تدوين-فراس حج محمد
في خطوة تعزز من الإسهامات النقدية العربية المعاصرة، صدر مؤخراً عن مكتبة "كل شيء" في حيفا، لصاحبها صالح عباسي، كتاب "الإنقاص البلاغي: المفهوم والتطبيق" للباحث والناقد الفلسطيني فراس حج محمد. يُعد هذا العمل دراسة أدبية طموحة تقدم مصطلحاً نقدياً فريداً يُضاف إلى المكتبة العربية في مجال النقد الأدبي، محاولة جادة لتأصيل مفهوم جديد يوضح تجلياته في الشعر والنثر على حد سواء. يقع الكتاب في 135 صفحة، مع تصميم غلاف فني للفنان شربل إلياس، ويشمل ملحقاً خاصاً يجمع بعض الأعمال الأدبية التي درسها المؤلف، مثل نماذج من نقد غسان كنفاني، مقاطع من ديوان "ينات للألم" لأمينة عبد الله، وأجزاء من رواية "حب في منطقة الظل" لعزمي بشارة، بالإضافة إلى آراء د. فخر الدين قباوة حول علامات الترقيم.
يأتي الكتاب كمشروع نقدي يسعى إلى إحداث نقلة نوعية في الخطاب النقدي العربي، حيث لا يقتصر على تحليل النصوص بل يتجاوز إلى تنظير فلسفي يهدف إلى ابتكار أداة نقدية جديدة. يعكس ذلك طموح المؤلف في أن يكون "منظراً أدبياً" لا مجرد ناقد يطبق قواعد الآخرين، مستلهماً من نقاد تاريخيين مثل عبد القاهر الجرجاني في مفهوم "النظم" أو رولان بارت في "موت المؤلف". يؤكد حج محمد أن التقدم الفكري يفرض على الباحثين اشتقاق مصطلحات خاصة، خاصة عندما تكون المفاهيم التقليدية غير قادرة على التعبير عن الرؤى الجديدة.
نشأة المفهوم وتأصيله: من التجربة الإبداعية إلى النظرية النقدية
يقوم مفهوم "الإنقاص البلاغي" على فكرة: "التخلي عن بعض ما لا ينفع العمل الأدبي في سبيل جعله أكثر فنية وأدبية". لم ينشأ هذا المفهوم من فراغ، بل هو نتاج مسار فكري بدأه المؤلف في كتابه السابق "سر الجملة الاسمية" (الرقمية، 2025)، الذي يعتمد على فلسفة "التخلص من ثلث اللغة العربية" عبر استبعاد الأفعال وأسماء الأفعال في بناء النصوص الشعرية والنثرية. يصف حج محمد هذا العمل السابق بأنه "مختبر عملي" أفضى إلى إدراك أن الاستبعاد ليس تمريناً لغوياً فحسب، بل عملية "إنقاص" مقصودة تحول النص إلى بناء فني أرفع.
يرفض المؤلف الدلالة السلبية لكلمة "نقص"، مشبهاً إياها بـ"الحنيفية" التي تحولت من معنى الاعوجاج إلى الاستقامة. هكذا، يصبح الإنقاص دلالة إيجابية تعني الاختيار الواعي والاستبعاد الانتقائي، مما يمنح النص سلاسة وتماسكاً. يؤكد أن هذا المفهوم يتولد من علاقات سببية بين الأفكار، كما تناسلت الاستعارة من التشبيه، مما يمنحه أصالة كنظرية نقدية مستقلة.
التمييز عن المفاهيم التقليدية: الحذف والتكثيف
يخصص المؤلف جزءاً كبيراً للمقارنة بين "الإنقاص البلاغي" ومفهومي "الحذف" و"التكثيف"، مؤكداً أنه أعمق من كليهما ويشمل ارتباطاً بهما دون الاقتصار عليهما. يعرف الحذف البلاغي بأنه "حذف داخل سياق لا يقوم أصلاً على شاعرية الحذف بحد ذاته"، وهو استبعاد جزئي لبنى لغوية (حرف، اسم، فعل) لتحقيق غاية معنوية، مع دليل يدل عليه. يستشهد بأمثلة قرآنية من سورة الكهف، مثل حذف "سنين" في "وازدادوا تسعاً" بعد ذكرها سابقاً، أو الحذف التدريجي في حوار موسى والخضر، الذي يخلق توتراً درامياً يؤدي إلى الفراق.
أما التكثيف، فيعرفه بأنه "تقليل ظاهر الشيء وتجميعه ليبدو أكثر مما هو"، مركزاً على غزارة المعاني دون الحاجة إلى الحذف. يورد أمثلة قرآنية مثل "ويخلق ما لا تعلمون" التي تستوعب تطورات علمية لاحقة، أو "وإنا لموسعون" التي تشير إلى توسع الكون. يختلف التكثيف عن الإنقاص في تركيزه على ما هو موجود، بينما يركز الإنقاص على الغياب الذي يعمق دلالة الموجود.
في النهاية، يرى حج محمد أن الإنقاص البلاغي هو "نظرة شاملة تحكم كل جزئية في النص"، مما يجعله إطاراً كلياً يخلق قانوناً خاصاً للعمل الأدبي، بخلاف الحذف الجزئي أو التكثيف المعنوي.
تطبيقات المفهوم في الشعر: جماليات الاستبعاد والتقشف
يتحول الكتاب إلى رحلة تطبيقية، بدءاً بالشعر. يحلل ديوان "أولئك أصحابي" للشاعر حميد سعيد، واصفاً إياه بعمل واعٍ يقوم على "التوليف". يستخدم سعيد الإنقاص عبر حذف "الأصل" -أي الروايات العالمية مثل "عوليس" أو "موبي ديك"- من المتن الشعري، مع الاحتفاظ بها كمرجعية في وعي القارئ. هذا يحول القراءة إلى مشاركة فاعلة، حيث يبحث القارئ عن الطبقات المتعددة، مما يوسع المفهوم من الكلمة إلى النصوص المرجعية.
كما يتناول عددا من مقاطع ديوان "بنات للألم" للشاعرة أمينة عبد الله، مشيراً إلى "التقشف البلاغي" الذي يتخلى عن الأدوات التقليدية كالتشبيهات، ليعبر عن ألم النساء مباشرة. في مقطع يصف نساءً يشترين شباباً ضائعاً بلحظات عشق، ينتهي بـ"هكذا أتت أشياء جميلة في أوقات غير لائقة"، حيث يتحول التقريري إلى بلاغة حقيقية نابعة من صدق التجربة، محطماً التصورات النمطية للجمال الزخرفي.
تطبيقات في النثر والسرد: روايات وقصص قصيرة
في النثر، يحلل عدة روايات متنوعة. في "مفاتيح البهجة" لعمر حمش، يبرز كيف يساهم الإنقاص في جعل السرد أكثر فنية عبر استبعاد تفاصيل غير ضرورية. أما "حب في منطقة الظل" لعزمي بشارة، فيلاحظ استبعاد الوصف الجسدي للعلاقة الحميمة، مما يحولها إلى استعارة فلسفية، محافظاً على الخصوصية الثقافية وخدمة الرؤية الفكرية للمؤلف.
في "عين التينة" لصافي صافي، يركز على تجنب النقد التكويني، محتفظاً بالنص النهائي كمعمار فني مدروس. وفي "الحياة كما ينبغي" لأحمد رفيق عوض، يناقش إقصاء شجرة التين مع أنها رمز فلسطيني عميق، ولم يجد المؤلف حج محمد مبرّرا فنياً لاستبعادها، مما يعزز أن فكرة الإنقاص البلاغية هي التي تقوم على الفكرة الواعية لدى الأديب، شاعراً أو سارداً.
كما يتناول القصص القصيرة لمحمد الكريم، صلاح عويسات، وحلمي حسين شاكر، موضحاً كيف يعزز الإنقاص الاختزال في هذه الأشكال، جاعلاً السرد أكثر تأثيراً دون ترهل.
تجليات أخرى: العنوان، علامات الترقيم، والصورة
يتوسع المفهوم ليشمل عناصر مساعدة. يرى العنوان تجلياً للإنقاص، كاختزال للنص كله. أما علامات الترقيم، فهي ليست شكلية بل تحمل مدلولات بلاغية، كما يورد من آراء فخر الدين قباوة. ويختتم بالصورة، مشبهاً إياها بكاريكاتير أو كتب أطفال خالية من النصوص، حيث تغني الصورة عن آلاف الكلمات، مدعوة المتلقي لإكمالها، مما يربط النظرية بالفنون البصرية.
سياقات أوسع: القصص القرآني، الأمثال، والفنون الأخرى
يطبق المفهوم على القصص القرآنية كقصة النبي موسى وقصة النبي زكريا عليهما السلام، حيث يركز النص على محطات تربوية مع استبعاد التفاصيل غير الضرورية، مما يبرز بلاغة الاختزال. كذلك في الأمثال الشعبية مثل "طب الجرة على فمها تطلع البنت لأمها"، التي تختزل قصة كاملة في عبارة موجزة، محافظة على الذاكرة الثقافية.
يفتح حج محمد في هذا الكتاب آفاقاً مستقبلية بتطبيق المفهوم على فنون أخرى كالموسيقى، النحت، والسينما، مستشهداً بوالتر ساليس الذي يرى السينما في "الشيء غير المرئي"، حيث يكون ما لا يُعرض أكثر إفادة، داعياً المتلقي لإكمال الصورة.
أهمية الكتاب وآفاقه: دعوة للوعي الفني
يأمل المؤلف أن يكون الكتاب إضافة نافعة للفكر النقدي، مساعداً الأدباء في مرحلة التوضيب عبر ملاحظة "النتوءات" لتحقيق التماسك، والنقاد في كشف جماليات الاستبعاد. يحول النقد إلى صمام أمان للإبداع، محطماً الحاجز بين الناقد والمبدع. كما يقدم إطاراً شمولياً للإبداع، مستلهماً فلوبير في أن "الصعب هو معرفة ما ينبغي عدم قوله".
يثبت حج محمد نفسه كناقد يمتلك منظومة فكرية خاصة، قادرة على توليد مصطلحات إجرائية كهذا المصطلح؛ فـ"الإنقاص البلاغي" ليس أداة تحليلية فحسب، بل رؤية شمولية تؤمن بأن البلاغة تكمن في الغياب، مما يجعله مرجعاً أساسياً لفهم جماليات الإبداع في الأدب والفنون. هذا الكتاب خطوة نحو بناء نقد عربي مستقل، يشجع على تأمل النصوص من منظور يعالج الإبداع ككل متكامل.