخ قيم ومفاهيم النضال ضده، سينعكس على العلاقة مع الأكاديميين والحركة الطلابية والعمل النقابي والنشاط التطوعي وغيرها.
وإلى جانب مسألة تصنيف المؤسسة لنفسها، يرى رفيدي أن جامعاتنا تفتقر لوجود مراكز أبحاث، ولا تشجع العملية البحثية، كما أنها لا تقدم الإسناد المادي أو من حيث توزيع الساعات وتخفيف الأعباء الإدارية والتعليم للأكاديميين، وبالتالي تفريغ جزء من وقتهم للإنتاج المعرفي.
ويتفق الباحثون الثلاثة على غياب إنتاج معرفي بالمعنى الجمعي الوطني الفلسطيني تمثله مؤسسات أكاديمية أو بحثية، فما هو موجود، ليس إلا إنتاج مقتصر على مبادرات فردية، محدودة وقصيرة.
أثر الإنتاج المعرفي: حرب غزة كوحدة قياس
وفي محاولة للوقوف على دور، وأثر ما أنتج حتى الآن من معرفة ضمن المؤسسات الأكاديمية التي تعرّف نفسها على أنها منتجة للمعرفة، على حرب غزة، سواء على مستوى قدرة تلك الإنتاجات على بناء جسر مع حركات تحرر عالمية، بما يخدم السردية الفلسطينية وحضورها وزاوية تناولها في البحوث العالمية من جهة، ومن جهة أخرى على مستوى مساهمة هذه الإنتاجات في تعميق الوعي الثوري لدى المنتجين والمتلقين، بما يخلق أساليب نضالية قادرة على مواجهة الاستعمار الاستيطاني والموازنة بين الفكر النظري والممارسة العملية المتمثلة بسلوك تحرري، بعد مضي ثمانية أشهر على حرب الإبادة في القطاع.
يقول الباحث والأكاديمي معز كراجة، إنه "لا يوجد أثر، الأشهر الثمانية التي انقضت على غزة، أثبتت أننا مجتمع نعاني من نقاط ضعف لا حصر لها، وأننا لا نملك القدرة على المواجهة بمفهومها الشامل، كما أن الحرب على غزة كشفت بشكل أو بآخر عن الواقع الاستعماري الذي نعيشه، وعن عيشنا في واقع موازٍ ووهمي.
وعليه؛ يرى كراجة أن الفرد والمؤسسة سواء كانت أكاديمية، أو أهلية، أو نقابية، أو ثقافية، أو بحثية، وكذلك الاتحادات والحركات الطلابية، لم يستطيعوا ابتكار أي وسيلة أو أسلوب للانخراط في المواجهة، ذلك لأن خيالنا في المواجهة معدوم.
بين النظرية والممارسة
كثر الحديث في السنوات العشر الأخيرة عن المعرفة التحررية، وضرورة إنتاجها، وعقدت لأجل هذا ندوات ومؤتمرات ونشاطات لا تعد ولا تحصى، بينما كشفت لنا تجربة غزة أننا نتحدث عن معرفة تحررية لكننا لا نعيشها.
وحول هذا يقول الباحث معز كراجة: "المعرفة التحررية التي نتحدث عنها تظل محط نقاش واستهلاك نظري في الندوات وفضاءات الأكاديميا، ما يشير إلى خلل إما في مضمونها أو في طريقة إنتاجها أو في طريقة إيصالها إلى المجتمع، حيث أنها لم تنتج سلوكا تحرريا؛ وبالتالي لا أثر لمعرفة تحررية في سياقنا الفلسطيني الاستعماري، ذلك أن المعرفة التحررية أصبحت هدفا بحد ذاتها، فالقراءة والإنتاج والانخراط في النشاط الثقافي المتعلق بالمعرفة التحررية، دون أن تترجم إلى سلوك تحرري لا معنى له".
المعرفة التحررية التي نتحدث عنها تظل محط نقاش واستهلاك نظري في الندوات وفضاءات الأكاديميا
كما أن أحد أسباب عجزها عن خلق سلوك تحرري، أن هذه المعرفة تتناقل في أطر نخبوية ضيقة بين من أنتجوها ودوائرهم المحيطة الضيقة، إضافة إلى كون جزء كبير من الإنتاجات نخبويا على مستوى اللغة، ما يعني أنها لا تمد جسرا بينها وبين فضاءات المجتمع المختلفة.
من جانبه، يرى الباحث إبراهيم ربايعة أن الإنتاج المعرفي الأكاديمي عانى من مشكلتين رئيسيتين، الأولى أنه متناثر ويعتمد على المبادرة الفردية بشكل أساسي وهذا لم يسمح بأن تكون المؤسسة منتجة معرفيا يلتف حولها الأكاديميون المؤمنون بذلك، والثانية أن هذا الإنتاج كان مبتورا لأنه إنتاج من أعلى، أي أن الحقل الأكاديمي معزول خلال السنوات السابقة عن سياقه، ولم يترافق مع فعل من أسفل، وهذا ما يفسر عدم قدرته على عكس نفسه كوعي ثوري، إذ لا توجد لغة واحدة بين الثائر والأكاديميا.
اتفاق أوسلو: بين وهم الدولة وفقدان أدوات المواجهة
إن أي حالة فلسطينية تستجوب الدراسة والتقصي، لا بد من النظر إليها بعين "أوسلو"، الاتفاق الذي راكم أزمات على كافة الأصعدة، وغير شكل المجتمع الفلسطيني، باعتباره حدثا مفصليا.
يرى الأكاديمي معز كراجة، أنه كي نقيّم وجود إنتاج معرفة في المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية، يجب الوقوف عند اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، التي ترافق إنشاؤها مع مشروع الدولة، الذي دفع المؤسسات الأكاديمية إلى اعتماد تخصصات تلائم المرحلة السياسية الجديدة؛ لذا أصبحت الجامعة إحدى الماكينات التي عملت بسرعة وكثافة للانخراط في المرحلة السياسية الجديدة المتمثلة في مرحلة السلام والدولة، دون أن تتمسك بضرورة إنتاج المعرفة، رغم انحرافات النظام السياسي.
وعليه؛ يخلص الباحث إلى أننا مجتمع لا نعيش سياقنا الاستعماري الحقيقي، بل سياقا موازيا صنع قبل ثلاثين سنة، وهو سياق وهم الدولة الذي انخرطنا فيه وأفقدنا كل أدوات المواجهة وحتى خيالنا في ابتكار أدوات جديدة.
ذات منفصلة عن سياقها
إن حالة العجز التي اقترنت بالفلسطيني في كثير من ميادين المواجهة، تقودنا إلى أننا لسنا عاجزين تجاه غزة فقط، أي أن تماهينا مع التجزئة الاستعمارية ليس وحده ما أحدث هذه القطيعة بين الجسد الفلسطيني الواحد.
وفي هذا الجانب، يوضح كراجة أنه قبل عجزنا تجاه غزة، كنا عاجزين تجاه الأسرى، وهدم البيوت، والمستوطنات، وغيرها، وهذا يعني عجزا في الذات الوطنية الفلسطينية بالكامل، أحد أسبابه أن هذه الذات اعتادت أن تعيش في سياق غير سياقها الحقيقي.
الانتفاضة الأولى: خيال خصب وسلوك تحرري
يعود بنا الباحث إلى أيام الانتفاضة الأولى (1987-1993)، حين مارس المواطنون كافة سلوكا تحرريا، ليس عبر الاشتباك المباشر مع الاحتلال فقط، إنما كانت أنماط الحياة اليومية، والزراعية والتعليمية، والاقتصادية والاجتماعية تعاش بطريقة تحررية.
ويوضح: "عندما كان جيش الاحتلال يفرض إغلاقا على الجامعات والمدارس، ظهر مفهوم التعليم الشعبي التحرري، إذ عمد الأكاديميون على تدريس طلبتهم في منازلهم، أو في أي مساحة أخرى ممكنة، والطلاب الجامعيون بدورهم، كانوا يدرسون طلبة المدارس في القرى والمخيمات"، مشيرا إلى أن خيالنا كفلسطينيين كان خصبا ومنفتحا، أي كنا قادرين على ابتكار أساليب كثيرة لعيش سلوك تحرري ومواجهة بمعناها الشامل.
محاولة استعادة الهوية والوعي
يرى كراجة أن الحلول لا تسقط على المجتمع، إنما قد يكون أحد مفاتيح الحل أن يعيد كل فلسطيني من موقعه انخراطه في التجربة، أي أن يصبح عمله هو التحرر من الإنتاج النظري.
ويشير الباحث إلى أن الحلول لا تأتي من حالة تفكر إنما من خلال محاولة خوض التجربة، وخوضها يكون بالفعل، أيّ فعل، وعلينا أن نخطئ ونتعلم ونعيد المحاولة، وهذا ما يخلق إنتاجا لحلول.
الحلول لا تأتي من حالة تفكر إنما من خلال محاولة خوض التجربة، وخوضها يكون بالفعل
وبالحديث عن محاولة استعادة الوعي الثوري، عرج كراجة على بدايات تشكل الحركة الوطنية الفلسطينية نهاية الخمسينات وبداية الستينيات، إذ رافق هذا التشكل إعادة لبناء الهوية الوطنية الفلسطينية، عبر الحركة الوطنية نفسها والنشاط المعرفي والثقافي والأدبي الذي بلغ ذروته في تلك المرحلة، وهو ما أعاد صياغة وبناء وتشكيل الهوية الفلسطينية في الوعي الفلسطيني وفي الممارسة الفلسطينية.
ويوضح: "الفعل الوطني التحرري المتمثل بالحركة الوطنية التحررية والإنتاج المعرفي الثقافي الأدبي التحرري لم ينفصلا عن بعضهما، حيث أن الإنتاج الثقافي أنتج في خضم التجربة الوطنية الفلسطينية وليس بمعزل عنها، في حين أن المثقف اليوم مفصول تماما عن التجربة الوطنية والاجتماعية الفلسطينية ومحصور في لغته وفضائه الوظيفي النخبوي".
وبحسب كراجة: "إشكالية أزمتنا تجاه ما يحدث في غزة اليوم، ليست سياسية وطنية فحسب، إنما اجتماعية هوياتية، وهذا من مظاهر تشرذم وضعف الهوية الفلسطينية التي صيغت بالنضال والإنتاج المعرفي التحرري بشكل متوازٍ.
إشكالية أزمتنا تجاه ما يحدث في غزة اليوم، ليست سياسية وطنية فحسب، إنما اجتماعية هوياتية
من جانبه، يؤكد الأكاديمي إبراهيم ربايعة أن الثورة الفلسطينية حملت مشروعا ثقافيا، وشهدت تلك المرحلة على تناغم وانسجام بين المثقف المنظر والمنتج معرفيا الذي عمل على توطين المعرفة الثورية العالمية و"فلسطتنها"، وبين الثائر المقاتل المشتبك.
ويضيف: "ما لم يردم هذا الشرخ بين الثقافي والثوري، لن تكون هناك حالة إنتاج معرفي تحرري يعتد به ويبنى عليه".
واتخذ ربايعة من الحالة بعد السابع من تشرين الأول 2023، نموذجا للدلالة على الردم ما بين المثقف والمقاوم، إذ يرى أن فلسطين لم تكن هي مركز إنتاج أو نقل السردية الفلسطينية، كما لم تكن الجامعة الفلسطينية هي بؤرة المثاقفة والاشتباك المعرفي، وكذلك لم تحدث استجابة مدافعة عن الحالة الفلسطينية بل على العكس العديد من المؤسسات الأكاديمية والمثقفين نأوا بأنفسهم ودورهم كان دون المتوقع.
نماذج من المعرفة التحررية
في هذا الجانب، أشار الباحث معز كراجة إلى ثلاثة نماذج من المعرفة التحررية، من أولئك الذين أنتجوا معرفة نظرية ملتحمة بالتجربة، كالشهيد المفكر وليد دقة (1961-2024)، الذي استطاع أن ينتج معرفة تحررية من داخل السجن، ملتحمة بتجربته.
وأشار الباحث أيضا إلى تجربة المفكر الفرنسي فرانز فانون (1925-1961) في كتاب معذبو الأرض، الذي يتحدث فيه عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ليس من باريس إنما أنتج معرفة على صعيد تجربته كإنسان ثائر موجود في خضم التجربة الثورية الجزائرية (1954-1962)، وهو ما جعل من معرفته ملهمة لكثير من الشعوب المستعمرة تاريخيا وفي حالتنا الفلسطينية.
وكذلك تحدث كراجة عن تجربة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003) في كتاب الاستشراق، الذي يرى أنه "حررنا وحرر كثيرين حول العالم من نظرة الغرب إلى الشرق، كما حرر الأجيال الجديدة في الغرب من نظرتها الكلاسيكية الوهمية تجاه الشرق، إذ كان أكاديميا وصاحب نظرية، وفي الوقت نفسه ابن تجربة، أي أنه لم يكن منسلخا عن سياقه الفلسطيني، ولا يكن بعيدا عن التجربة النضالية الفلسطينية ولا عن الشرق بالمعنى الاجتماعي والثقافي".