تدوين- يحدث الآن
في سياق التظاهرة الفنيّة التي أطلقها المتحف الفلسطيني في شباط الماضي، وتزامنًا مع الذكرى السابعة والثلاثين لانطلاق الانتفاضة الأولى المجيدة، رفع المتحف الفلسطيني الستار يوم أمس عن جداريّات الفنّانين مؤسّسي جماعة "نحو التجريب والإبداع": سليمان منصور، ونبيل عناني، وتيسير بركات، وفيرا تماري. وُلدت هذه الأعمال لتكون نواة المعرض الدائم للمتحف الفلسطيني، لتبقى على جدرانه ما بقي، ولتقدّم شكرًا وعرفانًا للفنّانين الذين قادوا حركة تجديد نحو الأمام، متّكئين على موروث شعبهم العظيم.
تأسّست جماعة "نحو التجريب والإبداع" خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، سنة 1989، في سياق كان كلّ ما فيه ينادي بالحريّة ويسير نحوها. في ذلك الوقت العصيب - الملحمي، اجتمع الفنّانون الأربعة في ذروة الحدث، واختاروا أن يتحدّثوا بلغة الجموع، وأن يستخدموا خامات الطبيعية الفلسطينيّة في أعمالهم الفنيّة، استجابة لنداء الانتفاضة الذي دعا إلى ضرورة مقاطعة المنتوجات الإسرائيليّة، وقرّروا أن يخوضوا "مغامرة البحث الجمالي، ومحاولة الارتقاء بالرؤية الفنيّة إلى مستوى يؤكّد حريّة الفنّان الداخليّة، وقدرته على استشراف الجمال والحقيقة، في خضمّ نضاله اليوميّ لنيل الحريّة".
أُنتجت الجداريّات في زمن حرب لا تشبه غيرها من الحروب، في وقت نتعرّض فيه، نحن الفلسطينيّين، وبيوتنا، وجامعاتنا، ومكتباتنا، ومراسمنا، وذاكرتنا، ومكوّنات ثقافتنا للإبادة. وفي هذا الظرف شديد القسوة، نستذكر الانتفاضة الأولى، محطّةً مركزيّةً شكّلت ملامح وجودنا خلال العقود الأخيرة، كما نستذكر مرحلة التجريب والإبداع التي شكّلت وعيًا جماعيًّا بما يجب أن يكون عليه الفنّ: امتدادًا حقيقيًّا للحالة الشعبيّة، وانعكاسًا لتطلّعات الشعب الفلسطيني ونضاله اليومي لنيل الحريّة، عبر تكريس استخدام خامات الأرض المحليّة، وتبنّي أنماط تعبير تجديديّة، تستند إلى الموروث الثقافي.
يجمع بهو المتحف الجداريّات الأربعة على جدران متقابلة، تذكّرنا بأنّ الأرض هي مادّة الفنّ الأولى، وتذكّرنا بلحظة التكوين الأولى للأفكار الثوريّة. في عمله "على جناح ملاك"، يعيد الفنّان سليمان منصور تصوير مدينة القدس عبر مساحات طينيّة شاسعة، تعكس تشقّقاتها جمال المدينة وانكساراتها، وتُبرز الزخارف المستوحاة من أنماط التطريز الفلسطيني روح المدينة، وسكينتها، وقدسيّتها، وتشير إلى مكانتها في وجدان الفلسطينيّين على اختلاف أماكن تواجدهم، ويقينهم بالوصول إلى وجهتهم بعد المسير الطويل.
في عمله "مسيرة الأشجار"، يقدّم الفنّان نبيل عناني تكوينًا بصريًّا يمزج بين الإنسان والطبيعة، يعبّر عن حكاية الشعب الفلسطيني المتجذّر في أرضه. يتّخذ العمل الأشجار رمزًا يجسّد حراك الفلسطينيّين الجماعي، دلالةً على التحامهم بأرضهم وبعضهم البعض، في مسيرهم نحو الحريّة.
يعتمد الفنّان تيسير بركات في تكوين عمله "البحث عن الأرجوان على شواطئ المتوسط" على مادّتَين أساسيّتَين هما: النار والخشب، بوصفهما البدايات الأولى للحياة، ويمزج بين الرموز الكنعانيّة والأساطير القديمة، مستعرضًا رحلة البحث عن الأبديّة، في عودة رمزيّة إلى أولى شعائر العبادة، وأوّل ركوب البحر، ورحلة جلجامش بحثًا عن الخلود، وأولى إشارات التمدّن والحضارة.
تواصل الفنّانة فيرا تماري في عملها "حارسات الأرض" استكشاف رمزيّة شجرة الزيتون باعتبارها شاهدًا على تاريخ الأرض وثقافتها الأصيلة. يضمّ العمل 3288 شجرة زيتون خزفيّة، عبر تكوين يمتدّ على 28 مترًا، في إشارة رمزّية إلى عدد أشجار الزيتون التي يقتلعها الاحتلال الإسرائيلي بشكل يومي ومتعمّد، واستحضارًا لانسيابيّة التلال الفلسطينيّة، وتدرّجات ألوانها الطبيعيّة، وبيانَ احتفاء بالأمل والحياة.
بدوره، يقول مدير عام المتحف الفلسطيني، عامر شوملي: "ضمن خطّته للسنوات القادمة، يسعى المتحف الفلسطيني إلى تكليف مجموعة من الفنّانين الفلسطينيّين الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة سنويًّا، بهدف خلق مساحة جامعة تروي قصص فلسطين وتوثّقها". ويضيف: "يأتي إنتاج هذه الأعمال في مواجهة القتل المتعمّد للفلسطينيّين وموروثهم وفنّهم ومنجزهم الحضاري. يدمّر العدوّ مكانًا، فنبني آخر، ويقصف مرسمًا أو عملًا فنيًّا، فننتج العشرات".
ويُذكر أنّ المتحف الفلسطيني جمعيّة غير حكوميّة ثقافيّة مُستقلّة، مُكرّسة لتعزيز ثقافة فلسطينيّة منفتحة وحيويّة على المستويَين المحلّي والدولي. يُقدّم المتحف ويساهم في إنتاج روايات عن تاريخ فلسطين وثقافتها ومجتمعها بمنظور جديد، كما يوفّر بيئة حاضنة للمشاريع الإبداعيّة والبرامج التعليميّة والأبحاث المُبتكرة، وهو أحد أهم المشاريع الثقافيّة المُعاصرة في فلسطين.