الإثنين  16 أيلول 2024

المشهد الثقافي في القدس في ظل الحرب

حوار مع الفنان أحمد أبو سلعوم

2024-09-03 02:58:52 AM
المشهد الثقافي في القدس في ظل الحرب
أحمد أبو سلعوم

تدوين- سوار عبد ربه

مطلع شهر آب 2024؛ اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي مركز يبوس الثقافي في مدينة القدس المحتلة، حيث كان من المقرر عرض أفلام "من المسافة صفر" للمخرج رشيد مشهراوي، وهي مجموعة من الأفلام أعدت في خضم حرب الإبادة المستمرة منذ ما يقرب العام في قطاع غزة. هذا العرض كان جزءًا من الدور المتوقع للمؤسسات الثقافية الفلسطينية في العاصمة المحتلة، خاصة في ظل واقع استعماري يحول دون انخراط الفلسطينيين في مدينة القدس المحتلة بشكل مباشر في المعركة، حتى عبر التظاهر ضد المجازر.

في هذا السياق، تكتسب الأنشطة الثقافية، أهمية بالغة، باعتبارها أداة مواجهة، وأداة تصنع وعيا وطنيا في وجه كافة المحاولات الاستعمارية لطمس الهوية الفلسطينية العربية عن المدينة المقدسة، وتسهم أيضا ولو معنويا في إبقاء الروابط بين الفلسطينيين في القدس وأبناء وطنهم في غزة حية ومتصلة، رغم كل المساعي الاستعمارية المستمرة الرامية لخلق مجموعات فلسطينية مفككة، لا يبالي بعضها بالآخر، ومتماهية مع التجزئة الاستعمارية.

لذلك، التقت "تدوين" بالفنان والمخرج المسرحي أحمد أبو سلعوم، مدير مسرح سنابل للثقافة والفنون، لاستكشاف واقع المشهد الثقافي في القدس في ظل الحرب، وأثر السياسات الاستعمارية القمعية على الأنشطة الثقافية، وسبل مواجهتها.

تدوين: كيف ترى المشهد الثقافي في القدس في ظل الحرب؟

أبو سلعوم: تراجع المشهد الثقافي في القدس أثناء الحرب، وهو أمر يمكن تفهمه نظراً للظروف. رغم أنني لا أؤيد الابتعاد الكامل للمشهد الثقافي عن الجماهير، إلا أننا نعيش تحت احتلال مرير اتخذ منذ بداية الحرب خطوات غير مسبوقة. هذه الإجراءات أثرت بشكل كبير على حضور الثقافة في القدس بشكل خاص، وفي معظم مناطق فلسطين. ومع ذلك، لا يعني هذا أن الثقافة غائبة تماماً؛ إذ لا تزال هناك بعض المسرحيات والأمسيات الثقافية تقام، رغم أنها قليلة ونادرة ولا تعكس بشكل كامل الوضع المأساوي في غزة وبعض مناطق الضفة الغربية.

تدوين: كيف أثرت السياسات التقييدية التي فرضتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الفاعلين في الحقل الثقافي في القدس المحتلة، وكيف انعكست هذه السياسات على المؤسسات الثقافية ونشاطاتها خلال الحرب، خاصة في ظل تزايد الاعتقالات والملاحقات للناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي؟

أبو سلعوم: أصبح واضحا أن سلطات الاحتلال تعتقل الفلسطينيين في القدس، بسبب تفاعلاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل وضع "لايك" أو مشاركة منشورات بسيطة قد لا تتعلق بالحرب. هذه السياسات القمعية، التي لم تُعلن بشكل صريح لكنها تُطبق بفعالية، أسفرت عن حالة طوارئ مستمرة وتقييد للحريات حتى في آراء الأطباء والمحامين. هذه الظروف أثرت بشكل مباشر على الفاعلين الثقافيين والمؤسسات الثقافية، حيث تعاني من قيود تمنعها من ممارسة أنشطتها بشكل طبيعي أو توصيل رسائلها الثقافية.

تدوين: هل قامت المؤسسات الثقافية في القدس ببذل جهود للنهوض بالقطاع الثقافي وخلق مساحة فكرية تساهم في تعزيز انخراط المدينة وأبنائها في معركة المواجهة الشاملة، حيث يُفترض أن تلعب الثقافة دوراً مركزياً؟

أبو سلعوم: عموم الشعب الفلسطيني عليه دور في كل لحظات حياته وهو يعيش الاحتلال وينشد الاستقلال والحرية وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة، يجب أن يكون الكل منخرطا كل حسب قدرته وموقعه. المشهد الثقافي، كونه دعامة أساسية لوجودنا وتأكيد هويتنا على أرضنا، كان ينبغي أن يلعب دورا أكبر وأكثر تأثيرا. هناك تراجع في هذا المجال، ويجب الاعتراف بذلك، رغم أن الثمن الذي ندفعه في سبيل ذلك باهظ.

تدوين: في حادثة قريبة، تعرض مركز يبوس الثقافي، وهو أحد أهم المراكز الثقافية في القدس، إلى اقتحام من قبل قوات الاحتلال الذي منع عرض أفلام تحكي المجازر المرتكبة في قطاع غزة، هل كانت هذه الحادثة أولى الممارسات العلنية التي شهدتها مؤسسات المدينة الثقافية، وفي أي سياق يفهم هذا المنع؟ وما هي تداعياته؟

أبو سلعوم: سعى الاحتلال من خلال هذا الاقتحام إلى إرسال رسالة واضحة إلى جميع المؤسسات الثقافية التي تحاول التكيف مع الظروف الحالية، مفادها أن هذا سيكون مصيركم إذا استمرت نشاطاتكم الثقافية. بالنسبة لمسرح سنابل للثقافة والفنون، الذي أعمل مديراً له، فإن عمرنا يتجاوز الأربع عقود وقد قدمنا العديد من الأعمال والعروض في فلسطين وخارجها. ومع ذلك، شهدت عروضنا وإنتاجاتنا تراجعاً ملحوظاً. الإنتاج الوحيد الحالي، بجانب مسرحيات الأطفال، هو مسرحيتنا الجديدة "تماثيل وكلاب"، التي تتناول بجرأة جميع أنواع الديكتاتوريات وتدعو الناس لمقاومة أي شكل من أشكالها. رغم أن المسرحية لا تركز على نقد دكتاتورية معينة، فإنها تفتح نقاشاً حول رفض الاحتلال وتحدياته.

تدوين: هل اختيار هذا الموضوع في الوقت الحالي يهدف إلى الالتفاف على الرقابة التي تفرضها سلطات الاحتلال؟

أبو سلعوم: نعم، وهذا يذكر بما حدث في ثمانينيات القرن الماضي، عندما فرض "مناحيم بيغن" سياسة القبضة الحديدية، التي بموجبها مُنعت المدارس من فتح قاعاتها للعروض، وأنذر مديروها بأن أي عمل خارج الإطار الأكاديمي سيُقابل بعواقب. في تلك الفترة، واجه المبدعون الفلسطينيون تحديات كبيرة، فوجدوا طرقا غير مباشرة للتعبير، مثل الاقتباس من مسرحيات عالمية وتكييفها بنكهة فلسطينية لتجاوز الرقابة والقمع الذي فرضته سلطات الاحتلال.

مسرحيتنا الجديدة "تماثيل وكلاب" تضم اقتباسات من أعمال تشيخوف، وكتّاب سوريين، والراحل ناجي العلي، بالإضافة إلى أعمالي الخاصة. إنها مزيج فني يعبر عن الإنسان الذي يرضى بأن يكون عبداً خاضعاً ومستلب الإرادة. المسرح لا يهدف بالضرورة إلى تقديم حلول، بل إلى طرح تساؤلات.

رغم كل التحديات، نحن نواصل قول كلمتنا بوضوح من خلال الفن، وهذه هي رسالتنا. في مسرح سنابل، نعتبر المسرح رافعة حضارية للأمة ووسيلة لنزع البؤس واليأس عن شعبنا وكل إنسان شريف في هذا العالم. نحن فلسطينيون بعمق إنساني، فالمسرح والفنون تعتبر لغة عالمية تعبر عن إنسانيتنا وتواصلنا مع العالم.

تدوين: من المسؤول عن التقاط الأسئلة التي يثيرها المسرح والعمل على الإجابة عليها؟

أبو سلعوم: لا أعتقد أن المسرح والفن يجب أن يكونا مجرد مرآة تعكس وضع الناس، لأن الناس ليسوا متشابهين؛ فهناك تقاطعات وتباينات. أنا أؤيد الشرفاء الذين يحبون الوطن بصدق ويسعون لخدمته دون استغلال لمصالح شخصية أو عائلية. هذا هو موقفي، وسأتحدث بلغة تعزز العلاقة بين الناس الذين أعتبرهم أشرافاً يعملون من أجل الوطن، بعيداً عن أي تحيز أو استغلال. المسرح يعمل كمنبه؛ إذا لم يحرك من يتلقى تساؤلاته السكون، فلن يحركه أحد.

تدوين: ألا ترى أن للمسرح والثقافة بشكل عام دورا آخر توجيهيا، وفي أحيان أخرى تربويا، قد يجذب أولئك الذين لا ينتمون بالضرورة إلى الفئة المستهدفة بأعمالك؟

 أبو سلعوم: في هذه الحالة، تكون المسرحية، أدت دورها بنجاح، وبهذه الطريقة يحدث التغيير للأفضل والأجمل.

الأصل في التغيير هو عدم قبول العبودية لنفسك ولغيرك، وبهذا يصبح الإحساس الإنساني في حالة سمو، ويصبح الوطن حينها ليس مجرد حجارة ومقدسات وشوارع وبحر، بل يتجاوزها إلى الإحساس بالطفل الذي يعاني في غزة، والأم التي نزحت عشرات المرات، والإنسان الذي يكدح ويعاني دون أن ينال حياة كريمة. عند الوصول إلى هذا الفهم، يصبح الفن حقيقيا.

كونك فنانا حقيقيا يعني أن تحب كل الناس بلا تمييز أو تحيز، وأن تتحلى بالشجاعة لمواجهة الفساد والدكتاتورية واللامبالاة، حركة الحياة التي أراها تتجاوز التاريخ، فهي تتعلق بالمستقبل الذي ينبغي للمثقفين أن يساهموا في رسم جماله. إذا كنت تسعى لتحقيق هذا التغيير لنفسك وللآخرين، فإنك تصبح جزءا من هذه الحركة نحو مستقبل أفضل.

تدوين: هل تعيش القدس أسوأ مراحلها من الناحية الثقافية، سواء من حيث السياسات الاستعمارية المفروضة على المشهد الثقافي أو من حيث المواضيع التي تُطرح عبر هذه المنابر؟

أبو سلعوم: بالفعل، وهنا يجب الإحاطة بكل معاني السوء التي بدأت منذ زمن، والتغاضي عن هذا الرديء الذي تراكم على كل المستويات لدرجة الاختناق يفسر حالة المشهد الثقافي في القدس. الثقافة والفن والنضال السياسي لا يسير بشكل متناغم نحو هدف مشترك، مما يجعل التغيير المستدام أمراً صعباً. العمل الثقافي والإبداعي لا يمكنهما أن يحدثا التغيير المطلوب إذا لم يكن هناك تكاتف وانتماء حقيقي من قبل جميع الأطراف المعنية. كما رأينا في لينينغراد أثناء حصار هتلر، حيث استمرت الفرق الفنية في عملها رغم الظروف القاسية بل وتسابقت على كتابة كلمات وألحان النصر، وهو ما يعكس درجة من الوعي والإيجابية التي تجعل من الإنسان جزءاً نشطاً ومهماً في تحسين وطنه، حتى في أصعب الظروف.