تدوين- أحمد أبو ليلى
في ظل حرب الإبادة المستمرة على الفلسطينيين في قطاع غزة، برزت استراتيجيات إسرائيلية متعددة للتحكم في تدفق المعلومات وفي محاولة لتوجيه السردية الدولية الإعلامية لصالحها. تعتمد هذه الاستراتيجيات على مزيج من التعتيم الإعلامي على الأرض، واستخدام أدوات دعائية متطورة تستهدف الصحافة الأجنبية والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وتنظيم زيارات مدفوعة الأجر لصحافيين لتغظية ما يحدث في قطاع غزة من وجهة نظر إسرائيلية صهيوينة.
التعتيم الإعلامي وحصار الحقيقة
اتبعت دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية عدوانها على قطاع غزة سياسة منع دخول الصحافيين الأجانب إلى قطاع غزة بغية فرض حالة من التعتيم الإعلامي على ما يجري على الأرض. وهو عادة ما يحول، من ناحية مهنية، ومن وجهة نظر صحفية، دون قيام الصحافة المستقلة بمهامها في توثيق الأحداث ونقل الواقع الميداني بشكل حيادي وموضوعي، وهو ما يخلق حالة من الفراغ المعلوماتي الذي يمكن استغلاله بسهولة لتمرير روايات أحادية الجانب وتشويه الحقائق.
وقد استدعى هذا التعتيم الإعلامي إدانة دولية واسعة، حيث وقّعت 27 دولة على بيان مشترك يطالب إسرائيل بإنهاء هذا الحظر الفوري وضمان حماية الصحافيين الفلسطينيين داخل القطاع المحاصر. وقد أكد البيان، الصادر عن التحالف من أجل حرية الإعلام، والذي ضم دولاً مثل بريطانيا وألمانيا وأستراليا وأوكرانيا، على الدور الأساسي للصحافيين في تسليط الضوء على "الواقع المدمر للحرب". كما نبّه إلى أن "الوصول إلى مناطق النزاع أمر حيوي للقيام بهذا الدور بفعالية"، وعبّر عن "المعارضة لجميع المحاولات لتقييد حرية الصحافة ومنع دخول الصحافيين في أثناء النزاعات".
استهداف الصحافيين
تتفاقم أزمة التعتيم الإعلامي في غزة مع استهداف الصحافيين الفلسطينيين، وهو ما يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي. وبحسب آخر إحصائيات فقد قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 238 صحافياً وعاملاً في الإعلام في غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. هذه الأرقام تتجاوز بكثير أعداد الصحافيين الذين يُقتلون في معظم النزاعات المسلحة الأخرى، مما يثير تساؤلات جدية حول مدى استهدافهم بسياسات قتل ممنهجة.
إن "الاستهداف المتعمد للصحافيين أمر غير مقبول"، هذا ما جاء في البيان المشترك للتحالف من أجل حرية الإعلام. فالقانون الإنساني الدولي يوفر الحماية للصحافيين المدنيين في أثناء النزاعات المسلحة، ويعتبر استهدافهم جريمة حرب. وقد دعت المطالبات الدولية إلى فتح "تحقيق في جميع الهجمات ضد العاملين في وسائل الإعلام ومحاسبة المسؤولين عنها وفقاً للقانونين، المحلي والدولي". هذه الدعوات تعكس قلقاً عالمياً من التبعات الخطيرة لتقويض حرية الصحافة في مناطق النزاع، ليس فقط على نقل الأخبار، بل على قدرة العالم على فهم حجم الكارثة الإنسانية والمساءلة عن الجرائم المرتكبة.
"الهاسبارا": استراتيجيات الدعاية الموجهة
في مواجهة التنديد الدولي بسياساتها وتزايد التقارير عن الكارثة الإنسانية في غزة، لجأت إسرائيل إلى تفعيل استراتيجية "الهاسبارا" (Hasbara)، وهي مصطلح يعني "الشرح" أو "التفسير"، ويُستخدم للإشارة إلى الدعاية الموجهة لتبرير السياسات الرسمية أمام الخارج. وقد تطورت أدوات الهاسبارا لتشمل رحلات منظمة لصحافيين أجانب، واستخدام مؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي.
رحلات الصحافيين المدفوعة: مسار منحاز
تُعدّ الرحلات المدفوعة للوفود الصحافية الأجنبية إحدى الأدوات الرئيسية في استراتيجية الهاسبارا. فقد نظّمت وزارة الخارجية الإسرائيلية في أوائل أغسطس/آب الحالي رحلة لوفد من الصحافة الهندية، والتي انعكست لاحقاً في تغطية إيجابية لصالح الدعاية الإسرائيلية. وقد اعترفت بعض وسائل الإعلام، مثل "ذا إنديان إكسبرس" و"ريبابلك تي في"، بأن صحافييها زاروا إسرائيل بدعوة من السفارة الإسرائيلية في نيودلهي، بينما تجاهلت مؤسسات أخرى الإفصاح عن هذه الحقيقة لجمهورها.
ضمت الجولة زيارات لمواقع تخدم الرواية الإسرائيلية، مثل "ساحة الرهائن" في تل أبيب، ومستوطنات تعرضت لهجمات في 7 أكتوبر 2023، وموقع مهرجان نوفا الموسيقي، ومقرّ وزارة الخارجية، وفريق الإعلام والاتصال الاستراتيجي في الجيش الإسرائيلي. وبعد هذه الرحلات، أظهرت التغطيات الإعلامية الهندية انحيازاً واضحاً إلى الرواية الإسرائيلية، حيث خصصت بعض القنوات فقرات طويلة للرهائن الإسرائيليين مقابل دقائق معدودة عن مأساة غزة. يمثل هذا النمط من التغطية مثالاً حياً على كيفية تلاعب الرحلات المدفوعة بالسردية الإعلامية، حيث يتم توجيه الصحافيين ليروا ويسمعوا فقط ما يخدم الأجندة الإعلامية والسياسية الإسرائيلية.
لم تقتصر هذه السياسة على الهند، بل امتدت لتشمل محاولات لاختراق الدعم الشعبي والسياسي الذي تحظى به فلسطين في جنوب أفريقيا، وهي الدولة التي تقود الدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة الجنايات الدولية. وكشفت أبحاث ناشطين أن ثلاث صحف جنوب أفريقية (صنداي تايمز، ذا سيتيزن، وبيزنيوز) أخفت تمويل اللوبي الإسرائيلي (مجلس النواب اليهودي في جنوب أفريقيا) لرحلة صحافييها إلى إسرائيل. هذا عدم الإفصاح اعتُبر خرقاً لميثاق أخلاقيات وسلوك مجلس الصحافة لوسائل الإعلام في البلاد، مما يؤكد على الأهمية القصوى للشفافية في تمويل الرحلات الصحافية.
جولات المؤثرين داخل غزة: "فبركة" الأزمة الإنسانية
مع هيمنة صور الأطفال الجياع في غزة على عناوين المؤسسات الإعلامية العالمية، لجأت إسرائيل إلى وسيلة أخرى في استراتيجية الهاسبارا، وهي السماح لمجموعة محدودة من الإعلاميين الإسرائيليين و"المؤثرين" على شبكات التواصل الاجتماعي، إلى جانب مراسلين أجانب مختارين، بالدخول إلى قطاع غزة ضمن "رحلة مرافقة" عسكرية نادرة.
ظهرت من خلال هذه الجولات سلسلة منشورات مصوّرة من داخل غزة، والتي تُظهر مخازن مليئة بالغذاء والمساعدات "بانتظار التوزيع". وقد قدم أصحاب هذه المنشورات رسالة متطابقة تهدف إلى الدفاع عن إسرائيل، واتهام الأمم المتحدة، وإلقاء اللوم عليها في "فبركة أزمة الجوع". من الأمثلة البارزة على ذلك المؤثرة بيلامي بيلوتشي التي نشرت صوراً من داخل غزة بزي عسكري وخوذة، مؤكدة أن الأمم المتحدة هي المسؤولة عن إيصال الغذاء لكنها "لا تقوم بواجبها".
هذه الممارسات تهدف إلى قلب السردية الإنسانية عن طريق إظهار أن إسرائيل ليست هي المسؤولة عن المجاعة، بل جهات أخرى. استخدام المؤثرين، وخاصة الشباب منهم، يتيح الوصول إلى جمهور أوسع وأكثر تنوعاً على منصات التواصل الاجتماعي، حيث غالباً ما يتم قبول المعلومات دون تدقيق عميق. وقد كشفت صحيفة هآرتس مؤخراً عن تمويل وزارة الخارجية الإسرائيلية لجولة 16 مؤثراً أميركياً بهدف دفعهم لإنتاج محتوى يتماشى مع خطاب الحكومة.
الردود الدولية وتحديات الأخلاقيات الصحافية
في مواجهة هذه الاستراتيجيات الدعائية، أبدى عشرات الصحافيين الجنوب أفريقيين تضامناً واسعاً مع زملائهم في غزة، وشاركوا في مسيرة احتجاجية في كيب تاون ضد جرائم قتل الإعلاميين الفلسطينيين، نظمتها منظمة "صحافيون ضد الفصل العنصري". وقد أدانت المتحدثة باسم المنظمة، ديشني سوبراماني، وسائل الإعلام الغربية التي "كررت الأكاذيب الإسرائيلية من دون تدقيق، وأسكتت أصوات الفلسطينيين"، معتبرة أن ذلك "سمح باستمرار هذه الإبادة الجماعية". كما أدانت المؤسسات الإعلامية المحلية التي قبلت المشاركة في الرحلات الدعائية برعاية إسرائيل، واصفة ذلك بأنه "أبعد ما يكون عن أخلاقيات الصحافة، ومخزٍ في بلدٍ لعب فيه الإعلام دوراً محورياً في تفكيك نظام الفصل العنصري".
تثير هذه الممارسات أسئلة جوهرية حول أخلاقيات الصحافة ومسؤولية المؤسسات الإعلامية. فالقبول برحلات مدفوعة الأجر دون الإفصاح عن مصدر التمويل، أو تقديم تغطية منحازة، يتنافى مع مبادئ الاستقلالية والموضوعية والشفافية التي تُعدّ ركائز العمل الصحافي المهني.
الخلاصة: صحافة من أجل العدالة
إن الدفاع عن حرية الصحافة وحماية الصحافيين ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو ضرورة لضمان المساءلة وتحقيق العدالة في عالم تزداد فيه تعقيدات المعلومات المضللة. وهو ما يستلزم لجهة المؤسسات الإعلامية تعزيز آليات المراجعة الداخلية الصارمة والالتزام بالمعايير الأخلاقية لضمان عدم تحولها إلى أدوات للدعاية، وتقديم صوت مستقل يسلط الضوء على الحقيقة كاملة.