تدوين- سهاد الأصبح
لم تَعُد الروائية الهندية الشهيرة أرونداتي روي مجرد كاتبة عالمية، بل تحولت في السنوات الأخيرة إلى صوت ضمير يلاحق صمت العالم. لقد وظفت ظهورها وكتاباتها، من مقالات صحفية إلى خطابات جوائز، وصولاً إلى حفل إطلاق كتابها الجديد، لوصف ما يجري في غزة بأنه "إبادة جماعية" و"معسكر اعتقال"، وانتقدت بشدة الدعم الغربي والإقليمي لإسرائيل.
في حفل إطلاق كتابها الجديد "حين تزورني مريم" (Mother Mary Comes to Me) في ولاية كيرالا، لم تتحدث الكاتبة الحائزة على جائزة البوكر عن تجربتها الأدبية فقط، بل استغلت المنصة لتوجيه رسالة سياسية وأخلاقية قوية بشأن الحرب على غزة. قالت روي أمام جمهور من القراء والطلاب: "الولايات المتحدة تساعد في أكبر إبادة جماعية في التاريخ بثروتها، بينما تساعد الهند بفقرها"، مضيفة أن الضرائب التي يدفعها المواطنون الهنود قد تُستخدم بطريقة غير مباشرة في تمويل الحرب الإسرائيلية. وأكدت: "لا أستطيع أن أشارك في أي منتدى دون أن أعلن تضامني مع غزة".
موقف روي الصريح من فلسطين ليس جديدًا. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة، وصفت غزة بأنها "معسكر اعتقال" يشهد تدميرًا شاملاً لمستشفياته وجامعاته وبيوته. وانتقدت في مقالات وتصريحات عدة الدعم الغربي لإسرائيل، معتبرة أن "أغنى دول العالم تموّل وتبارك هذه الإبادة الجماعية".
من الأدب إلى الالتزام: رحلة فكرية لم تتوقف
كلمات أرونداتي روي لا تأتي من فراغ. لا يمكن قراءة موقفها كتعاطف عابر مع فلسطين، بل هو نتاج تجربة طويلة في مواجهة الاستعمار والحروب الإمبريالية. منذ روايتها الأولى "إله الأشياء الصغيرة" (1997)، قدمت روي للأدب العالمي نصًا ينهل من التاريخ والذاكرة والمقاومة. لكنها سرعان ما تجاوزت حدود الرواية إلى الفعل السياسي المباشر، لتصبح واحدة من أبرز الأصوات التي تربط بين الأدب والالتزام الأخلاقي.
على مدى ربع قرن، كتبت روي ضد الحروب الإمبريالية الأميركية، وانتقدت صعود القومية الهندوسية في بلادها، ووضعت فلسطين في قلب خطابها المناهض للاستعمار. هذا الامتزاج بين السيرة الذاتية والموقف السياسي يشي بأن الكتابة عند روي ليست انعزالًا في الجماليات، بل وسيلة لربط الذات بالعالم. فكما كانت علاقتها بأمها مأوى وعاصفة، فإن علاقتها بفلسطين تعكس إدراكها بأن الحرية لا تتجزأ، وأن القمع هنا وهناك متشابك بخيوط غير مرئية.
غزة... المرآة التي كشفت هشاشة العالم
في مقال أشبه بالبيان، كتبته روي من نيودلهي في 7 مارس/آذار 2024، قالت: "لقد تحوّل قطاع غزة إلى معسكر اعتقال... لقد تم تهجير كامل سكان القطاع تقريبًا؛ منازلهم، مستشفياتهم، جامعاتهم... تحولت إلى أنقاض". لم يكن هذا وصفًا تقنيًا لحرب، بل صرخة ضمير تعرّي العالم المجبول بصمت قاتل. وتضيف بحدة: "أغنى وأقوى دول العالم... تموّل علنًا وتصفّق لإبادة إسرائيل الجماعية في غزة".
هنا تضع روي إصبعها على جرح آخر: ليس الاحتلال وحده من يصنع المأساة، بل صمت الدول الكبرى التي تموّل الإبادة وتباركها. بالنسبة لها، الصمت ليس حيادًا بل شكلًا من أشكال التواطؤ. إنها ترفض المعادلة الزائفة التي تحاول المساواة بين الضحية والجلاد، كما عبرت في خطابها بمناسبة جائزة "بن بنتر" (PEN Pinter) عام 2024، حين قالت: "أرفض لعبة الإدانة المتوازية... لا أقول للمضطهدين كيف يقاومون". هذا الموقف يعكس رؤية واضحة ترفض الحياد المزيف وتؤكد على ضرورة الوقوف إلى جانب المضطهدين دون فرض شروط على مقاومتهم.
الحقيقة أقوى من الدعاية
في مقالها الشهير على موقع "مستر أونلاين" (MR Online) بعنوان "لا دعاية على وجه الأرض يمكن أن تخفي جرح فلسطين"، أكدت روي أن السردية الإسرائيلية قد بدأت تفقد تأثيرها وقوتها في العالم. فقد كتبت: "ليس كل المال والسلطة قادرًا على إخفاء الجرح الذي هو فلسطين. الجرح يظل مكشوفًا أمام العالم، مهما كان حجم الدعاية". هذا التصريح يبرز إيمانها بأن الحقيقة المطلقة للصراع الفلسطيني ستنتصر في النهاية على كل محاولات التضليل.
الجرح هنا ليس مجازًا بل حقيقة دامية، تكشف عن هشاشة الهيمنة مهما تزينت بالدعاية. بالنسبة لها، فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل علامة كونية على الظلم الذي لا يندمل إلا بالعدالة. بهذا المعنى، تمثل أرونداتي روي نموذجًا نادرًا في الأدب المعاصر، فهي كاتبة تجعل من النص جدارًا ضد الطمس، ومن الموقف الثقافي مقاومة علنية. في عالم تكثر فيه التبريرات ويغيب فيه الصوت الحر، تذكّرنا روي بأن الأدب ما زال قادرًا على أن يكون ضميرًا كونيًا. غزة بالنسبة لها ليست جرحًا بعيدًا، بل امتحانًا لإنسانيتنا جميعًا.
أصداء الموقف: ترحيب وانتقاد
قُوبلت مواقف روي بردود فعل متباينة، مما يعكس الانقسام العميق حول القضية الفلسطينية في الأوساط الثقافية والسياسية. في المجتمع الأدبي، حظيت مواقفها بترحيب واسع من قبل العديد من الكتاب والناشرين، خاصة في الهند والغرب، الذين اعتبروا كلماتها امتدادًا لتقليد الأدب الملتزم. وقد تم تداول خطابها على نطاق واسع في الصحافة البديلة واليسارية، حيث رُحب بها كصوت للضمير العالمي الذي لا يخشى قول الحقيقة. وقد عزز هذا الموقف مكانتها بين الأصوات الأدبية العالمية المدافعة عن فلسطين، وأكد أن الكتابة الملتزمة لا تزال قادرة على إحداث صدمة أخلاقية في زمن الرقابة.
في المقابل، واجهت روي انتقادات حادة وهجومًا عنيفًا من دوائر إعلامية محافظة في الهند، حيث اتُهمت بـ"تسييس الأدب" و"تشويه صورة البلاد". وصلت هذه الانتقادات إلى الأروقة الحكومية، حيث صدرت دعوات في البرلمان الهندي لمساءلتها عن تصريحاتها التي انتقدت فيها علاقة الهند بإسرائيل. هذه الضغوط السياسية تظهر بوضوح كيف أن مواقف روي لم تبقَ حبيسة الأوساط الأدبية، بل امتد تأثيرها إلى النقاش السياسي العام.
الكلمة... جدار من ضمير ووجع مشترك
بالنسبة لكثيرين، فإن روي تمثل نموذجًا للمثقف الملتزم الذي يرى في الكتابة واجبًا أخلاقيًا لا يقل أهمية عن الأدب نفسه. وفي عالم يعج بالصمت الرسمي، بدا صوتها في كيرالا صدى بعيدًا لصرخة غزة، يذكّر بأن الكلمة قادرة أن تشق طريقها بين الركام.
الكتاب الكبار ليسوا مجرد صُنّاع جُمل جميلة، بل يتحولون إلى ضمير جمعي، إلى شهود وفاعلين في زمن يميل إلى التواطؤ والنسيان. وهذه الروائية الهندية التي جاءت من أقصى الجنوب الآسيوي، رفعت صوتها من نيودلهي حتى رام الله، كأن فلسطين وطنها، وكأنها تعرف المخيمات وأزقتها كما يعرفها أهلها. لم تكتفِ بأن تكتب رواية جميلة أو بحثًا أكاديميًا، بل وقفت لتذكّر العالم أن هناك شعبًا يُسحق أمام شاشاته، وأن الكلمات يمكن أن تكون جدارًا آخر، هذه المرة ليس من أسمنت وحديد، بل من ضمير ووجع مشترك.
حملت أرونداتي روي صوت فلسطين كواجب أخلاقي لا يتجزأ من مشروعها الأدبي. ولم تكن كاتبة جوائز فقط، بل مثقفة تدرك أن الأدب لا ينفصل عن العدالة. في مقالاتها ومداخلاتها الأخيرة حول غزة، لا تكتب روي بلغة المحايد الأكاديمي، ولا بلغة المفاوض الحذر؛ بل بلغة الأم التي ترى طفلًا يُسحق تحت الركام، والإنسان الحر الذي يعرف أن الاستعمار لا يتغير إلا بالمقاومة.