تدوين-يحدث الآن
في ظل تصاعد النقاش الوطني حول مستقبل الأمن الوطني اللبناني ودور المقاومة، أصدر عدد من الأكاديميين والصحفيين اللبنانيين وثيقة جديدة تعد استكمالا لوثيقة سابقة صدرت في أيار 2025 بعنوان: "المقاومة المسلحة في لبنان: ضرورة وطنية وقيمة استراتيجية". وقد جاءت هذه الوثيقة عبر مبادرة مستقلة، في وقت تشهد فيه الساحة السياسية فراغًا على مستوى الدولة في صياغة استراتيجية دفاعية متكاملة، تُعنى بمواجهة التهديدات الجدية التي تحيط بلبنان، وفي طليعتها الخطر الإسرائيلي.
وقد صيغت الوثيقة كبديل فكري وسياسي عن الورقة الأميركية التي طُرحت مؤخرا، والتي تهدف إلى نزع سلاح المقاومة، ففي الخامس من آب 2025، أقر مجلس الوزراء اللبناني تكليف الجيش بوضع خطة لنزع سلاح المقاومة، من دون أن يندرج هذا القرار ضمن رؤية وطنية شاملة للأمن والدفاع، الأمر الذي اعتبره معدّو الوثيقة خروجا فادحا عن روح الشراكة الوطنية، وتجاهلا لطبيعة المرحلة وخطورة التهديدات الراهنة. ورأوا أن أي تعامل مع مسألة المقاومة خارج هذا السياق الوطني الموحد، لا يؤدي إلا إلى تعريض السيادة اللبنانية والأمن الوطني لمخاطر عميقة وبنيوية.
تستند الوثيقة إلى مرتكزين أساسيين: الأول هو الإقرار بمشروعية المقاومة كأداة دفاع وطني فعالة ومجربة، والثاني هو اعتبار التهديد الإسرائيلي بوصفه "كيان استعماري استيطاني توسّعي عنصري وإبادي"، مرتكزا استراتيجيا لكل سياسات الدولة، لا سيما أن الخطر الإسرائيلي بحسب الوثيقة لم يعد حكرا على البعد العسكري، بل بات تهديدا شاملا يمس كل مقومات الدولة والمجتمع من الاقتصاد والسيادة والاستقلال السياسي، إلى الثقافة الوطنية والعيش اليومي للمواطنين.
بناء على ذلك، تدعو الوثيقة إلى إعادة تأسيس استراتيجية الأمن الوطني على قاعدة مركزية هذا التهديد، بحيث يُعاد تشكيل السياسات العامة للدولة بجميع قطاعاتها انطلاقا من هذا الخطر.
تكامل الدولة والمقاومة: شراكة سيادية لحماية الوطن
لا ترى الوثيقة في المقاومة المسلحة نقيضا للدولة، بل تعتبرها مكونا وطنيا وشريكا فعليا في حماية السيادة. وتستند في ذلك إلى "نموذج السيادة الهجينة"، وهو مفهوم سياسي–أكاديمي يُستخدم في حالات الدول التي تواجه تهديدات وجودية دائمة من خارج حدودها. ويفيد هذا النموذج بأن احتكار الدولة لاستخدام القوة أو "العنف المشروع" لا يكون مطلقا في الظروف الاستثنائية مثل حالة لبنان، حيث لا تملك الدولة بمؤسساتها الرسمية وحدها القدرة الكاملة على ردع العدو أو صد الاعتداءات، خصوصا في ظل اختلال موازين القوى. من هنا، ترى الوثيقة أن المقاومة، بخبرتها وقدرتها على الردع، تُكمل دور الدولة ولا تناقضه، وتشكل عنصرا من عناصر الأمن الوطني وليس عبئا عليه.
وتستند الوثيقة في دفاعها عن شرعية المقاومة إلى جملة من المرتكزات الدستورية والسياسية، تبدأ من اتفاق الطائف الذي خصص قسما لتحرير الجنوب، وبيان جدة عام 1989 الصادر عن اللجنة الثلاثية العليا والذي أشاد بالمقاومة البطولية، إلى جانب البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة، التي أقرت بشرعية المقاومة طالما استمر الاحتلال أو التهديد. كما تذكّر الوثيقة بـإجماع الرؤساء الثلاثة في شباط 2025 على مشروعية الرد على العدوان بكافة الوسائل. ومن الناحية العملية، تستعرض الوثيقة الدور الحاسم للمقاومة في تحرير الجنوب عام 2000، وإرساء معادلة ردع استمرت أكثر من عقدين، وصولا إلى التصدي الناجح للغزو الإسرائيلي في الجنوب والبقاع عام 2024. هذه الإنجازات، بحسب الوثيقة، لا تؤسس فقط لشرعية المقاومة، بل تمنحها مكانة استراتيجية بوصفها مكونا راسخا في منظومة الدفاع الوطني.
صياغة سياسات الدولة تحت سقف التهديد الوجودي
تنطلق الوثيقة من أن التهديد الإسرائيلي لم يعد مجرد خطر طارئ أو متغير، بل أصبح ثابتا بنيويا، يشكل العنصر المركزي الذي يجب أن تدور حوله كل السياسات العامة. فلا يمكن، برأيها، صياغة سياسة دفاعية أو اقتصادية أو إعلامية أو حتى تربوية بمعزل عن هذا المحدد الأساسي. على هذا الأساس، تقدّم الوثيقة رؤية تفصيلية لسياسات الدولة المفترضة في سبعة مجالات رئيسية:
في السياسة الدفاعية والعسكرية، تدعو الوثيقة إلى بناء عقيدة عسكرية وطنية تصنّف إسرائيل بشكل رسمي كعدو وجودي دائم، وتوجه الجيش إلى تطوير قدراته الدفاعية دون الارتهان إلى التوازنات الغربية. تُطالب بتحرير الجيش من القيود السياسية الدولية، وتنويع مصادر التسليح خارج الهيمنة الغربية، والعمل على تطوير صناعات دفاعية محلية بالتعاون مع القطاع الخاص. وترى أن الاستفادة من خبرات المقاومة وشراكتها أمر حاسم، ويجب إدراجه ضمن استراتيجية دفاعية رسمية موحدة تضمن الردع وتعزز التماسك الداخلي، مؤكدة أن أي تفكيك لهذا التكامل هو استهداف مباشر لقدرة لبنان على الصمود.
أما في السياسة الخارجية، فتدعو الوثيقة إلى تبني دبلوماسية سيادية تُعلي من مصلحة لبنان الأمنية، وتُبنى على أساس تحديد واضح للعدو، لا على أساس الاصطفافات الإقليمية المتقلبة. تُشدد على أهمية أن يتحول التهديد الإسرائيلي إلى قضية لبنانية–عربية–دولية، تُحشد لها المواقف وتُبنى حولها التحالفات، بما في ذلك تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، والانفتاح على الدول الرافضة للتطبيع مع العدو. وتوصي باستثمار القدرات الاغترابية اللبنانية للتأثير في الرأي العام الدولي، وبناء شبكات علاقات تخدم أمن لبنان لا حسابات الآخرين.
في الاقتصاد، ترى الوثيقة أن أحد أخطر أشكال التهديد الإسرائيلي يتمثل في إضعاف بنية الدولة من الداخل. لذا تدعو إلى بناء اقتصاد صمود وإنتاج، مستقل عن المنظومات الريعية، ويقوم على تنمية القطاعات الحيوية كالزراعة والصناعة والتكنولوجيا، لا سيما في المجالات المرتبطة بالدفاع والطاقة والغذاء. تحضّ الدولة على تقليل التبعية المالية للخارج، وتنويع الشراكات التجارية، واستثمار رأس المال الاغترابي في مشاريع تنموية في المناطق الحدودية والمحرومة، بما يُعزز التوازن الديموغرافي ويحمي الأمن الاجتماعي.
فيما يتعلق بـالنظام السياسي والهوية الوطنية، تشخّص الوثيقة أزمة الطائفية كأحد عوامل إضعاف وحدة القرار الوطني في مواجهة إسرائيل. تدعو إلى إصلاح سياسي يقوم على المواطنة، وتحييد الانقسام الداخلي عن الصراع مع العدو، وتكريس الهوية اللبنانية بوصفها تعددية ومشرقية، ترتبط جذورها بثقافة مقاومة راسخة. تؤكد أن تصنيف إسرائيل كعدو يجب أن يخرج من سوق التوازنات الطائفية، وأن يكون محل إجماع وطني دستوري.
وفي الإعلام، ترى الوثيقة أن الحرب الإسرائيلية لم تعد مقتصرة على الميدان العسكري، بل باتت تُخاض على جبهات الوعي. تدعو إلى تطوير خطاب إعلامي وطني متماسك، يرسخ فهم الخطر الإسرائيلي، ويدافع عن الرواية الوطنية، ويُحاصر التطبيع الإعلامي والنفسي. لا تنادي الوثيقة بقمع حرية التعبير، لكنها تفرّق بين التنوع المشروع والخطاب الذي يخدم العدو أو يُعيد تسويقه عبر المنابر اللبنانية.
في مجال التربية والتنشئة الوطنية، تعتبر الوثيقة أن المدرسة هي الخط الأمامي في معركة الوعي. تدعو إلى إعادة بناء المناهج التربوية على أسس تُعزز الانتماء الوطني، وتُحصّن الأجيال ضد الخطر الإسرائيلي، وتُعيد الاعتبار لسردية التحرير والمقاومة كجزء من الوجدان الجمعي اللبناني. تنادي بتنشئة المواطن المقاوم، لا بوصفه مقاتلا بالضرورة، بل كفرد مشارك في مشروع وطني جامع يقوم على الكرامة والسيادة والحق.
أما في السياسة المالية والنقدية، فتلفت الوثيقة إلى أن السياسات المعتمدة منذ ما قبل الانهيار عام 2019 جعلت لبنان عرضة للابتزاز المالي والسياسي الخارجي. تدعو إلى بناء أدوات تمويل بديلة تُمكّن الدولة من اتخاذ قرارات سيادية دون الخضوع للضغوط أو العقوبات، وتطالب بإعادة هيكلة النظام المصرفي على أسس وطنية، تستعيد الأموال المنهوبة وتُعيد الثقة بالمؤسسات.
خلاصة: السياسات الوطنية تبنى من قلب المعركة لا من هوامشها
تؤكد الوثيقة أن إعادة بناء مفهوم الأمن الوطني اللبناني لا يمكن أن يتم بمعزل عن التجربة التاريخية المتراكمة في مواجهة العدوان الإسرائيلي، والتي أثبتت أن المقاومة ليست خيارا أيديولوجيا أو ظرفيا، بل ضرورة وطنية أملتها الوقائع والتهديدات المتواصلة. وتشدد على أن من يطرح اليوم مشاريع "تحييد لبنان" أو "نزع سلاح المقاومة" يتجاهل حقيقة أن الخطر الإسرائيلي لم يتراجع، بل يتكيّف ويتمدد، وأن مقاربة الأمن بمعزل عن هذا التهديد تعني تفريغ الدولة من قدرتها على الدفاع والاستمرار. وترى الوثيقة أن الدعوة إلى بناء دولة مقاومة لا تعني عسكرة المجتمع أو إلغاء الدولة، بل تعني تكريس السيادة الحقيقية عبر شراكة مؤسساتية بين جميع القوى الوطنية، وفي مقدمتها المقاومة التي أثبتت فعاليتها وجدواها. إنها دعوة إلى صوغ السياسات الوطنية من موقع الاشتباك مع العدو، لا من موقع الحياد السلبي، وإلى اعتبار المقاومة مكوّنا بنيويا من مكونات الاستراتيجية الدفاعية للدولة، وليس عبئا يُطلب التخلص منه تحت ضغوط خارجية.