الخميس  28 آب 2025

كل قصيدة بعد غزة هي عمل بربري!

2025-08-28 09:39:49 AM
كل قصيدة بعد غزة هي عمل بربري!
مروان الغفوري

تدوين- د. مروان الغفوري

تأخرت ألمانيا أكثر من قرن من الزمان قبل أن تعترف، على نحو بالغ الإلتواء، بأن قواتها المسلحة ارتكبت إبادة بشرية في ناميبيا مطلع القرن الماضي. وبرغم اعترافها بأن "قواتها" – وليس النظام الحاكم - ارتكبت الجريمة فإنها رفضت تحمل أي مسؤولية قانونية. كما لم تدن بالجريمة على أي منصّة قانونية، فلا تعمل وثيقة الإبادة الجماعية بشكل رجعي.

اعتراف ألمانيا المنقوص والمتأخر بالإبادة البشرية في ناميبيا مسّ فكرة "تفرّد الهولوكوست"، وربما أهانها. كان خطأ تاريخياً في تقدير عدد كبير من المثقفين والباحثين اليهود في إسرائيل وخارجها. فالهولوكوست "حدث يتجاوز التاريخ، بل يتحدى الفهم" كما يقول الكاتب الإسرائيلي إيلي فيزل، الحاصل على جائزة نوبل في السلام سنة 1986. المؤرخة اليهودية ديبوره ليبشتادت ترفض، مثل مؤرخين يهود كثُر، الحديث عن إبادة بشرية في ناميبيا أو رواندا، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى "تمييع خصوصية الهولوكوست".

التشويش على الهولوكوست من خلال توزيع الإدانات يمنة ويسرة سيهدد فرادته، وبالتالي الإرث اليهودي الأكثر أهمية. غير أن التاريخ أخذ إسرائيل ذاتها إلى خانة الإدانة، وباتت هي من يشوش على نفسها، ويحرق كل موروثها. ومن قبيل السخرية أن إسرائيل، الدولة، صارت الأولى في التاريخ التي تقترب من الإدانة.

غزة ورطة إسرائيلية التهمت قرناً كاملاً من البروباغاندا، وزعزعت مركز الحضارة الغربية

اشتغلت الأكاديميا الغربية، كما السياسة والآداب، في سبيل جعل الهولوكوست نواة الحضارة الليبرالية المعاصرة، والمعيار الأخلاقي المركزي. حُظر، بالقانون، أي نشاط أكاديمي أو علمي يقترب من مسألة الهولوكست، وطورد باحثون، بل وضعوا في السجون، لأنهم تجرأوا على مساءلة رواية الهولوكوست، كما حدث مع غيرمار رودولف في تسعينيات القرن الماضي. كان رودولف قد أجرى أبحاثاً كيميائية على بقايا "غرف الغاز" في معسكر أوشفيتز، وادّعى أن ما وجده لا يدعم بشكل مطلق وجود غرف للقتل بالغاز. أدى نشره للبحث إلى مطاردة استمرت بضعة أعوام انتهت بأن عثرت عليه السلطات الأميركية مختبئاً في ضاحية من ضواحي شيكاغو فأعادته إلى ألمانيا، وهناك وضع في السجن في العام 2007.

مبكّراً، في العام 1949، أطلق الناقد الألماني- اليهودي ثيودور أدورنو في مقالة بعنوان "الثقافة والنقد" جملته الشهيرة: أن تكتب شعراً بعد الهولوكوست هو عمل بربري. أحيط الهولوكوست بسياج منيع، إلى أن أسقطته إسرائيل بنفسها.

غزة ورطة إسرائيلية التهمت قرناً كاملاً من البروباغاندا، وزعزعت مركز الحضارة الغربية. قبل أن يأخذ الهولوكوست صورته النهائية، بوصفه مركزاً للأخلاق وحدثاً فوق التاريخ، كانت رواية "إكسيدوس"، لليون يوريس التي نشرت في العام 1958، قد شقّت الطريق إلى الوعي الغربي ومهّدت الأجواء. في الرواية يهاجر الناجون من الهولوكوست على ظهر سفينة الإيكسيدوس، يتيهون في المتوسط، يصطدمون بالقوات البريطانية والعرب، ثم ينتصرون في آخر الأمر. التعويض الأخلاقي، التاريخي، الذي حصل عليه المجتمع اليهودي في تلك الأرض هو الإنصاف الذي تأخر لألفي عام. ما كان له أن يحدث لو لم تكن الجماعة اليهودية قد حافظت على فرادتها الأخلاقية والدينية على مرّ التاريخ، وقاومت رياح الأمم والتاريخ بشجاعة قلّ لها نظير. من تلك الفرادة الأخلاقية، من الفداء والنصر، خرج الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، جيش الدفاع الإسرائيلي.

الورطة الإسرائيلية في غزة مركّبة. اختار عدد كبير من الصحف الغربية في الأيام الماضية كلمة Pariah أو المنبوذ في الإشارة إلى إسرائيل. والنبذ هنا ليس سياسياً وحسب، بل أخلاقياً وتاريخياً. أي أن تعزل إسرائيل حتى عن إرثها التاريخي. تقوم إسرائيل على ادعاء أخلاقي في المقام الأول، ثم تبني عليه ادعاء سياسياً. راكمت في العقود الماضية مصادر قوة عديدة، في مقدمتها الدعم المطلق من الليبرالية الغربية من جهة، ومن الإنجيلية الأميركية من جهة أخرى. ولكنها، وهي تبلغ أعالي مجدها، سقطت في إغراء القوة المطلقة، وباتت ضحية لاعتقادها أن بمقدورها أن تفعل ما تشاء. هكذا رآها الروائي الإسرائيلي المرموق دايفيد غروسمان في لقائه الأحدث مع صحيفة لا-ريبابليكا الإيطالية. قادتها القوة إلى البطش، وأخذها البطش إلى الإبادة الجماعية. ومع سقوطها في قبضة اليمين المتطرف، الجهادية التوراتية، بات واضحاً أنها انزلقت إلى ورطة وجودية ليس من اليسير الخروج منها. وبحسب شلومو بن عامي فإن إسرائيل لم تشهد انهياراً لمكانها بين الأمم كما حدث الآن.

انهارت تلك المكانة ليس في الجنوب العالمي وحسب، بل في العالم، في لحظة قوة مطلقة. لم تكتف إسرائيل بالذهاب إلى أقصى اليمين، حيث الجهادية التوراتية العمياء، بل ألقت بنفسها في حضن الرئيس ترامب، سيء السمعة. لتبدو وكأنها مشروع أخلاقي لرجل لا يثق أحد بنواياه.

اختار عدد كبير من الصحف الغربية في الأيام الماضية كلمة Pariah أو المنبوذ في الإشارة إلى إسرائيل. والنبذ هنا ليس سياسياً وحسب، بل أخلاقياً وتاريخياً

كل الإشارات تقول إن إسرائيل غرقت داخل نفسها، ولم يعد بمقدورها الفكاك. فقد توصلت دراسة أنجزتها الباحثة الإسرائيلية د. نوا لافي، 2016، إلى أن "الشباب الإسرائيلي" هو الأكثر تطرّفاً مقارنة بدول أوروبا الغربة. وهو ما سيؤكده معهد إسرائيل للديموقراطية، 2018، في استطلاع مدوّ قالت نتائجه إن 64% من الشباب الإسرائيلي بين 18 – 34 عاماً يصنفون أنفسهم "يميناً"، بينما قال 47% فقط من الأكبر سنّاً إنهم يمينيون. وهو مشهد معكوس وغير مشهود في أي بلد آخر، إذ عادة ما تكون اختيارات الأجيال الأحدث سناً أكثر انفتاحاً وأقل راديكالية.

تقودنا كل البيانات إلى نتيجة واحدة، وهي إن إسرائيل اليوم ليست هي تلك الدولة السحرية التي جسدتها رواية الإكسدوس، الرواية التي تفوقت مبيعاتها في أميركا على رواية "ذهب مع الريح" وحلّت ثانياً بعد الإنجيل. حيال هذا التعقيد تجد الليبرالية الغربية نفسها مأزومة وفي ورطة. فهي تقاتل اليمين الشعبوي بلدانها وتدعمه بكل السبل في إسرائيل. على أن النسخة الإسرائيلية من اليمين تبزّ كل صور الفاشية التي عرفتها أوروبا في تاريخها. في العامين الماضيين انفجرت حرب ثقافية في العالم الغربي في ضوء ما يجري في غزة، ولا تزال تلك الحرب في بداياتها. ولأن إسرائيل ماضية في حلمها التوراتي فإن الخيارات الغربية الليبرالية ستبدو حاسمة: إما أن تدعم نظاماً دولياً قائماً على القواعد، أو أن تغير القواعد والقوانين نزولاً عند رغبة التوراة. وفي الحالين تتعمّق أزمة إسرائيل، وتجرّ معها حلفاءها إلى ورطتها الوجودية.