تدوين- سوار عبد ربه
مع استمرار حرب الإبادة التي تشنها آلة الحرب الصهيونية على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول 2023، تواصل البلدان الصديقة والداعمة للقضية الفلسطينية دورها في إيجاد استراتيجيات فعالة في مواجهة المظلمة التاريخية المستمرة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، عبر توظيف الأدوات المتاحة وابتكار أدوات جديدة تتماشى مع المنعطف التاريخي الذي تمر به القضية. وفي هذا السياق، برز العراق كنموذج ملحوظ من خلال توحيد جهوده على مختلف الأصعدة، مقدما استجابة شاملة تعكس التزاما عميقا في دعم القضية العربية الكبرى.
قدّمت المقاومة الإسلامية في العراق دعما عسكريا من خلال جبهة الإسناد التي أُطلقت في 19 تشرين الأول 2023. وفي خطوة مكملة، نظمت مدينة كربلاء مؤتمر "نداء الأقصى" العالمي تحت شعار "من معركة كربلاء إلى طوفان الأقصى: انتصار الإرادة على الطغيان"، من 12 إلى 15 آب 2024. المؤتمر الذي نظمته الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة بالتعاون مع الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين، وبحضور عدد من الشخصيات البارزة من 65 دولة، بما في ذلك شخصيات فلسطينية، قدّم منصة فكرية وثقافية قيمة في إطار دعم القضية الفلسطينية، نظرا لتنوع فعالياته وشمولية مواضيع ندواته، التي ركزت على أربعة محاور رئيسية: مبادئ النهضة الحسينية وعلاقتها بالقضية الفلسطينية، شهادات من الواقع الفلسطيني، الدور التاريخي للشعب العراقي في دعم فلسطين، والخطاب الفكري والثقافي حول القضية الفلسطينية. كما تناول المؤتمر سُبُل مواجهة التطبيع واستخدام المناسبات الدينية لتعزيز التضامن مع فلسطين.
هذا التداخل بين الرسائل التاريخية والمعاصرة إنما هو لإبراز قدرة المقاومة على التجدد والتكيف مع التحديات المستمرة. فالإلهام المتبادل بين النهضة الحسينية والقضية الفلسطينية لا يعكس فقط تواصل الرسائل النضالية عبر الزمن، بل يعزز أيضا الذاكرة الجماعية العربية، ويبرز الدور الحيوي الذي تلعبه المناسبات الثقافية والدينية في دعم القضايا العادلة.
القضية الفلسطينية في قلب المناسبات الدينية
حول أهمية المؤتمر للقضية الفلسطينية، قال الباحث في الشؤون الاجتماعية والسياسية طلال عتريسي في لقاء خاص مع "تدوين" إن "التجمع البشري غير المسبوق من مختلف بلدان العالم في زيارة الأربعين يعد فرصة ذات أهمية فكرية وثقافية كبيرة لقضايا الأمة، وخاصة قضية فلسطين، إذ يُمثل هذا التنوع فرصة لتسليط الضوء على القضية وإيصالها إلى جميع شعوب العالم المشاركة في الزيارة".
من جانبه، أكد مسؤول التثقيف في الحشد الشعبي العراقي حسين صالح في لقائه مع "تدوين" أن "وجود أفراد فلسطينيين والتواصل المباشر مع الجماهير لعرض القضية الفلسطينية بلسان فلسطيني يعد أمرا في غاية الأهمية. فهذه الطريقة تعد الأدق والأوضح والأصدق لإيصال القضية الفلسطينية إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وكذلك لتوضيح مظلوميتها، إذ لا يمكن إلا لأهل فلسطين أنفسهم أن يقدموا صورة دقيقة عن معاناتهم."
بدوره، أوضح الناقد والكاتب علي نسر لـ"تدوين"، أن "المؤتمرات والندوات الفكرية والثقافية المتعلقة بكل قضية إنسانية تلعب دورا محوريا في تحويلها إلى قضية جوهرية. وبالنسبة للقضية الفلسطينية، تأتي هذه الفعاليات لتؤكد أن النضال والجهاد من أجل فلسطين لا يقتصران على السلاح والدماء، رغم أهمية ذلك. أحيانا، تلعب الكلمة دورا أساسيا في الجوانب النضالية والجهادية. وقد أكدت الثورات العالمية، سواء كانت دينية أو دنيوية، هذا الدور". مضيفا أن "المناسبات الدينية والجماهيرية، مثل أربعينية الإمام الحسين وغيرها من الفعاليات المرتبطة بالرموز الدينية الأخرى، تحمل بعدا رمزيا يشير إلى عدالة القضية الفلسطينية".
دمج الرموز الفلسطينية في الثقافة الدينية
وفي هذا الجانب قال الباحث طلال عتريسي إن هذا المؤتمر، من خلال ربطه بين طوفان الأقصى ونداء الأقصى، يؤكد على أهمية علاقة المسلمين بالمسجد الأقصى وقدسيته. فانعقاده كجزء من مراسم الأربعين يدمج الحرم القدسي في قلب ثقافة الأربعين، كما حدث سابقا مع يوم القدس، الذي يُحتفل به في آخر جمعة من شهر رمضان، مما يربط الإحياء بالقدس من جهة وبشهر رمضان من جهة أخرى. بالإضافة إلى هذا الربط، تسلط هذه المؤتمرات الضوء على أهمية المقاومة من أجل المسجد الأقصى وضرورة تعزيز الالتفاف الإسلامي حوله، في مواجهة المحاولات التي تسعى لتهميش قضية فلسطين من أولويات العالم الإسلامي".
تجسيد روح عاشوراء في سياق القضايا الراهنة
في البيان الختامي للمؤتمر، جاء التأكيد على أن "ثورة الإمام الحسين في مواجهة الاستبداد، وشهادته مع أهل بيته وأصحابه في كربلاء، ستبقى حدثاً أساسياً في التاريخ الإنساني، يلهم الفكر الحر ويدفع للعمل المخلص والتضحية من أجل تحقيق العدالة للبشرية جمعاء، وهو ما نطالب به للشعب الفلسطيني."
في هذا الإطار، أوضح الباحث طلال عتريسي أن "الثورة الإسلامية في إيران ضد نظام الشاه لعبت دورا بارزا في تحديث القضايا الدينية التاريخية، مما جعلها أكثر ارتباطا بقضايا العصر. فقد اعتبر قائد الثورة أن رفض الهيمنة الأمريكية، وإغلاق سفارة الاحتلال وفتح سفارة فلسطين، وما إلى ذلك من إنجازات، تعتبر من ثمار عاشوراء. ومنذ ذلك الحين، تحولت عاشوراء من كونها حدثا تاريخيا إلى قضية معاصرة. أصبح إحياؤها السنوي والخطب المرتبطة بها فرصة للتعبير عن الظلم المعاصر الذي تمارسه الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، بحق الشعب الفلسطيني".
وأضاف عتريسي: "شهدنا هذا العام تجسيدا حقيقيا لروح عاشوراء من خلال ارتباطها بطوفان الأقصى، وثبات الشعب الفلسطيني، وبطولات المقاومة الفلسطينية وجبهات الإسناد. إذ أصبحت الشعارات العاشورائية تُستخدم داخل فلسطين، وأصبح ما يجري في غزة يُشار إليه بأنه "كربلاء العصر".
من جانبه، أكد مسؤول التثقيف في الحشد الشعبي العراقي حسين صالح، أن "القضايا الدينية التاريخية تتجدد عندما يكون هناك مثال حي يواكبها. اليوم، نجد مثال كربلاء في فلسطين من خلال صرخة "هيهات منا الذلة" التي يحملها أهالي غزة في مواجهة الظالم الصهيوني الذي يحاربهم ويسعى لإبادتهم".
رؤية مقارنة حول تجسيد الروح الدينية في القضايا المعاصرة
في المقابل يرى الباحث علي نسر أن "الهدف ليس تحديث المناسبات الدينية القديمة بروح معاصرة، لأنها بالفعل تحمل روحا حية. بدلا من ذلك، يجب علينا استحضار هذه المناسبات لتقديم جوانب حياتية جديدة. ذلك أن محاولة فرض روح معاصرة، قد يوقعنا في فخ التقديس والتنميط، مما يعيق الاستفادة الفعلية من هذه القضايا القديمة".
وأضاف: "ينبغي بدلا من إسقاط القضية الفلسطينية على قضايا قديمة، أن نستفيد من القضايا القديمة لإبراز الروح الدينية والنضالية في القضية الفلسطينية، مما يجعلها وسيلة لإلقاء الضوء على القضايا ذات الأهمية التاريخية."
أما الباحث طلال عتريسي فاعتبر أن "ما حدث في كربلاء يتجسد في غزة، وهذا لا يقتصر على إحياء وتجديد القضية الحسينية، بل يضفي على قضية غزة طابعا مميزا، حيث أن كل المسلمين قد سمعوا عن رجال كربلاء وبطولاتهم. اليوم، عندما ترى الشعوب الإسلامية أن هناك كربلاء تعاصرهم، وهي القضية الفلسطينية، يجدون فرصة للتواجد في كربلاء من خلال الدفاع عن قضية فلسطين وأهلها."
الفضاءات الثقافية والدينية في مواجهة التطبيع
يعتبر مؤتمر نداء الأقصى نموذجا بارزا لفضاء ثقافي وديني يلعب دورا حيويا في التصدي لمشاريع التطبيع والجهود الصهيونية الهادفة إلى تغييب القضية الفلسطينية عن الوجدان العربي والعالمي. من جهة، يعزز المؤتمر الوعي الجماهيري بأهمية القضية الفلسطينية، ويشدد على محورية هذه القضية في الخطاب الثقافي والديني. ومن جهة أخرى، يفضح المؤتمر الممارسات الصهيونية في وقت تكون فيه المشاعر الدينية متأججة، مما يساهم في تقويض تأثير الدعاية الصهيونية المشوهة والزائفة.
في هذا السياق، يرى د. طلال عتريسي أن مشاركة الأفراد في فعاليات مثل زيارة الأربعين ومؤتمر نداء الأقصى تمثل مواجهة مباشرة لمظاهر التطبيع التي بررتها بعض القيادات والعلماء في بعض الدول العربية. حيث يتميز المناخ الثقافي والوجداني خلال إحياء الأربعين بتأكيده على التضحية التي قدمها الإمام الحسين والدماء التي سُفكت في مواجهة الظلم والفساد. ولا يمكن لمؤتمر يُعقد في وقت إحياء الأربعين إلا أن يتبنى أهدافا تتماشى مع المبادئ التي استشهد من أجلها الإمام الحسين.
من جانبه، يرى د. علي نسر أن رفع الفضاءات الثقافية والدينية لواء تحرير فلسطين والانتماء إليها إنسانيا ودينيا وقوميا يجعلها أدوات فعالة في مواجهة أي مشروع تطبيعي. إذ تسهم هذه الفضاءات في الحد من التفاخر بالتطبيع والعلاقات مع العدو، وتعمل على تثبيت الهوية الأساسية للقضية الفلسطينية.
العمل العسكري كاستجابة للأسس الثقافية
وفي ظل تحليل نموذج العراق في سياق دعمه المتكامل للقضية الفلسطينية، يشير مسؤول التثقيف في الحشد الشعبي العراقي حسين صالح، إلى أن الربط بين الأسس الفكرية والعمل العسكري يعد عنصرا حاسما في هذا النموذج. مؤكدا على أن تأسيس جبهة الإسناد من قبل المقاومة العراقية لم يكن ممكنا دون وجود قاعدة ثقافية وفكرية داعمة.
ويوضح صالح أن العمل العسكري يجب أن يفهم كنتيجة لتطور الفكر والثقافة، وليس كحدث أولي. من هذا المنظور، يصبح الحفاظ على هذا الترابط بين الأسس الثقافية والجهود العسكرية أمرا ضروريا لضمان فعالية جبهة الإسناد والمقاومة العراقية. إذ أن هذا التكامل بين العمل العسكري والثقافي لا يساهم فقط في استدامة الجهود لدعم القضية الفلسطينية، بل يعزز أيضاً القدرة على مواجهة التحديات المستقبلية مع العدو الصهيوني بفعالية أكبر.