تدوين-إيهاب بسيسو
أعرف محمود منى منذ سنوات، فصاحب المكتبة العلمية في القدس، شكَّل جسراً حيوياً من المعرفة بين فلسطين المحاصرة ثقافياً ودور النشر العالمية، من خلال إصراره على توفير مختلف الكتب، وخصوصاً الصادرة باللغة الانجليزية لجمهور القراء في فلسطين المحتلة.
المكتبة العلمية في القدس عنواناً أساسياً من عناوين الثقافة وحالة مميزة من حالات الحراك الثقافي في العاصمة المحتلة
لتصبح المكتبة العلمية في القدس عنواناً أساسياً من عناوين الثقافة وحالة مميزة من حالات الحراك الثقافي في العاصمة المحتلة، رغم عراقيل سلطات الاستعمار المتواصلة ضد الكتاب والكتب.
ورغم أن القدس لا تبعد جغرافياً سوى بضعة كيلو مترات عن رام الله وبيت لحم حيث أعمل في جامعة دار الكلمة، لم يسبق لي أن زرت محمود في مكتبته المميزة في القدس، بسبب سياسات الاستعمار القمعية التي قامت بعزل القدس عن باقي المدن الفلسطينية، أو عزل المدن الفلسطينينة عن القدس، فكانت النتيجة الجدار والحواجز وعذابات استصدار تصاريح المرور، والتي انعكست جميعها على تقييد حرية الحركة الفلسطينية، بحيث أنني لم أستطع أن أجرب تلك العادة المحببة لي خلال زيارة المكتبات والمتمثلة في الغوص بين أرفف الكتب في المكتبة العلمية في القدس، بحثاً عن كتاب أو كتب من أجل المعرفة أو البحث الأكاديمي.
لهذا ظلت المكتبة العلمية، منذ سنوات، بالنسبة لي عدداً من صور أراها عبر السوشيال ميديا مصحوبة بطلبيات كتب باللغة الانجليزية، تصل في النهاية رغم مختلف أشكال المنع والتأخير والمماطلة الاستعمارية.
إلا أن محمود لم يكن يستسلم لهذا النمط من الاضطهاد الممنهج، فكانت الكتب تصل من دور النشر حول العالم إلى القدس ومنها يحملها لنا محمود منى (أحياناً باليد) إلى معازلنا البشرية في الضفة المحتلة.
في هذا السياق أصبحت لقاءاتي مع محمود في حد ذاتها مزيجاً من نقاشات وأفكار حول الهوية والثقافة وفلسطين ودور المثقف والقدرة على مواجهة التحديات بالإصرار على المعرفة.
ولعل فعل التحدي نفسه في وصول الكتب إلى الضفة المحتلة من القدس بهذه الطريقة حمل في طياته بعداً إضافياً من أهمية الفعل الثقافي في ظل حياة محاصرة ومهددة على الدوام بجرائم الاستعمار المختلفة.
خلال فصول حرب الإبادة على غزة، بادر محمود ومجموعة من المثقفين/ات ماثيو تيللر، جولييت توما وجياب أبو صفية إلى الشروع بإصدار كتاب عن غزة باللغة الانجليزية.
لعل فعل التحدي نفسه في وصول الكتب إلى الضفة المحتلة من القدس بهذه الطريقة حمل في طياته بعداً إضافياً من أهمية الفعل الثقافي في ظل حياة محاصرة ومهددة على الدوام بجرائم الاستعمار المختلفة
قد تبدو الفكرة "مجنونة" نوعاً ما في ظل جمود الوقت أمام ما يحدث في غزة، إلا أنهم محمود وماثيو وجولييت وجياب قد نجحوا في كسر هذا الجمود بالتواصل مع العديد من الغزيين/ات ليوافوهم بشهاداتهم عن غزة قبل وأثناء الإبادة، وذلك في محاولة معرفية مميزة لنقل صوت غزة إلى العالم ولتحطيم تلك الصورة النمطية عن المكان المحاصر، والتي دأب الاستعمار على جعلها رديفاً للخراب والتطرف.
وكانت النتيجة إصدار الكتاب في أواخر ٢٠٢٤ باللغة الانجليزية عن دار الساقي في لندن بعنوان "الفجر في غزة: قصص عن حياة الفلسطينيين والثقافة"، الكتاب الذي اتفق محرروه ودار النشر على أن يذهب ريع مبيعات الكتاب إلى دعم جهود الأطباء في فلسطين.
وصلني الكتاب (كالعادة) من المكتبة العلمية في القدس، مخترقاً الحواجز وجدار العزل العنصري، لأجدني بين صفحاته ٣٣٦ أغوص في رؤية الكتاب عبر الذكريات والحكايات التي أرادوا لها أن تنتصر للحق في الحياة والحرية أمام ماكينة الإبادة.
كل ظروف إصدار كتاب بهذا المضمون في ظل ظروف بهذا التعقيد، جعل المشروع رائداُ معرفياً في عدم الاستسلام للصمت وماكينة المحو الثقافي.
ليصبح الكتاب تجربة ملهمة على صعيد التوقيت والمضمون ونموذجاً حياً للتعبير عن دور الثقافة والمعرفة في المجتمع، وخصوصاً المجتمع الذي يحيا ويلات الاستعمار.
أمس، حوالي الساعة الرابعة عصراً داهمت قوات الاستعمار الصهيوني مقر المكتبة العلمية في القدس، وعبثت بمحتوياتها الثمينة من الكتب والمجلات وصادرت العديد من العناوين واعتقلت محمود وأحمد منى من داخل المكتبة.
فصل جديد من محاولات إبادة الكلمة والهوية والمعرفة والحق في التعبير عن الأفكار التي تنتصر لحقوق الشعوب في الحرية.
الحرية لمحمود وأحمد منى
الحرية للقدس، الحرية لفلسطين.