الإثنين  07 نيسان 2025

الفن بين النظرية والممارسة: الأرشيف كأداة مقاومة في مواجهة قمع الذاكرة

حوار مع الفنان عز جعبري

2025-04-06 03:05:47 PM
الفن بين النظرية والممارسة: الأرشيف كأداة مقاومة في مواجهة قمع الذاكرة
عز جعبري

تدوين - سوار عبد ربه

"إن دوافعي لإحياء الأرشيف، تنبع من قناعتي بأن الذاكرة ليست مجرد سجل للأحداث، بل هي مادة خام تنبض بما لم يُقل، بما لم يجد طريقه إلى صفحات التاريخ". من خلال هذه الكلمات، يعكس الفنان الفلسطيني عز جعبري جوهر مشروعه الفني الذي يمتد لسنوات، حيث يعكف على تنفيذ أعمال ومعارض فنية ترتبط ارتباطا وثيقا بالواقع الفلسطيني المعاش. ولم تكن هذه الأعمال يوما معزولة عن سياقات الحياة اليومية الفلسطينية في ظل الاستعمار؛ بل كانت بمثابة مساحات مقاومة تُعيد للذاكرة حقها، وتعبّر خارج إطار سياقات القمع والسيطرة.

يُعرف الجعبري في أعماله التركيبية والتجريبية بتوجهه نحو إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والأرض والروح، محولا المواد اليومية والأرشيفات إلى أدوات مقاومة ورواية بديلة. ومن خلال الدمج بين البحث النظري والممارسة الفنية، يسعى الجعبري إلى اكتشاف المساحات المفقودة كمجموعة من الأجزاء المتناثرة التي ينبغي إعادة ترتيبها في محاولة للعثور على معنى يتجاوز الحاضر والماضي معا.

من خلال هذا الحوار، سنستعرض مجموعة من الأسئلة التي تثيرها أعمال الفنان عز جعبري حول مكانة الفن في زمن الاشتباك، بوصفه أداة مقاومة موازية، وأهمية تعزيز الوعي الفلسطيني في تفكيك الأبعاد البحثية للأعمال الفنية التي تتجاوز الرسائل المباشرة، لتصبح جزءًا من نضال ثقافي طويل الأمد. كما سنناقش التحديات التي يواجهها الفن الفلسطيني، سواء كانت سياسية أو اجتماعية، وكيف يمكن إعادة النظر في مفهوم الأرشيف باعتباره محفزا لحكايات لم تجد طريقها إلى الظهور ولم تُسمع بعد.

وفيما يلي حوار مع الفنان الفلسطيني عز جعبري:

تدوين: في إطار مشاركتك القادمة في معرض "سأحفر كل ما تحكي لي الشمس"، ما هو العمل الفني الذي ستشارك فيه؟ وبالنظر إلى أن هذا ليس العمل الأول لك ضمن سياق الأرشيف والذاكرة، كيف تقيم عوامل الاستمرارية في أعمالك السابقة؟

الجعبري: في معرض "سأحفر كل ما تحكي لي الشمس"، أشارك بعملين تركيبيين يتناولان مفاهيم الأرشيف والذاكرة من زوايا مختلفة، ولكن متقاطعة. العمل الأول يتعامل مع فكرة الإبادة والمحو كعمليات مستمرة، حيث تتحول العظام المعلقة فوق التربة إلى رموز تطرح أسئلة حول الذاكرة المنسية والمفقودة؛ هل يمكن اعتبار الأرشيف ذاته عملاً من أعمال المقاومة ضد المحو؟ أم أنه محاولة يائسة للقبض على ما يتفلت من بين أيدينا؟

العمل الثاني يطرح سؤالًا مغايرًا حول التشظي والتفتت كوسيلة لحفظ الذاكرة، وليس لمحوها. من خلال الحجارة والمرايا المتصدعة، أحاول تفكيك فكرة الانعكاس بوصفها بحثًا مستمرًا عن هوية غير مكتملة، هوية تعي أن التشظي ذاته جزء من البقاء. إن إعادة النظر في الذاكرة لا تعني العودة إلى صورة ثابتة، بل محاولة إيجاد معنى وسط الانكسار.

هاتان المحاولتان تشكلان امتدادًا طبيعيًا لممارساتي السابقة في سياق الأرشيف والذاكرة. لطالما كان مشروعي الفني يسعى إلى إعادة قراءة الأرشيف، ليس بوصفه مستودعًا جامدًا للأحداث، بل كمساحة للصراع المستمر على المعنى، وكوسيلة لإعادة بناء الهوية. ما أقدمه اليوم في هذا المعرض هو استمرار لأسئلة لا أبحث فيها عن إجابات نهائية، بقدر ما أطمح إلى إيقاظ تلك الثغرات التي يفرضها النسيان علينا.

إن الاستمرارية هنا ليست مجرد تكرار لممارسات سابقة، بل هي توسع في فهم طبيعة الأرشيف نفسه. فالمحو ليس نهاية، بل بداية جديدة للتساؤل حول ما يبقى وما يُمحى، وكيف يمكننا أن نعيد بناء ذاكرتنا بعيدًا عن الأطر المفروضة علينا.

تدوين: المعرض الذي سيقام في مؤسسة القطان هو معرض جماعي. من وجهة نظرك كفنان، هل ترى أن المعارض الجماعية أم الفردية هي الأهم في السياق الفني؟ وما الدور التكميلي الذي تلعبه المعارض الجماعية في مواجهة الإبادة الثقافية ومحاولة المحو الثقافي؟
الجعبري: المعارض الجماعية هي تجسيدٌ لتعدد الأصوات التي تنطق بصمت ما حاول التاريخ محوه، وجمعٌ لتلك الشظايا التي تنجو من عمليات الإبادة الثقافية. إنها فضاء حيٌّ لا يكتفي برواية واحدة، بل يحتضن الروايات المتقاطعة والمُتصادمة، ليخلق من تنوعها مساحة واسعة للبحث عن المعنى فيما نملك وما نفقد.

في السياق الفني الفلسطيني، تكتسب المعارض الجماعية أهمية استثنائية، ليس فقط لقدرتها على جمع الفنانين ضمن مشروع مشترك، بل لأنها تُعيد تشكيل الذاكرة من خلال تعدديتها. الذاكرة هنا ليست متحفًا للأحداث، بل نبضًا حيًّا يتشكل باستمرار عبر التجارب المختلفة. كل صوت يُضاف إلى المعرض الجماعي هو محاولة جديدة لترميم ذلك الخراب الذي يسعى الاستعمار إلى ترسيخه.

لا يمكن للفن أن يواجه الإبادة الثقافية بشكل مباشر؛ لكن المعارض الجماعية تفتح تلك المساحات التي تم تغييبها عمدًا، تلك الفراغات التي يسكنها الغياب. هي محاولات مستمرة للبحث عن حقيقة ما يبقى بعد الزوال، وعن الكيفية التي يمكن بها للأصوات الهامشية أن تعيد رسم خارطة الوجود.

ربما تكون المعارض الفردية أقدر على التعبير عن التجربة الشخصية، لكن المعارض الجماعية تمنح تلك التجارب الفردية بعدًا جديدًا، حيث تتحول إلى أجزاء من حوار أكبر لا يتوقف عن طرح الأسئلة. هنا لا تكمن الأهمية في تقديم إجابات، بل في تكوين أرشيف مفتوح، يتحدى مفهوم الأرشيف ذاته كحقيقة مكتملة، ويسمح للذاكرة بأن تنبض بحرية من دون قوالب جاهزة.

إن كانت هناك مقاومة للمحو، فهي تكمن في هذا التنوع الذي يُصر على أن الحياة لا تُختزل في صوت واحد، بل تتكون من ذلك النسيج المعقد من الأصوات التي تتداخل وتتجادل، دون أن تلغي إحداها الأخرى. في المعارض الجماعية، يصبح الفن فعلاً من أفعال الإحياء، لا عبر التوثيق البارد، بل عبر استعادة ما ظل حيًّا رغم كل محاولات الإبادة.

تدوين: أعمالك الفنية تُركز على قضايا الذاكرة والهوية، وتستند إلى الأرشيف كمصدر أساسي للإنتاج. ما هي دوافعك لإحياء الأرشيف ودمجه في السياق الحالي؟ وكيف ترى أهمية التواصل بين الماضي والحاضر في إنتاج الثقافة الفنية؟

الجعبري: إن العودة إلى الأرشيف ليست مجرد محاولة لإحياء الماضي أو استعادته، بل هي بحث عن تلك المساحات المفقودة بين ما كُتب وما ضاع، بين ما تَركه الزمن مكشوفًا وما دفنته الروايات المهزومة. إن دوافعي لإحياء الأرشيف تنبع من قناعتي بأن الذاكرة ليست فقط سجلًا للأحداث، بل هي مادة خام تنبض بما لم يُقال، بما لم يجد طريقه إلى صفحات التاريخ.

إن دمج الأرشيف في السياق الحالي لا يعني محاولة لتجميد الماضي في قوالب جاهزة، بل هو فعل تحريضي، محاولة لاستفزاز تلك الحكايات التي لم تُروَ، ودفعها إلى سطح الوجود من جديد. بالنسبة لي، الأرشيف هو كيان حيّ، يتنفس بتلك الفجوات التي تركها الغياب، بتلك الكلمات التي لم تُكتب لأنها ببساطة لم تُسمع.

الذاكرة ليست فقط سجلًا للأحداث، بل هي مادة خام تنبض بما لم يُقال، بما لم يجد طريقه إلى صفحات التاريخ

إن التواصل بين الماضي والحاضر لا يُترجم فقط في البحث عن الجذور، بل في طرح أسئلة جديدة حول ما يتبقى، حول ما نختار استحضاره وما يُفرض علينا نسيانه. لا أرى الأرشيف كمسألة تتعلق بالتوثيق وحده، بل كفعل مقاومة ضد قمع الذاكرة. كمنظومة تتيح لنا أن نعيد ترتيب القطع المتناثرة في محاولة للعثور على معنى يتجاوز الحاضر والماضي معًا.

في عملي الفني، أسعى لتحويل الأرشيف إلى لغة بصرية تتحدى مسلّمات المعرفة الرسمية، وتتيح للتجربة الإنسانية أن تتحدث بعيدًا عن سلطة المؤسسات. إن ما أحاول القيام به هو إعادة تشكيل العلاقة بيننا وبين ما كنا نظن أننا فقدناه، ليس لاستعادته كما كان، بل لإعادة خلقه بطرق جديدة، تفتح المجال للتساؤل والتأمل وحتى الرفض.

إن تفعيل الأرشيف في اللحظة الراهنة هو دعوة صريحة لعدم الاستسلام للسرديات الكبرى، ومحاولة لإبقاء الذاكرة يقظة، حاضرة، متجددة. إنها دعوة لأن نعيد تشكيل ذواتنا عبر ما لم يُحكَ بعد، وما لا يزال ينتظر أن يُكتشف.

تدوين: في سياق الحروب المستمرة ومحاولات الاستعمار لمحو الهوية الفلسطينية عبر استهداف الذاكرة والثقافة، ما هو دور المعارض والأعمال الفنية في مواجهة هذا المحو الثقافي؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن بين الأولويات الوطنية في ظل الدم الفلسطيني النازف؟ هل يظل الفن قادرا على أداء دوره الفاعل في هذه الظروف؟

الجعبري: إن محاولات الاستعمار لمحو الهوية الفلسطينية لا تستهدف الأرض وحدها، بل تستهدف الذاكرة نفسها، ذلك النسيج الخفي الذي يحملنا عبر الأزمنة ويمنحنا القدرة على إعادة تعريف ذواتنا رغم كل محاولات الطمس. في هذا السياق، لا تأتي المعارض الفنية كأحداث معزولة أو مجرد تجارب جمالية، بل هي مساحات مقاومة تُعيد للذاكرة حقها في أن تكون، في أن تنطق خارج سياقات القمع والسيطرة.

المعارض والأعمال الفنية هي محاولات لإعادة تشكيل الحكاية التي لم يُرد لها أن تُحكى. إنها تشبه الشظايا التي تعيد تجميع نفسها كلما انكسرت، متجاوزة بذلك المفهوم التقليدي للذاكرة كشيء متماسك أو مكتمل. الذاكرة هنا ليست وثيقة تُحفظ، بل صوتٌ حيّ يُقال بصور وأصوات وألوان تتحدى فكرة الصمت ذاته.

ولكن يبقى السؤال الأعمق: كيف يمكن للفن أن يؤدي دوره الفاعل في زمن يُنزف فيه الدم، وتُفتت فيه الهوية إلى أشلاء متفرقة؟ كيف يمكن للفن أن يكون أكثر من مجرد محاولة لتجميل المأساة أو تصوير الألم؟

أرى أن الفن في هذه اللحظة الحرجة لا يملك رفاهية الانفصال عن الجرح، بل عليه أن يكون مرآة تعكس ذلك النزيف، وتعيد توجيهنا نحو ما يعنيه أن نبقى على قيد الحياة بالرغم من كل هذا الخراب. لكن المقاومة الفنية لا يجب أن تُختزل في توثيق الألم وحده؛ إنها تتجاوز ذلك لتكون أداةً لإعادة تشكيل المعنى، لبناء لغة جديدة تُحدث تلك القطيعة مع السرديات المفروضة، وتفتح المجال لمساحات تعبير لا تخضع لمنطق القوة.

التوازن بين الأولويات الوطنية والفعل الفني لا يعني التضحية بإحدى الجانبين لصالح الآخر، بل هو محاولة دائمة لإعادة صياغة علاقتنا بما نعيشه وما نحمله من ذاكرتنا الجمعية. إنه جهد مستمر لتحويل الذاكرة من حالة دفاعية إلى حالة إبداعية، تُعيد إنتاج نفسها بعيدًا عن هيمنة المُستعمِر، وبعيدًا عن الانحصار في نماذج جاهزة أو آمنة.

المقاومة الفنية لا يجب أن تُختزل في توثيق الألم وحده؛ إنها تتجاوز ذلك لتكون أداةً لإعادة تشكيل المعنى

الفن يبقى قادرًا على أداء دوره الفاعل ما دام لا يخشى مواجهة الفراغ، وما دام يسعى باستمرار لإعادة اكتشاف نفسه ضمن كل هذا الخراب. إنه ذلك الصوت الذي يصر على أن يتكلم رغم كل محاولات الإخراس، وذاك الأثر الذي يحاول أن يزرع نفسه من جديد، حتى وإن كان في أكثر الترب قسوةً.

تدوين: كيف يمكن للفلسطيني توسيع إدراكه حول الحروب وأهدافها، بما يتجاوز المفهوم التقليدي للحرب؟ وكيف يمكنه التفاعل مع كل المساحات والأماكن التي تعتبر جزءا من الهوية الفلسطينية في ظل استهدافها من قبل الاحتلال؟ وكيف يمكن تخطي الرؤية التي تضع الفن والثقافة في خانة الرفاهية في ظل الحروب؟

الجعبري: إن تجاوز المفهوم التقليدي للحرب لا يعني فقط أن ننظر إلى ما يحدث من قتل وتهجير ودمار، بل أن نفهم الآليات الأكثر خفاءً التي تعمل على تفكيك الذاكرة، وتفريغ الأرض من معناها، وتحويل الثقافة إلى مجرد طقوس فارغة من سياقاتها الحقيقية. إن إدراك الحرب يتطلب منا أن ننظر إليها كعملية متواصلة، تتغلغل في كل تفاصيل الحياة اليومية، وتحاول إعادة تشكيل علاقتنا بمفاهيم الانتماء والهوية والمقاومة.

في ظل هذا الاستهداف الممنهج، تصبح كل مساحة وأثر وكل تفصيلة صغيرة جزءًا من معركة الوجود، لا بمعنى التمسك بالماضي كمجرد ذكرى مجمدة، بل بمحاولة استعادة علاقتنا الحية بالأماكن، بالأرض، بالأشياء التي تحمل ذاكرتنا وتعيد بناء سردياتنا بعيدًا عن تشويه المستعمر.

إن التفاعل مع هذه المساحات المهددة يتطلب منا أن ننزع عن ذواتنا تلك الرؤية التقليدية التي ترى في الفن والثقافة مجرد رفاهية تُمارس حين تهدأ الحروب. بالعكس، إننا هنا أمام ضرورة تحويل الفن إلى أداة لمساءلة الواقع، ليس فقط كوسيلة لتجميل الخراب، بل كفعل لاستنطاق الصمت، كوسيلة لكشف ما يحاول الاحتلال دفنه.

الفن ليس زينة تُضاف إلى الوجود، بل هو وسيلة لاستعادة الحق في أن نروي قصتنا بعيدًا عن قيود المحو والإقصاء. إنه محاولة دائمة لتوسيع إدراكنا للعالم من حولنا، لفهم أن الحرب لا تقتصر على الرصاص والجدران، بل تشمل تلك المحاولات المستمرة لإعادة تشكيل وعينا، لفرض سرديات مشوهة تحاول أن تجعلنا ننظر إلى ذاتنا كأشياء مكسورة لا يمكن إصلاحها.

تخطي هذه الرؤية يتطلب منا أن نعيد تعريف علاقتنا بالفن والثقافة كفعلٍ من أفعال المقاومة العميقة، تلك المقاومة التي تنبثق من إعادة بناء المعنى، من تحويل ما يُراد له أن يكون ذكرى منسية إلى مادة متجددة تتحدى الانكسار. إن الفن في هذه اللحظة ليس مجرد أداة للنجاة، بل هو فعل وجود بحد ذاته، فعل يُصر على أن يستمر رغم كل شيء.

تدوين: إنتاج الفن في ظل الحروب قد يحمل بعدا أخلاقيا ومجتمعيا. هل تعتقد أن على الفنانين الاستمرار في إنتاج أعمال فنية في هذا التوقيت أم أنه من الأفضل التوقف لحين تهيئة ظروف أفضل؟ وهل واجهت مثل هذا التساؤل الشخصي أثناء تحضير أعمالك الفنية مؤخرًا؟

الجعبري: إن إنتاج الفن في ظل الحروب ليس خيارًا يسهل اتخاذه، فهو يتجاوز كونه مسألة إبداعية بحتة ليصبح فعلًا أخلاقيًا وإنسانيًا بامتياز. في الأوقات التي تتحول فيها الحياة إلى معركة مستمرة من أجل البقاء، يصبح السؤال حول جدوى الفن إشكالية مؤرقة؛ هل يجب أن نستمر في العمل الفني بينما تتهاوى البيوت وتُمحى الأسماء؟ أم أن الاستمرار نفسه هو نوع من الرفاهية لا نملك ترف ممارسته؟

لكن، ما الذي يعنيه التوقف؟ وهل يمكن للفنان أن يوقف إنتاجه الفني في مواجهة الخراب دون أن يتحول هو ذاته إلى أثر مهزوم؟ أرى أن الفن في مثل هذه اللحظات لا يجب أن يُقيّم بمعايير الفعالية أو النجاح المباشر، بل بما يحمله من قدرة على الصمود، على صياغة معنى جديد يُقاوم المحو ويعيد تكوين ما حاول العنف تحطيمه.

الاستمرار في إنتاج الفن في زمن الحرب ليس خيارًا بين الفعل واللافعل، بل هو فعل بحد ذاته

لقد واجهت هذا التساؤل الشخصي مرات عديدة أثناء تحضير أعمالي الفنية مؤخرًا. كان السؤال يتكرر: هل من المجدي أن أواصل العمل على مشاريع تبدو وكأنها محاولات بائسة للتجميل وسط عالم ينهار؟ لكنني أدركت مع الوقت أن العمل الفني ليس مجرد رد فعل، بل هو محاولة لتجاوز حدود هذا الرد. هو مساحة لتحدي السرديات المفروضة علينا، وكشف تلك الفجوات التي يحاول العنف إخفاءها.

إن الاستمرار في إنتاج الفن في زمن الحرب ليس خيارًا بين الفعل واللافعل، بل هو فعل بحد ذاته. إنه رفض للقبول بالصمت كقدر، وتمسكٌ بقدرة الإنسان على التعبير حتى في أكثر الأوقات حلكة. ربما لا يمكن للفن أن يوقف الحرب، لكنه يستطيع أن يبقي على تلك المساحات التي لا تُحتل، تلك الأفكار التي لا يستطيع الرصاص أن يخترقها.

بالنسبة لي، إن إنتاج الفن في مثل هذه الظروف هو دعوة لمساءلة كل ما نعتقد أننا نعرفه، لإعادة بناء معنى جديد لا ينبع من القوة، بل من ذلك الإصرار الهادئ على أن نكون، حتى حين يحاول العالم كله أن يفرض علينا الاختفاء.

تدوين: تاريخيا، تتبدل الفنون وتتطور وفقا للمرحلة الزمنية. في ضوء الإبادة التي تعرض لها قطاع غزة، هل ترى أن الفن الفلسطيني قد شهد نمطًا جديدًا في التعبير عن الواقع بعد تلك الأحداث، أم أنه لا يزال يحتفظ بثيمات أساسية وهوية ثابتة؟

الجعبري: إن الفن الفلسطيني، كأي فن ينبثق من واقع يتأرجح بين الحياة والمحو، لم يكن يومًا حبيس ثيمات ثابتة أو هوية جامدة. لطالما كان هذا الفن في حالة مستمرة من التغير، لكنه لم يفقد جوهره الذي ينبع من صراع طويل ومُرّ مع الاستعمار، ومحاولات مستمرة لإعادة تعريف الهوية والانتماء.

في ضوء الإبادة الأخيرة التي تعرض لها قطاع غزة، لا يمكن القول إن الفن الفلسطيني خرج منها كما كان. لقد شهدت هذه اللحظة تحولًا نوعيًا في طرق التعبير وآليات المعالجة الفنية. لم يعد الأمر يتعلق بتوثيق الألم أو تصوير الدمار فقط، بل بتفكيك تلك الروايات التي يحاول الاستعمار فرضها، وبناء سرديات مضادة تعيد إنتاج الذاكرة بعيدًا عن قوالب الضحية التقليدية.

لكن في الوقت نفسه، يمكن القول إن الفن الفلسطيني لم يتخلَ عن ثيماته الأساسية، لأنه بطبيعته يحمل جوهر الصراع على الوجود. الهوية لا تُحفظ كوثيقة ثابتة، بل هي في حالة مستمرة من التفاعل مع الظروف المتغيرة. هذا التفاعل لا يعني التخلي عن الهوية، بل إعادة تعريفها بطرق أكثر مرونة وقوة.

الفن الفلسطيني لم يفقد هويته، بل أعاد تشكيلها بطرق تتلاءم مع واقع لا يتوقف عن محاولة محوه. إنها مقاومة مستمرة، ليست فقط فيما يُقال، بل في كيفية القول ذاته، في الأدوات المستخدمة، في المساحات التي تُفتح رغم كل الأبواب المغلقة.

تدوين: في معرض "عن مدن تمحى ولا تموت" شاركت في عمل حمل عنوان "ما لا يرى"، واستخدمت فيه خيوطا وألوان أكريليك للتعبير عن الأبعاد الخفية وراء الإبادة الفيزيائية في مدينة الخليل، كيف تقيم تأثير هذا العمل في نقل الرسالة التي سعيت لإيصالها؟

الجعبري: في عملي "ما لا يُرى"، كان الهدف ليس فقط عرض الخرائط كوسيلة تقنية لفهم المكان، بل كنافذة تسلط الضوء على ذلك التوتر العميق بين ما تفرضه أدوات السيطرة وبين حقيقة الوجود. الخرائط ليست مجرد صور تُعلق على الجدران، بل هي امتداد لرؤية استعمارية تختزل الأرض إلى أشكال مرسومة من الأعلى، خالية من الحياة، ومنزوعة من ذاكرتها.

إن النظر من الأعلى، تلك "العين الإلهية" التي يدّعي المستعمر امتلاكها، هو محاولة لفرض سيطرة مطلقة، لتقسيم ما لا يُقسم، وتجزئة ما لا يمكن تفكيكه. إنها رؤية تتعالى على الأرض، تتجاهل تفاصيلها، وتفصل المكان عن جذوره الإنسانية، لتصبح الأرض مجرد مساحات صامتة تنتظر من يملؤها بالمعنى من جديد.

من هنا، جاء العمل كمحاولة لتفكيك تلك الرؤية وتحديها. ليس من خلال تقديم بديل نهائي، بل عبر الكشف عن ذلك الصدع الذي تخلّفه أدوات السيطرة خلفها. الخرائط ليست حقيقة، بل وهم يُراد له أن يصبح واقعًا. إنها محاولة دائمة لتقليص علاقة الإنسان بأرضه، لحصرها في خطوط جامدة لا تعترف بالذاكرة ولا بالتجربة الحية.

ما حاولت إيصاله هو أن الخرائط، رغم ادعائها الموضوعية، ليست سوى رواية مفروضة، منظومة تستبدل العلاقة الطبيعية مع المكان بتصنيفات وقوانين ومراقبة مستمرة. إنها تسعى لتجميد الزمن، لتبديد الحكايات التي لا يمكن رسمها على الورق، لطمس الأصوات التي تعيد للمكان روحه.

لكن، في نفس الوقت، إن محاولة مقاومة هذه الرؤية لا تكمن في محو الخرائط، بل في مساءلتها، في إعادة ترتيبها بطريقة تكشف عن ذلك الخلل الذي لا يستطيع المستعمر رؤيته. إن الفن هنا هو محاولة لفتح ثغرات في تلك الجدران المصطنعة، لطرح أسئلة حول من يملك الحق في تعريف المكان، ومن يستطيع أن يتحدث باسمه.

إن تأثير هذا العمل يكمن في تحريضه على التفكير، في مواجهته لتلك الأشكال التي تبدو للوهلة الأولى محايدة، لكنها في الحقيقة أدوات للهيمنة. الفن هنا ليس مجرد فعل بصري، بل هو محاولة لإعادة رسم العلاقة بيننا وبين ما يحاولون انتزاعه منا. إنه دعوة لتجاوز تلك الرؤية المفروضة، والبحث عن جوهر الأرض فيما يتجاوز حدود الخرائط، وفيما يتجاوز محاولات المحو المستمرة.

تدوين: مشروع "مساحات" أُقيم في مدينة تُعتبر غير بارزة في فلسطين من حيث إنتاج الفنون أو كونها بيئة حاضنة لمثل هذه المشاريع، رغم تاريخها الحرفي والفني المهمش. كيف تقيم دورك في تسليط الضوء على هذه المدينة التي لم تحظَ بالاهتمام نفسه في الوعي الجمعي الفلسطيني مقارنةً بمدن أخرى مثل رام الله وبيت لحم وبعض مدن الداخل المحتل؟

الجعبري: إن مشروع "مساحات" كان بمثابة دعوة لاكتشاف ما يظل مخفيًا على هامش الوعي الجمعي، في مدينة أُريد لها أن تكون مجرد نقطة في خارطة واسعة يرسمها الآخرون. الخليل، التي طالما عُرفت بتاريخها الحرفي والفني العريق، وجدت نفسها مهمّشة ليس فقط بسبب الاستعمار الذي يبتلع معالمها ويحاصرها، بل أيضًا نتيجة لرؤية مركزية تحصر الثقافة الفلسطينية في مدن معينة مثل رام الله تلك المدن التي ارتبطت بشكل أكبر بالنشاط الثقافي الممول والمُعترف به.

ما حاولت فعله في هذا المشروع هو إعادة تشكيل العلاقة بين المكان والفن، ليس كفعل منفصل عن سياقه الاجتماعي والتاريخي، بل كوسيلة للكشف عن تلك الطبقات العميقة التي طُمست تحت غبار الاستعمار وتهميش المؤسسات الثقافية.

لقد سعيت لتحدي فكرة أن الخليل مدينة لا تحتضن الفن، لأن ذلك الادعاء نفسه هو جزء من سياسة طويلة لتفكيك علاقتها بجذورها الحية. فالمدينة التي تمتلك تاريخًا طويلًا في الحرف والفنون، والتي كانت مركزًا للحياة الثقافية والاقتصادية، لا يمكن النظر إليها كمكان خامل أو هامشي.

دوري هنا لم يكن فقط في تسليط الضوء على الخليل، بل في إعادة طرح السؤال حول مركزية الثقافة نفسها، وحول كيفية توزيع الموارد الفنية بشكل يخلق نوعًا من التوازن لا يقوم على إقصاء جزء من الجغرافيا الفلسطينية. إن محاولة إعادة تشكيل الوعي حول المدينة لم تكن مجرد استعادة لذاكرة مفقودة، بل هي محاولة لإعادة بناء علاقة مع المكان تتجاوز تلك الرؤية الاستعمارية التي تحاول تجميد الزمان والمكان في حدود ضيقة.

في مشروع "مساحات"، لم يكن الهدف تقديم الخليل كمدينة تكتفي بالبقاء، بل ككيان يتحدى مفهوم التهميش ذاته، كمدينة قادرة على إعادة تشكيل دورها الفني والثقافي من خلال الفعل نفسه، من خلال التفاعل المباشر مع المكان وتاريخه وأهله.

إن تسليط الضوء على الخليل يعني فتح ذلك الأفق المسدود الذي حاولت سياسات التهميش والاستعمار فرضه. وهو أيضًا دعوة للتفكير في كيفية إعادة صياغة علاقتنا مع المكان، بعيدًا عن المركزية المفروضة، وبعيدًا عن المفاهيم الجاهزة التي يُراد لنا أن نقبلها كحقائق نهائية.

تدوين: لماذا برأيك تتركز الحركة الثقافية في فلسطين في مناطق معينة، بينما تُهمش مناطق أخرى؟ وما هي العوامل التي تسهم في هذه الظاهرة؟

الجعبري: إن تركز الحركة الثقافية في مناطق معينة داخل فلسطين ليس مجرد نتيجة عفوية، بل هو نتاج لسياسات طويلة من التهميش والتقسيم التي ساهمت في تكوين خارطة غير متوازنة للتعبير الثقافي والفني. حين يُراد لفلسطين أن تُختزل في صورة أحادية، يتم ترسيخ مفاهيم مركزية الثقافة في مدن محددة مثل رام الله، التي أصبحت نموذجًا لمركزية ثقافية مُعترف بها من قبل المؤسسات الدولية والتمويلات الأجنبية، التي غالبًا ما تنظر إلى فلسطين من خلال نافذة محدودة تخدم أهدافها ومصالحها.

الرؤية الثقافية الفلسطينية نفسها أصبحت تتشكل وفقًا لمفاهيم جديدة تحاول مواكبة إيقاع العالم، متناسية أحيانًا علاقتها العميقة بالأرض والمجتمعات المحلية التي لا تزال تقاوم كل محاولات النسيان

إن هذه المركزية الثقافية ترتبط بشكل وثيق بنماذج التنمية المُخطط لها وفق أجندات خارجية، حيث يتم استثمار الموارد وتوجيهها نحو مدن بعينها دون الأخرى، مما يؤدي إلى تهميش الأماكن التي لا تتماشى مع تلك النماذج. كما أن الارتباط بالمؤسسات الكبرى، وسعي الفنانين للحصول على اعتراف دولي أو تمويل خارجي، خلق فجوة بين تلك المدن "المعترف بها" ثقافيًا، وبين المدن الأخرى التي بقيت على الهامش.

لكن التهميش لا يأتي فقط من الخارج، بل أيضًا من الداخل. فالرؤية الثقافية الفلسطينية نفسها أصبحت تتشكل وفقًا لمفاهيم جديدة تحاول مواكبة إيقاع العالم، متناسية أحيانًا علاقتها العميقة بالأرض والمجتمعات المحلية التي لا تزال تقاوم كل محاولات النسيان. إن الانجذاب إلى الفضاءات المركزية، ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل أيضًا لرغبة الكثير من الفنانين في إثبات حضورهم في مشهد عالمي يتطلب شروطًا معينة للظهور.

هناك أيضًا عوامل تاريخية متجذرة في هذا التهميش، حيث تعرّضت مدن مثل الخليل، أو حتى القرى والبلدات، لسياسات محو ممنهجة من قبل الاحتلال، مما جعلها مناطق يصعب فيها إنشاء بنى ثقافية مستقلة ومستقرة.

إن هذه ليست فقط مشكلة في توزيع الموارد أو الاعتراف، بل هي جزء من عملية أكبر تستهدف إعادة تشكيل الهوية الفلسطينية وفقًا لرؤية ضيقة تخدم مصالح معينة. إن مواجهة هذا التهميش يتطلب إعادة التفكير في مفهوم الثقافة نفسه، وفي كيفية إعادة توزيع السرديات بشكل يسمح بتعدد الأصوات، وعدم اختزال الفن الفلسطيني في نماذج مُعترف بها فقط، بل في فتح المجال للأماكن التي بقيت أصواتها هامسة وسط ضجيج المركزية المفروضة.

تدوين: كيف تساهم عملية إحياء الموروث الثقافي في تلك المناطق في التأثير على الذاكرة والهوية الفلسطينية؟

الجعبري: إحياء الموروث الثقافي ليس مجرد استعادة لتفاصيل الماضي، بل هو استدعاء لتلك الأصوات المخنوقة التي حاول الاستعمار محوها، وإعادة خلق علاقة حية بين الإنسان وأرضه. في كل أغنية تُغنّى، أو حرفة تُعاد ممارستها، هناك محاولة لا لتجميد الذاكرة، بل لتحويلها إلى طاقة متمردة على الزمن والنسيان.

إنه فعل مقاومة يتجاوز الأرشيفات والرموز ليعيد بناء الهوية كحالة متجددة، لا تُختزل فيما يُعترف به رسميًا، بل في كل ما يظل حيًّا رغم التهميش. هوية تتحدى مركزية الثقافة بقدرتها على أن تكون نابعة من الهامش، نابضة بما يتجاوز حدود المحو والمحو ذاته.

تدوين: مدينة الخليل تعتبر مدينة صناعية، ويتميز سكانها بالقرب من أنماط الحياة الاستهلاكية، مما يفرض عقليات تجارية بحتة. ما هي التحديات التي يواجهها الفنان عند العمل في مدينة تبتعد نوعًا ما عن البيئة الفنية والثقافية؟

الجعبري: الحديث عن الخليل كمدينة صناعية يرتبط غالبًا بصورة نمطية تُقدَّم على أنها حقيقة ثابتة، بينما الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك. ما يُنظر إليه كعقلية تجارية بحتة، ليس سوى نتاج لتاريخ طويل من العزل والتهميش الذي فرضه الاستعمار وأدواته. المدينة التي كانت يومًا حاضنة للمعرفة، وحرفها اليدوية، وإرثها الصوفي العريق، لم تُختزل في نمط الحياة الاستهلاكي إلا نتيجةً لسياسات ممنهجة سعت إلى فصلها عن محيطها الثقافي.

إن محاولة الفنان العمل في مدينة مثل الخليل يعني الدخول في مواجهة غير متكافئة مع منظومة تحاول إعادة تشكيل المكان وفقًا لمعايير السوق والمنفعة. هنا، لا يصبح الفن مجرد تعبير عن الذات أو إعادة إنتاج للذاكرة، بل وسيلة لإعادة ربط المكان بأصالته، وتحدي تلك الصورة المفروضة عليه كمساحة تجارية باردة.

المسألة لا تتعلق فقط بغياب البنية التحتية الفنية أو الدعم المؤسسي، بل بتلك الرؤية التي تحاول حصر الثقافة في أماكن معينة، وتقديمها كمنتج قابل للتسويق. إن العمل الفني في الخليل هو محاولة لاستعادة مساحة مشروعة وسط ضجيج يحاول إخراس كل ما يتجاوز منطق السوق.

 محاولة الفنان العمل في مدينة مثل الخليل يعني الدخول في مواجهة غير متكافئة مع منظومة تحاول إعادة تشكيل المكان وفقًا لمعايير السوق والمنفعة

رغم كل تلك التحديات، يبقى للفنان دور حيوي، ليس لأنه يملك حلًا جاهزًا، بل لأنه يطرح أسئلة لا ترغب هذه المنظومة أن تُطرح. أسئلة تتعلق بمعنى الوجود في مكان يُراد له أن يختزل في أرقام وأرباح، وفي كيفية تحويل هذا الهامش الذي فُرض على المدينة إلى مساحة تعبير جديدة، تعيد الاعتبار للذاكرة الحية بدلًا من الذاكرة المعلّبة.

إن دور الفنان هنا لا يتعلق فقط بالصمود، بل في استعادة قدرة المكان على أن يقول شيئًا مختلفًا، أن يُعيد تشكيل علاقته بذاته بعيدًا عن ذلك الإطار الذي يُراد فرضه عليه.

تدوين: أنت دائمًا ما تدمج في أعمالك بين البحث النظري والممارسة الفنية. هل تعتقد أن الوعي الفلسطيني قادر على تفكيك الأبعاد البحثية في هذه الأعمال والتفاعل معها كمادة معرفية، أم أن الفن في نظره يقتصر على رؤية عمل فني ذو هدف واضح ورسالة بسيطة، مما يجعله يُنظر إليه فقط كأداة ترفيهية؟

الجعبري: إن الدمج بين البحث النظري والممارسة الفنية ينبع من الحاجة إلى استيعاب كل الأبعاد المحيطة، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى الأشياء من زاوية واحدة أو بشكل مجتزأ. حين أعمل على مشروع فني، لا أسعى لتقديم إجابات نهائية أو رؤى مكتملة، بل أحاول الوصول إلى ما هو أبعد من السطح، إلى ما يتشكل بين الحكايات المهملة والذاكرة المنسية وتفاصيل الحياة اليومية.

التجربة في الخليل، على سبيل المثال، لم تكن مجرد دراسة نظرية أو مجرد ممارسة فنية. بل كانت محاولة لفهم كيف تتشكل المدينة، وكيف تُعاد صياغتها من خلال القوة، والسيطرة، والمحو المستمر. هذه العملية تطلبت بحثًا عميقًا ليس فقط في الخرائط أو الوثائق، بل في العلاقات نفسها، في تلك الروابط التي تربط المكان بالناس وتجعل من كل شيء جزءًا من ذاكرة أكبر.

حين يُعرض العمل الفني أمام الناس، لا أقدمه كحقيقة نهائية أو كرسالة مكتملة، بل كمساحة مفتوحة للتأويل والتفكير. لا أفرض على المشاهدين فهمًا محددًا لما أريد قوله، بل أترك لهم حرية استنتاج ما يعنيه العمل بالنسبة لهم، من خلال علاقتهم الشخصية بالمكان والذاكرة.

من تجربتي، وجدت أن الناس غالبًا ما يفهمون العمل بشكل أعمق مما يُفترض، لأنهم يرون فيه شيئًا من حياتهم وتجاربهم. ربما لا يتفاعلون معه كمادة معرفية أكاديمية، لكنهم يتفاعلون معه كحالة حيّة تمسّهم مباشرة، كدعوة للتفكير فيما وراء الظاهر.

الفن بالنسبة لي ليس مجرد إنتاج بصري أو نظري، بل هو حالة من البحث المستمر، ومن إعادة ترتيب الأسئلة أكثر من تقديم الأجوبة. كل عمل فني هو محاولة لتجسيد تلك العلاقة بين الأرض، والناس، والذاكرة، بعيدًا عن أي فرض خارجي أو تأطير جاهز.