الإثنين  05 أيار 2025

عين التينة ومحاولة الدخول إلى عقل الروائي

2025-05-05 01:09:35 AM
عين التينة ومحاولة الدخول إلى عقل الروائي

تدوين-فراس حج محمد

تكشف هذه التجربة التي سأتحدّث عنها فيما يأتي، عن أهميّة النظر في العمل الأدبي مرّات عديدة، وتفعيل بعض تقنيات "الإنقاص البلاغي" كما أتصوّرها، ليصبح العمل أكثر فنيّة، وتكمن أهمّيّة هذه المناقشة في أنّها تفصح عن آليات العقل الإبداعي في منظور العقل النقدي، وحوارهما معاً للكشف عمّا يمكن أن يفعلاه معاً للوصول إلى عملٍ أدبيّ، قد تخفّف من حولته الزائدة، هذه الحمولة ذات الأثر السلبي عندما يصبح العمل مطبوعاً، وتخلّص من سيطرة كاتبه عليه، ليصنع هو نفسه سلطته الإبداعيّة، لتولد سلطة أخرى، هي سلطة القراءة أو سلطة القارئ في مواجهة سلطة النصّ.

حدث هذا الأمرُ على النحو الآتي:

بتاريخ 21 حزيران 2024 أرسل إليّ الصديق الروائي صافي صافي* رسالة عبر الفيسبوك جاء فيها: "هل لديك وقت لقراءة مخطوطة روايتي؟"، وبكل سرور وفرح رحّبت بالفكرة، لأنّ صافي صديق عزيز، ولأنّني أثق بما يكتب، فقد سبق أن قرأت له رواية "تايه"، وكتبت فيها مقالاً (الرواية من منظور علم الاجتماع: رواية "تايه" نموذجاً، صحيفة الأيّام الفلسطينيّة، 29/10/2019)، وناقشناها في دار الفاروق للثقافة والنشر في مدينة نابلس بحضور صاحبها. لقد كانت رواية شائقة ورائقة، تجعل من تحمّس الناقد الفلسطيني رائد الحوّاري لعالم صافي الروائي أمراً معقولاً ومقنعاً جداً، فقد قرأ الحوّاري روايات صافي: اليسيرة، وشهاب، والكوربة، والباطن، وزرعين، وتايه"، وجعل تلك القراءات جزءاً من كتابه "المكان والتراث"، وقد صدر عام 2022 عن دار الفاروق في نابلس.

لقد أعجبتني رواية "عين التينة" في إطارها الفنّيّ العامّ، وفي تقنيّاتها السرديّة وفي لغتها الروائيّة،  وكتبت إضاءة حولها بعد الإعلان عن صدورها (نشرت في عدّة مواقع إلكترونيّة)، كما سبق وأشرت إليها إيجابيّاً- وهي بعدُ مخطوطة- في مقالة سابقة بعنوان "الخطايا الأدبيّة والعقاب النقدي" وأنا أناقش "اللغة الاجتماعية"، (مجلة شرمولا، عدد 23، صيف 2024) عدا أنّ الاقتراح السردي فيها جميل، ولغتها بديعة، ولغة الحبّ تحديدا عالية وأرستقراطية، وهي مُهمّة ولطيفة كذلك تتّخذ من الطبيعة الفلسطينيّة فضاء روائيّاً مفتوحاً وسائلاً ومترابطاً، عدا ما فيها من ربط جغرافي مع سوريا، وتداخل التاريخين السوري والفلسطيني ما يؤشر إلى وحدة بلاد الشام، ويؤكّد وحدة "سوريا الكبرى". هذه الفكرة التي تبدو أثيرة لكلّ الأدباء ذوي التوجّه اليساري، متأثّرين بأفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسّسه أنطون سعادة.

أنفقت وقتاً ممتعاً في قراءة المخطوطة، فالسرد شائق واللغة روائيّة واقعيّة، وأيقنت أنّ صافي لم يخيّب ظنّي أو ظنّ القرّاء في بناء رواية بمعمار فنّي مختلف وفكرة لافتة، وبحِيَل سرديّة وتقنيّات روائيّة مناسبة للحدث، وأهمّ ما يمكن الاطمئنان إليه أنّها لا تفتقد المنطقيّة والإقناع اللازمين لعبور أيّة رواية إلى أفق قارئ يبحث عن المتعة القصصيّة السرديّة. فالرواية- عامّة- تبني هذا الجسر الذاتي بين القارئ وبين النصّ، فالقارئ العادي النهم الغارق بين أحضان الروايات لا يبحث عن المعلومات بالدرجة الأولى، إنّما يبحث عن المتعة، وإشباع الذائقة الفنّيّة لديه، لذلك تجده يحب الرواية الرومانسية، والواقعيّة السحريّة الفنتازيّة، ورواية الخيال العلمي، لكنّه أيضاً قارئ لا يريد أن يسلّم بهذا إن وجد أنّ المنطق العامّ يستتفهه أو يحطّ من شأن قدراته العقليّة، ولا يحترم ذكاءه، أو يمرّر له معلومات خاطئة، فالقارئ يعرف كيف يفرّق بين ما هو روائي لازم لصنعة الرواية، وبين ما هو ضروري للمعرفة العلميّة والعقليّة المجرّدة، فكأنّهما منطقتان منفصلتان غير أنّهما في واقع الأمر دائرة داخل أخرى، تصنعان دائرة روائيّة بهذه الفنّيّة العبقريّة التي تصنعها موهبة الروائي الخبير.

رواية "عين التينة" فيها كلّ أركان هذه الصنعة التي تحترم عقل القارئ العلمي، والمنطق السردي المقنع، إلّا أنّ فيها موضعين يبعدان الرواية عن عالمها الروائي، وقد ناقشتهما مع الروائي بعد الانتهاء من القراءة عندما عاد إليّ بالسؤال عن الرواية ويريد أن يسمع منّي رأياً حولها، فسألته: وماذا تريد أن تسمع؛ روائي متمرّس مثلك ماذا سأقول له؟ ربّما فسّر صمتي بأنّ الرواية لم تعجبني. على العكس تماما لقد أعجبتني وقرأتها بشغف، ولولا هذا الإعجاب لم أكن لأقرأ المخطوطة على الحاسوب، وإنّما صمتي عن الرجوع إلى الروائي بالحديث حولها كان لهدفين، الأوّل لأعطي نفسي فرصة هدوء بعد القراءة، والآخر لأرى مدى اهتمام الروائي برأيي، وإلى أيّ حدّ يمكنه أنْ يستفيد من ملحوظاتي النقديّة؛ لأكشف عن تلك المنطقة المشتركة بين عقل المبدع وعقل الناقد.

في المحادثة الثانية حول الرواية كان صافي صافي يبحث عن مدى تحقّق هذه الفكرة القابعة في ذهنه بوصفه المؤلّف: "ما يهمّني في الموضوع، هو هذه العلاقة المتّصلة المتقطّعة بين الداخل والخارج"، ويشير بذلك إلى العلاقة بين السارد المقيم في الوطن منذ أربعين عاماً، وبين حنان القادمة من خارج فلسطين لتزور بيسان. على ما يبدو هذه هي الفكرة الأساسيّة للرواية، وربّما هي فكرة سابقة على البناء الروائي عاشت قبل الورق في ذهن الروائي، وظهر تأثيرها في رسم العلاقة الملتبسة بينهما؛ التائهة بين الصداقة والزمالة والحبّ، وأشار إليها خلال المحادثة مستفسراً عن مدى وضوحها في الرواية: "ما يهمّني أنّ العلاقة لا يمكن أن تكون سويّة طبيعيّة تحت الاحتلال، فهي مضطربة، فيها مشاعر أكثر وفعل أقل". لهذا تصبح الشخصيّتان الروائيّتان مجسدتين للفكرة، ما جعل حضورهما الإنساني على مستوى النصّ باهتاً، فليس لهما تاريخ وسجل عيش حافل، إنّما جاءا ليكونا استعارتين للدلالة على هذه الفكرة، فكرة الداخل والخارج والعلاقة بينهما، وأظنّ أنّ الرواية كانت قادرة على أن تؤدّي مَهمّتها بشكل واضح، من خلال السرد نفسه، ومن خلال الأحداث وتطوّرها، ووصولها إلى "اللا طبيعيّة" في المشهد الأخير من الرواية، ومع أنّه غير طبيعي إلّا أنّه مُهمّ، لأنّه يعطي الفكرة تجسيدها الفنّي، "فلا يمكن أن تكون العلاقة طبيعيّة تحت الاحتلال".

أخبرته عمّا وجدته في الرواية من هنات لغويّة، طالباً منه تعديلها، وأن يعرضها على مدقّق لغوي، على الرغم من أنّني- حبّاً لصافي، ولأنّ المستشار مؤتمن- أشرت في ملفّ مخطوطة الـ (WORD) إلى ملاحظاتي اللغويّة كلّها، بخاصيّة تتبُّع الملحوظات التي يتيحها هذا البرنامج، بحيث تظهر بلون مغاير على يسار الملفّ، لم يحفل الروائي كثيراً بالملاحظة اللغويّة، على الرغم من أنّ أهمّ ما في الأدب هو "الصحّة اللغويّة". تجاوز عن اللغة ليسألني هذا السؤال: "هل من ملحوظات جوهريّة في الرموز والمعاني؟ لأنّ هذا ما يهمّني أكثر"، ما يدلّل مرّة أخرى على حضور الفكرة في ذهن الروائي واهتمامه بها أكثر من اهتمامه بالعناصر الأخرى، وكأنّ الملحوظات اللغويّة، ليست جوهريّة. ماذا يتبقّى من الأدب إن ضحّى الأديب بالصواب اللغوي؟ إنّني أرى أنّ الالتزام بالصواب اللغوي والدقّة في الاستعمال، يساعدان الكاتب في أحيانٍ كثيرة على أن يكون "مقتصدا" في السرد، ليحقق عبر هذه اللغة المنضبطة شيئاً من تقنيات الإنقاص البلاغي، والاستعمالات اللغوية في القرآن الكريم أكبر شاهد على ذلك.

يرى صافي أنّ "التدقيق [اللغوي] لا ينتهي"، وهذا رأي صحيح إلى حدّ ما، ومع ذلك سيدقّق الرواية لغويّاً مرّة أخرى وأخرى، كما قال، وعلى الرغم من أنّ ملحوظاتي المائة على الرواية كان أكثرها لغويّاً إلّا أنّ صافي "لا يظنّ أنّ هناك الكثير من الأخطاء". على أيّة حال لقد صدرت الرواية وما زال فيها العديد من الأخطاء اللغويّة التي لا يحسن أن تكون موجودة، ولا أظنّه قد عرضها على مدقّق لغويٍّ بعد قراءتي لها، ولم يصحّح هو نفسه الأخطاء التي أبرزتها له في ملف المخطوطة، أو أنّ خللاً ما قد حدث، جعل النصّ غير المدقّق يفلت من بين يديه ليكون هو النصّ المطبوع، فهذا احتمال جائز، ومحرج، وقد حدث معي ما يشبهه مرّات عديدة، ما أوقعني في أزمة عدم ثقة واتهام من أصحاب تلك المخطوطات، وقد تحدثت عن ذلك غير مرّة، فلا داعي للوقوف عنده.

وغير الملحوظات اللغويّة أشرت إلى ملحوظات تخصّ بعض فصول الرواية، ومدى علاقتها بالحدث نفسه، وأهمّ تلك الملحوظات- غير اللغويّة- كانت ثلاثاً، الأولى: تتعلّق بفصل "اليعسوب" الذي احتل مساحة ثماني صفحات من النسخة المطبوعة (76- 83). يرد فيها معلومات علميّة تدلّ على شخصيّة الروائي القادمة من تخصّصه العلمي البحت، والثاني الحديث عن اللون الأزرق، وهو الفصل التالي له ويشغل من الرواية ست صفحات من صفحة (84- 89). لم أر في هذين الفصلين ما يشي بأنّهما يرتبطان مع الرواية ويدخلان في ذات المجرى من النهر نفسه المتدفّق سرديّاً، فلم أشعر أنّ فصل "اليعسوب" خاصّة ارتبط بالرواية عضويّاً، إذ لم يكن استعارة للمحتلّ مثلاً، وبدا غير مجدول فنّيّاً واستعاريّاً بالقضيّة الوطنيّة، كما يريد الروائي عندما سألني عن الرموز والمعاني.

إنّ عالم رواية "عين التينة" مكثّف ومحدّد المسار، يتّخذ خطّاً واحداً يسير إلى الأمام بالتوافق مع الرحلة المقترحة للوصول إلى بيسان وعين التينة، فالإسهاب في الحديث عن عالم الحشرات وتكاثرها كسر إيقاع السرد بمعلومات علميّة، فأخرج القارئ من جوّ الرحلة، وكأنّ الروائي انحرف فيه فجأة عن خطّ السير الجغرافي المتّصل المتتابع، وأخذه إلى شارع فرعيّ مليء بغرائبَ مختلفةٍ عن العالم الذي كان غارقاً فيه قبل نحو جملة من هذا الفصل.

صحيح أنّ الفنّ الروائي قادر على استيعاب تلك المعلومات لتعدّ إضافة نوعيّة معرفيّة علميّة في سياق روائي، كما أجابني صاحب الرواية، إلّا أنّ البناء الفنّي لرواية "عين التينة" كما وضّحته أعلاه، لا يحتمل ذلك. وصل الروائي إلى شبه قناعة عندما قال: "سأرجع إليهما مرّة أخرى، ولن أقع في دائرة التبرير، ربّما بحاجة لتخفيف هذين الفصلين. معك حقّ، كنت أنتظر أن يخبرني أحد الأصدقاء بذلك"، أظنّه قد تراجع، ولم يقتنع، فبقي الفصلان في الرواية! ولعلّه استشار صديقاً آخر فقدّم رأياً طمأنه بجودة هذين الفصلين روائيّاً، ولأنّ الكاتب- أيّ كاتب- يضنّ بالحذف، ولا يحبّذه غالباً، ظلّ الأمر على حاله، فالحذف في العادة يحتاج جرأة وشجاعة قد لا تتوفران لكثير من الكتّاب، من هنا يُفهم قول الكاتب آرثر كويلر كوتش مشجّعاً على الحذف "اقتل حبيباتك"! وقليلون هم من يتّبعون هذه النصيحة المؤلمة.

وأمّا الملاحظة الثالثة فكانت تختصّ بإيراد معلومات موثّقة من بعض المراجع والمصادر؛ كأنّه باحث أو مؤرّخ، فقد كان رأيي أنّه لا داعي لذكر مواقع استيفاء المعلومات الروائيّة، وألّا يحيل إلى مواقع نَشْر تلك المعلومات، فالروائي ليس باحثاً، وليس مطلوباً منه أن يلتزم بأدوات البحث العلمي. هنا أيضاً تدخل شخصيّة الروائي العلميّة بلا قصد، لتؤثّر في النصّ الإبداعي تأثيراً سلبياً، لأنّ أدوات الروائي غير أدوات الباحث مع أنّ الروائي يبحث وينقّب عن صحّة المعلومات، لتكون داعمة للنصّ وأبعاده المعرفيّة، كما أنّه لا يطلب من الروائي الكشف عن مصادره، لكنّه مطالب بصحّة ما يرد في نصّه من معلومات إن كانت تتعلّق بتاريخ أو جغرافيا أو أيّة معلومات علميّة أو طبيّة، لا سيّما إن كانت الرواية واقعيّة غير فنتازيّة، فلا يصحّ بأيّ حال من الأحوال أن يجعل الروائي من نفسه مجالاً للشكّ فيوثّق معلوماته، فالروائي يعمل بمنطق الإقناع لا بمنطق الإخضاع، ومن وجد العكس من القرّاء والنقّاد فعليه هو البيان لا على الروائي، لذلك أدرك تماماً أهمّيّة التأنّي والمراجعة للنصّ قبل النشر، بل وكتابة الرواية عدّة مرّات وتحريرها، وأتفهّم ما كان يقوم به بعض الروائيين حيث ينفقون وقتاً طويلاً في البحث عن المعلومات الخاصّة بموضوع الروايات التي ينوون كتابتها، ففي هذا احترام للذات أوّلاً وللقارئ ثانياً، وتحقيق لأخلاقيّة الكتابة التي تفترض المصداقيّة والمسؤوليّة لدى الكاتب ثالثاً.

وعليه، فإنّ الروائي من وجهة نظري صاحب سلطة معرفيّة أعلى من الباحث، على الرغم من أنّ روايته لا تُستخدم مرجعاً علميّاً ولا تاريخيّاً للباحثين، بل لأنّها تنطلق من فكرة أخلاقيّة مضافة إلى ما سبق، مؤدّاها أنّ الروائي لا يخدع قارئه ولا يضلّله وهو يأخذه في رحلته الممتعة إلى دهاليز السرد، فالقارئ وهو يسلّم الجانب الذاتي العاطفي للروائي ينقاد دون أن يشعر إلى الجانب الموضوعي العلمي، فتتحقّق مجموعة من الأهداف بطريقة غير مباشرة، منها الناحية التعليميّة، من هذا الباب كان الأدب بشكل عامّ خطيراً ومُهمّاً، والرواية لأنّها تبني عالماً متكاملاً يدخل فيه العقلي المنطقي مع المتعة الشخصيّة تصبح أهمّ وأشدّ خطورة من القصيدة الشعريّة- مثلاً- القائمة على الخيال وحده. لذلك فالرواية أداة من أدوات تغيير الوعي لدى الأجيال، كما طرحته في وقفة سابقة. (الرواية بوصفها حاملة ثقافيّة للتغيير، مجلّة الثقافة الجديدة، القاهرة، العدد 407، تمّوز، 2024).

في نهاية تلك المحادثة، يعبّر صافي صافي عن إعجابه بهذه النقطة، ألا وهي أنّ "الروائي أعلى سلطة معرفيّة من الباحث"، ويصفها بأنّها "مُهمّة جدّاً، ويجب إبرازها". ربّما كان الروائي قادراً على التمييز في تلك المحطّة من النقاش بين شخصيّتيه العلميّة الأكاديميّة وعقله البحثي المنظّم، وشخصيّته الروائيّة الباحثة عن الإقناع والتشويق ودفع القارئ لأن يتفاعل مع الرواية تفاعلاً إيجابيّاً.

لا شكّ في أنّ الروائي غير ملزَم بأن ينفّذ كلّ ملحوظات أصدقائه، وله أن يتراجع عن بعض ما اقتنع فيه أو وعد به، ليبقى وحده هو من يتحمّل مسؤوليّة عمله فنّيّاً، فالناقد في هذه المرحلة، وبهذه الكيفيّة، ليس مسئولاً عن العمل الأدبي، لأنّه لم يتولّ مهمّة تحريره، ولأنّه سيظلّ ظلّا للكاتب، ارتقى لرتبة مستشار، يقدّم النصحَ حسب ما يراه صواباً، لكنّه شخص لا قرار له، لأنّه بلا سلطة فعليّة على النصّ والكاتب، هذه السلطة التي تعود إليه عند نشر العمل الأدبي، ليرى فيه رأيه، كونه في هذه المرحلة ناقداً متحرّراً من المشورة، وعليه أن يقول قناعاته الفنّية.

وعلى الرغم من كل هذا تبقى الرواية تنمّ عن أنّ صافي صافي روائيّ خبير بصنعته، ولا يكتب رواياته ارتجالاً، وإنّما- كما يظهر من مجموعة رواياته*- صاحب مشروع سردي يندمج في المكان الفلسطيني وأبجديّاته ويندفع عبره لبناء عالم روائي جذّاب وموازٍ للعالم الواقعي والبيئة المحيطة به، لذا تراه دائماً مشغولاً بهذه الناحية، ويتابعها، ولا ينفكّ يهتمّ بأمر الجغرافيا الفلسطينيّة، كأنّه رحّالة يبحث عن الجذور، بل حارس الذاكرة الفلسطينيّة من الضياع أو النسيان أو الإهمال، ويكفيه هذا الشرف في الدفع بإمكانيّاته السرديّة وموهبته الفذّة لتكون السرديّة الفلسطينيّة هي المسيطرة على جيل كامل من قرّاء رواياته، فصفحته على الفيسبوك تشير إلى هذا الهاجس بما ينشره حول قرى أو مواقع فلسطينيّة، خاصّة ما كان مدمّراً بفعل نكبة عام 1948، فقد ظلّ أميناً لأصوله التي جاء منها، ويصرّ على أن يعرّف نفسه بأنّه "ينحدر من قرية بيت نبالا المهجّرة قضاء اللد"، كما جاء في أول سطر من سطور التعريف على غلاف الرواية، وهذا بلا شكّ أهلّه ليكون راوية وروائيّاً يحسن التعامل مع تلك الأماكن التي يستهدف الحديث عنها وأعصاب الذكريات الباقية فيها، وما يعانيه الناس من حنين وأمل في العودة إليها، وهذا الاهتمام بحدّ ذاته يجعله يدور في فلك خاصّ يصنعه لنفسه ليكوّن دائرته السردية الخاصّة به، وهذه الدائرة بهذه المواصفات جعلت رواياته تحقق مبدأ "الإنقاص البلاغي" من زاوية موضوعيّة هذه المرّة.

* روائي فلسطيني له عدة روايات، وأكاديمي يحاضر في جامعة بير زيت في كلية العلوم أستاذاً للفيزياء.

* يمكن تحميل بعض روايات الكاتب صافي صافي من خلال موقع كتوباتي: https://linksshortcut.com/ICjch.