تدوين- سوار عبد ربه
لم تكن عملية طوفان الأقصى التي هي في جوهرها محاولة المقاومة الفلسطينية محو الاستعمار؛ حدثا اقتصرت تداعياته على ثنائية المستعمَر والمستعمِر، إنما امتدت إلى ما هو أبعد من حدود الأرض المستعمَرة، وشغلت ليس دول الجوار فحسب، إنما امتدت إلى ما هو أبعد من الحدود الإقليمية، فمنذ تسعة أشهر والقضية الفلسطينية هي المركز والمحور الذي يدور في فلكه كل ما يجري في الأروقة السياسية والميدانية.
يقول فرانز فانون في كتاب "معذبو الأرض": "محو الاستعمار لا يمكن أن يعبر عبورا دون أن يلاحظه أحد، لأنه يتناول الوجود، لأنه يغير الوجود تغييرا أساسيا، لأن أناسا مشاهدين يسحقهم أنهم ليس لهم ماهية، يأتي محو الاستعمار هذا فيحيلهم أناسا فعالين ممتازين يدخلون تيار التاريخ دخولا رائعا".
فانون: محو الاستعمار لا يمكن أن يعبر عبورا دون أن يلاحظه أحد
لقد أدخل طوفان الأقصى الفلسطينيين تيار التاريخ، بل طوى صفحة من التاريخ المعاصر، وفتح أخرى، وقاد العالم الذي سحق العدل على مدار العقود الثمانية الأخيرة إلى تغيرات أحدثت انقساما داخل النظام السياسي في البلد الواحد، وصار بمثابة "النقطة التي لا عودة بعدها"، كما عبر عنها فرانز فانون في كتاب معذبو الأرض، رابطا إياها بالكفاح المسلح. إذ يقول: "إن في الكفاح المسلح شيئا يصح أن نسميه "النقطة التي لا عودة بعدها". ونستطيع أن نقول إن الأمر الذي يحقق الوصول إلى هذه النقطة إنما هو أعمال القمع الضخمة التي تشمل جميع قطاعات الشعب المستمر".
وارتأت المقاومة الفلسطينية أن بلوغنا هذه النقطة تطلب الإعلان عن طوفان الأقصى، وفقا لما ورد في كلمة قائد أركان المقاومة محمد الضيف عند إعلانه عن بدء العملية بقوله: "في كل يوم تقتحم قوات الاحتلال مدننا وقرانا وبلداتنا على امتداد الضفة الغربية وتعيث فيها فسادا وتداهم بيوت الآمنين، تقتل وتصيب وتهدم وتعقل، حيث ارتقى المئات من الشهداء والجرحى في هذا العام؛ جراء هذه الجرائم وفي الوقت نفسه تصادر الآلاف من الدونمات وتقتلع أهلنا من بيوتهم وأراضيهم ومضاربهم، وتبني مكانهم المستوطنات، وتحمي قطعان المستوطنين، وهم يعربدون ويحرقون ويسرقون، في الوقت الذي تستمر فيه جريمة الاحتلال فرض الحصار المجرم على قطاعنا الحبيب".
إن طوفان الأقصى مثل عملية محاسبة لعالم ظل لسنوات أصم وأبكم تجاه الفلسطينيين، وكان بمثابة إعادة فحص لمفاهيم ورؤى تسربت إلى التاريخ دون رقيب، إذ أعاد تعريف "معاداة السامية" حجة الكيان الصهيوني ووسيلة دفاعه الأولى أمام كل محاولة تطالب بإنهائه، ودفع عديد السياسيين والأكاديميين والإعلاميين وغيرهم، نحو الاستقالة من مناصبهم لأن من يعملون تحت لوائهم يكيلون بمكيالين.
كما انتزعت فلسطين اعتراف دول في الاتحاد الأوروبي وخارجه، هذا المنقسم في رأيه حيال القضية الفلسطينية والمنحاز في أغلبيته لصالح الكيان الصهيوني، وأعاد طوفان الأقصى صراع اليمين واليسار التاريخي إلى الساحة السياسية مجددا، إذ أبدى الأول موقفا ثابتا متمثلا بالدعم الكامل للاحتلال، في حين تخبطت أطياف اليسار في تحديد موقفها.
حظي الكيان الصهيوني منذ قيامه، بدعم منقطع النظير على صعيد الأحزاب اليسارية الغربية، التي دافعت باستماتة عن "الدولة اليهودية" التي تمثل في نظرهم أقلية مضطهدة تسعى إلى تقرير مصيرها، الأمر الذي نجحت الأحزاب الصهيونية المنتشرة حول العالم في ترسيخه، إلى حين حرب عام 1967، التي مثلت منعطفا أوليا في كيفية تعاطي اليسار العالمي مع الكيان، ذلك أن محاولاته على مدار الأعوام التي سبقت ذلك العام سقطت في حينها، وظلت المواقف اليسارية تتأرجح عاما بعد عام حتى وصلنا إلى الطوفان، المنعطف الثاني في مواقف اليسار العالمي من القضية الفلسطينية.
ولمحاولة فهم الموقف اليساري العالمي اليوم من القضية الفلسطينية، التقت "تدوين" بالصحفي اليساري التونسي غسان بن خليفة، عضو الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأجرت معه الحوار التالي:
تدوين: منذ بدايات القضية الفلسطينية، كان واضحا التخبط لدى أطياف اليسار العالمي في تحديد موقفه تجاه القضية، إذ على مستوى أوروبا حظي الكيان الصهيوني بدعم يساري من منظور أنها قضية "أقلية مضطهدة" تسعى إلى تقرير مصيرها، انطلاقا من هذا كيف تشكلت معالم القضية الفلسطينية في الوسط اليساري العالمي؟
بن خليفة: اليسار مدارس وتيارات، وبينها اختلافات وتباينات عميقة، فاليسار الغربي الأورومركزي نظر إلى العالم نظرة قومية أوروبية أو غربية، وبالنسبة له كانت دائما وما زالت زاوية النظر الرئيسية وأحيانا الوحيدة هي منظور الصراع الطبقي، أي أن كل من يرفع لواء الاشتراكية والصراع الطبقي هو حليف، والصهيونية عندما نشأت كان الصوت اليساري مرتفعا، فحاول استقطاب المعسكر الشرقي، وهو ما يفسر إلى حد ما، اعتراف الاتحاد السوفييتي بزعامة ستالين بالكيان الصهيوني منذ البداية.
نجح الكيان الصهيوني في تقديم نفسه على أنه حليف لهم، وأنه يريد إرساء مجتمع اشتراكي في فلسطين المحتلة، وهذا ما جعل اليسار الغربي يقف إلى جانب اليسار الصهيوني، ناهيك عن وجود دعوات في بعض الأوساط اليسارية العربية التي طالبت بالتحالف بين الطبقة العاملة الصهيونية والطبقة العاملة الفلسطينية، من أجل بناء مجتمع تسوده المساواة وتقوده الطبقة العاملة من كلا الجانبين.
دائما كان هناك تقديم لفكرة المعطى الطبقي على المعطى القومي، وهو ما أحدث هذا التخبط في المواقف بين أطياف اليسار، وانحياز اليسار الغربي على وجه الخصوص للكيان الصهيوني.
تدوين: ماذا عن اليسار في الجنوب؟
بن خليفة: اليسار في الجنوب كانت مواقفه ممتازة تجاه القضية الفلسطينية منذ الخمسينيات والستينيات، كالحزبين الشيوعيين الصيني والفيتنامي، واليسار الهندي أو في أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، إذ نظروا إلى القضية الفلسطينية على أنها قضية تحرر وطني وهذا بحكم تقارب الظروف بين واقع اليسار في بلدان الجنوب والواقع الفلسطيني، إذا كانت زاوية النظر هي معاداة الإمبريالية والتحرر الوطني.
تدوين: أي مصلحة حققها اليسار الغربي من انحيازه إلى الصهيونية على حساب المرتكزات التحررية التي يستند إليها الفكر اليساري؟
بن خليفة: إضافة إلى ما سبق، كانت هناك مصالح لبعض اليساريين خاصة غير الشيوعيين، كالذين ينتمون إلى اليسار الإصلاحي الذي هو جزء من المنظومة الرأسمالية في المراكز الاستعمارية الغربية، فهذا اليسار لا يهتم كثيرا بحال الطبقات الشعبية والطبقات العاملة، خاصة في بلدان الجنوب، إنما يحاول الاستفادة من علاقات الهيمنة مع الجنوب.
تدوين: شكلت حرب عام 1967 منعطفا مهما في تعاطي اليسار مع القضية الفلسطينية، إذ أحدثت إرباكا في الموقف اليساري، وجرى نوع من إعادة التقييم لكيفية التعاطي مع القضية، هل تغيرت زاوية النظر كما أسميتها، وكيف انعكس هذا على السردية الفلسطينية غربا؟
بن خليفة: صحيح أنه بعد عام 1967 بدأت الصورة تتغير، لأن بعض هذا اليسار رأى أن هذه الدولة الصهيونية على عكس ما كانوا يعتقدون، لم توجد من أجل إرساء مجتمع اشتراكي ومساواة بين "العرب واليهود"، بل رأوا فيها آلة عسكرية، واحتلالا، وأن الصورة التي عكسوها في البداية لم تكن صحيحة، وعليه تغيرت مواقف جزء من اليسار الأوروبي والغربي تجاه الكيان الصهيوني، لكن بقيت دائما في حدود ما يسمى بالقانون الدولي، ومع حل الدولتين وضرورة انسحاب الكيان إلى حدود ما قبل 5 حزيران 1967.
في المقابل اليسار العربي والجنوبي في أغلبه كان دائما ينادي بفكرة الدولة الديمقراطية العلمانية، ولم يكن أبدا مع حل الدولتين وحدود ال 67.
تدوين: منذ عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، تجلت الانقسامات في الوسط اليساري الغربي، ففي فرنسا على سبيل المثال الحرب علقت التحالف اليساري، ومنهم من أخذ موقفا مساندا مقابل آخرين اتخذوا موقفا حياديا أو مناصرا للاحتلال. كيف تفسر هذه الانقسامات رغم الأدلة الواضحة على أن ما يجري في غزة اليوم هو إبادة جماعية، ليس على نطاق الإعلام فقط إنما قانونيا أيضا؟
بن خليفة: هذه الانقسامات هي استمرار لنهج اليسار الغربي في تقديم المعطى الطبقي على المعطى الوطني، لأن هناك عقلية سائدة في بعض الأوساط اليسارية الغربية تعتبر أن كل ما له علاقة بالخطاب القومي والتحرر الوطني هو خطاب يذكّر بالخطاب القومي في أوروبا (الفاشي والنازي)، فينفرون منه مباشرة، ولا يفهمون أن الخطاب القومي والتحرري في الجنوب هو خطاب تقدمي في الحقيقة، لأن واقع بلدان الجنوب المستعمرة وشبه المستعمرة مختلف تماما عن واقعهم في بلدان المركز الرأسمالي والإمبريالي.
الخطاب القومي والتحرري في الجنوب هو خطاب تقدمي في الحقيقة
ولكن حتى في وسط هذا اليسار حدثت انقسامات، مثلا حزب فرنسا الأبية، وإن لم يرتق بعد لأن يناصر المقاومة بدون تحفظات ولكنه على الأقل يأخذ مواقف محترمة ضد الإبادة الجماعية والاحتلال والجرائم الصهيونية، مع الإبقاء على سقف ما يسمى بالقانون الدولي.
تدوين: بمعزل عن المواقف اليسارية الغربية، ماذا عن اليسار في إفريقيا ودول أمريكا اللاتينية التي يشكل اليسار فيها مكونا أساسيا وفاعلا على المستويين السياسي والاجتماعي، إذ ورغم مناصرة الفلسطينيين ورفض الإبادة تبقى بعض المواقف خجولة حيال مفهوم المقاومة، أي أن تصريحاتهم ومواقفهم ومطالبهم تكتفي برفض الإبادة ولكنها لا تعطي شرعية للمقاومة في مقاومتها؟
بن خليفة: النفور من الخطاب الذي يبدو لهذا اليسار قومي بعض الشيء، حتى في اليسار الماركسي الذي هو في العادة أكثر راديكالية، جعل هذه التيارات تركز دائما على معاداة المفهوم الاقتصادي للإمبريالية، وليس المفهوم الجيوسياسي، لهذا السبب نجد هذه المواقف الخجولة، إضافة لوجود تيارات يسارية تعتقد بإمكانية التحرر دون مقاومة وعنف ثوري، إنما عبر الخطاب السياسي السلمي والنضال الاجتماعي السلمي.
لكن هذه التيارات بدأت تتراجع حتى في الغرب، إذ صارت مسألة العنف الثوري أكثر وضوحا وقبولا، لأنه لا يمكن مواجهة العنف اليومي، والاحتلال والتمييز العنصري الذي هو عنف في حد ذاته، بطرق سلمية.
تدوين: إذن يمكن القول إن طوفان الأقصى شكل منعطفا جديدا في تعاطي اليسار مع القضية الفلسطينية؟
أعتقد أن من بين إنجازات طوفان الأقصى أنه فتح النقاش على مصراعيه حتى في أوساط يسارية كانت لا تفهم معنى المقاومة وصارت تتلمس أكثر معناها ومعنى العنف الثوري والعنف المشروع، إذ بدأت المسألة تتغير على هذا الصعيد.
من بين إنجازات طوفان الأقصى أنه فتح النقاش على مصراعيه حتى في أوساط يسارية كانت لا تفهم معنى المقاومة
تدوين: هل غياب اليسار العربي والفلسطيني خاصة لعب دورا في هذا التخبط في المواقف اليسارية العالمية، سيما وأن هذا الغياب حال دون بناء جسر مع الأوساط اليسارية؟
بن خليفة: ليس فقط مسألة الغياب هي من أحدثت حالة التخبط، إنما مواقف جزء من اليسار الفلسطيني الملتبسة والتي تعترف بحل الدولتين والمرتبطة بالسلطة الفلسطينية التي تنسق أمنيا مع الاحتلال وتعتقل المقاومين وتقتلهم، أحدثت حالة من عدم الفهم لدى اليسار الجنوبي بل وصعبت عملية الفهم.
وهذا ما ينطبق أيضا على اليسار العربي الذي هو امتداد، إذ يوجد يسار عربي يعترف بالقانون الدولي، وينتقد المقاومة فقط لأن خلفيتها إسلامية أو يرفض العنف، كما أن غياب هذا اليسار الفلسطيني والعربي عن المحافل اليسارية الدولية أو ضعف صوته وانقساماته والتباس مواقفه لم يخدم البتة.
تدوين: هل كان بالإمكان أن تكون هذه الحرب فرصة لليسار العربي لإعادة هيكلة نفسه وموضعتها ضمن سياقها بالتزامن مع ما يجري من تحركات عالمية تنادي بصوت عال لوقف الإبادة؟
بن خليفة: ما يجري اليوم هو فرصة لليسار العربي حتى يعيد هيكلة نفسه، ليس بالضرورة ضمن ما يجري في سياق تحركات عالمية، إنما حتى يصارح نفسه ويتصالح مع مجتمعه والمسألة الوطنية، وأن يتخلى عن وهم التركيز فقط على ما هو طبقي، والاقتصار على المناداة بالحريات الاجتماعية، ولكن حتى تعود مسألة التحرر الوطني على رأس أولوياته، وهذا النقاش موجود في العديد من المجموعات اليسارية والشيوعية في تونس وغيرها من الدول العربية.
ما يجري اليوم هو فرصة لليسار العربي حتى يعيد هيكلة نفسه، ليس بالضرورة ضمن ما يجري في سياق تحركات عالمية، إنما حتى يصارح نفسه ويتصالح مع مجتمعه والمسألة الوطنية
اليسار العربي اليوم منقسم على من يعتقدون أن الموقف مع فلسطين هو تضامني فقط، مقابل أصوات أخرى تعتبر أن فلسطين تقود حركة تحرر عربية تهم كافة الدول العربية، ولا يمكن التحرر في أي من البلدان العربية دون التحرير الكامل للشعب الفلسطيني.