تدوين- إسراء أيوب
تُعَدّ السينما العربية المعاصرة منصةً حيوية لاستكشاف القضايا الاجتماعية والسياسية المعقدة، وتقدم لنا رؤيةً عميقة في عوالم لم تُكتشف بعد. من بين هذه العوالم، يبرز العالم الدرزي كفضاء سينمائي فريد من نوعه، حيث لا تقتصر الأفلام التي تتناول هذا المجتمع على كونه مجرد خلفية، بل تحاول الغوص في مفاهيم الهوية والانتماء والعلاقة بالسلطة، وتطرح سؤالًا جوهريًا: "من نحن؟"
قد يبدو السؤال "هل توجد سينما درزية؟" سؤالًا بسيطًا، لكنه يحمل في طياته بحثًا عن كيفية تعبير أقلية منغلقة نسبيًا، ذات نظام اجتماعي خاص، عن نفسها فنيًا. وهل يمكن للكاميرا أن تخترق هذا العالم المصغر لتكشف عن تناقضاته وتوثق تفاصيله؟
تُظهر أفلام مثل "عرباني" لعدي عدوان (2013)، و**"الغريب"** لأمير فخر الدين (2021)، و**"طعم التفاح أحمر"** لإيهاب طربيه (2022) أن السينما التي تدور في الفضاء الدرزي لا تُصنف كـ"سينما طائفية"، بل هي أعمال فنية عميقة تحاول استكشاف مفاهيم معقدة مثل:
الانتماء والنبذ: كيف يتعامل المجتمع مع من يخرج عن تقاليده؟
أزمة الهوية: كيف تتشكل الهوية في جغرافيا تتداخل فيها الحدود والولاءات؟
العلاقة بالسلطة: كيف تؤثر الصراعات السياسية على الحياة اليومية للأفراد؟
هذه الأعمال لا تقدم تمثيلًا كاريكاتيريًا، بل تستخدم أدوات تنبع من التجربة الذاتية للمخرجين، مما يجعلها خطوات مهمة نحو تشكيل صوت سينمائي قادم من هامش لم يُستكشف كثيرًا.
"عرباني" لعدي عدوان: صراع الرفض والعودة
يروي فيلم "عرباني" قصة يوسف (إياد شيتي)، رجل درزي في الأربعينيات يعود إلى قريته في الجليل بعد طلاقه من امرأة يهودية. يواجه يوسف وأولاده المراهقون رفضًا قاسيًا من المجتمع الدرزي، الذي لا يقبل عودته. الفيلم يصور ببراعة هذا الصراع، حيث تتصاعد الأحداث من مجرد التهديد بالرحيل إلى التهديد بالعنف.
تتسلط الكاميرا على تفاصيل الحياة الدرزية، وتكشف كيف ينتقل الرفض من يوسف إلى والدته التي تقبل عودته، مما يوتر علاقتها بمحيطها. يُظهر الفيلم أيضًا التناقضات الداخلية في المجتمع، حيث تعكس شخصية عدوان، الذي يرفض زواج أبنائه من غير الديانة الدرزية رغم كونه غير متدين، تعقيد هذه القضايا.
"الغريب" لأمير فخر الدين: احتلال داخلي ونفسي
في فيلم "الغريب"، يقدم المخرج السوري أمير فخر الدين معالجة سينمائية لحالة من التشرذم النفسي والوجودي لشخصية طبيب يعيش في الجولان المحتل. الطبيب، الذي يجسده أشرف برهوم، ليس بطلًا متماسكًا، بل هو شخصية مأزومة تعاني من صمت داخلي وعلاقة متأزمة مع محيطها.
تتغير حياة الطبيب بلقاء مفاجئ مع جندي سوري مصاب وهارب. هذا اللقاء يطرح أسئلة فلسفية عميقة: من هو "الغريب" الحقيقي؟ هل هو الجندي القادم من وراء الحدود، أم الطبيب الذي لا يشعر بالانتماء رغم أنه لم يغادر مسقط رأسه؟
يُعد "الغريب" أول فيلم روائي طويل قادم من هضبة الجولان، مما يجعله وثيقة سينمائية مهمة تنقل "صوت من لا صوت لهم". يؤكد فخر الدين أن الفيلم ليس عن تاريخ الجولان، بل عن الشعور الداخلي لسكان يعيشون تحت الاحتلال، وهو بمثابة "كولاج مشاعر" مستوحى من الواقع المحيط به.
"طعم التفاح أحمر" لإيهاب طربيه: تناقضات الولاء والهوية
يتناول فيلم "طعم التفاح أحمر" للمخرج إيهاب طربيه، وهو أيضًا من الجولان المحتل، موضوعًا حساسًا من خلال قصة عائلية. الشيخ كامل (مكرم خوري)، رجل دين درزي، يواجه اهتزاز عالمه مع عودة شقيقه المنفي منذ نصف قرن. هذه العودة تفتح أبوابًا مغلقة وتدفعه لمواجهة ولاءات متضاربة وصراعات أخلاقية، خاصة مع أصداء الحرب السورية التي تتردد في الخلفية.
يستخدم طربيه الرمزية بمهارة، من ولادة طفل عسيرة إلى حضور لافت للحيوانات، وصولًا إلى التفاح الذي يحمل أبعادًا تأويلية مفتوحة. هذه العناصر تخلق فسيفساء بصرية تعكس اختلال التوازن بين الأفراد والأنظمة، وبين الانتماء الطائفي والرغبة في التحرر.
يتميز الفيلم بصراحته السياسية، حيث يتطرق مباشرة إلى مواضيع حساسة. يوضح طربيه أن "آن الأوان لنتحدث بصراحة"، مؤكدًا أن فيلمه يهدف إلى تقديم صورة صادقة وواقعية، بعيدًا عن تجميل الضحايا أو مواربة الحقائق. ويشدد على أن "القضية السورية طالما كانت حاضرة في وعينا"، وأن الفيلم يعكس أزمة الهوية التي يعيشها سكان الجولان، حيث يبحثون باستمرار عن انتمائهم في واقع عربي مضطرب.
ليست مجرد أفلام عن الدروز
هذه الأفلام لم تكتفِ بتسجيل الواقع، بل قدمت قراءات فنية جريئة، كسرت الصورة النمطية للأقليات، وكشفت عن التناقضات الداخلية للبشر تحت ظروف استثنائية. لقد فتحت هذه الأعمال الباب أمام أصوات سينمائية جديدة قادمة من الهوامش، مؤكدة أن القصص الكبرى لا تقتصر على المركز، وأن السياسة لا تقتصر على الشعارات، بل تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية.
في النهاية، يمكن القول إن هذه الأعمال السينمائية ليست مجرد أفلام عن الدروز، بل هي مرآة تعكس الواقع العربي بأسره، بكل ما فيه من آلام وأسئلة، وتؤكد على أن البحث عن الذات والانتماء هو رحلة إنسانية لا تنتهي، بغض النظر عن الجغرافيا أو الانتماء الطائفي.