تدوين- راما الحموري
منذ اللحظات الأولى لظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي (AI) ودخولها مجال الخدمات والإنتاج، بدأت الأوساط المهنية حول العالم في التوجس من تأثير هذه الثورة التكنولوجية على القوى العاملة وأخلاقيات المهن. كان الإجماع شبه كامل على أن القطاعات التي رسخت فيها التكنولوجيا الرقمية ستكون الأكثر تأثراً، وفي مقدمتها قطاع الإعلام، الذي قطع شوطاً بعيداً في التحول الرقمي. اليوم، لم يعد الأمر مجرد تكهنات مستقبلية؛ فالتحول بدأ يحدث الآن، في تصميم المحتوى، وطرق الإنتاج، وحتى في مفهوم المصداقية.
الإعلام الرقمي: أرضية خصبة للتحول الجذري
شهدت مهنة الصحافة تحولاً جذرياً بالفعل، حيث بات الغالبية العظمى من قراء الصحف الكبرى يكتفون بالنسخ الرقمية لمتابعة الأخبار. الأهم من ذلك، أن التطبيقات الرقمية والصوتية والمرئية أصبحت هي الأداة الأساسية للخدمات الإعلانية، والمصدر الرئيسي لإيرادات هذه المؤسسات. هذا الاعتماد المكثف على التكنولوجيا هو ما يجعل قطاع الإعلام، وتحديداً جانبه الرقمي، الأكثر عرضة لـ "زلزال" الذكاء الاصطناعي.
تقرير "رابطة الصحافة الأوروبية" الصادر نهاية العام الماضي خصص موضوعه الرئيسي للآثار المباشرة والمستقبلية للذكاء الاصطناعي على مهنة الصحافة. وأكد التقرير أن التطبيقات الحالية لهذه التكنولوجيا بدأت بالفعل في إحداث تطورات وتحولات عميقة على جميع المستويات، ابتداءً من تقنيات لا تزال في مراحلها الأولى. ويحذر التقرير من أن المراحل اللاحقة من شأنها أن تغيّر المشهد الإعلامي بشكل جذري في غضون سنوات قليلة.
محررو أوروبا يقرعون ناقوس الخطر: ضوابط صارمة وأخلاقيات المهنة
للوقوف على حقيقة هذا التأثير، تضمن التقرير استطلاعاً واسعاً شمل محررين ومنتجين ومشرفين على النسخ الرقمية لوسائط إعلامية أوروبية، وكانت نتائجه بمثابة إنذار:
84% يعتقدون أن المحررين سيستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في المستقبل.
97% يؤمنون بأن استخدام الذكاء الاصطناعي ستكون له تداعيات كبيرة على أخلاقيات المهنة.
91% يرجّحون أنه سيسهم في التضليل الإعلامي وترويج الأخبار الكاذبة.
85% يرون أن استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي المولدة للمادة الإعلامية يجب أن يخضع لقواعد صارمة للحد من انتشاره.
96% يؤكدون على حق القارئ في معرفة ما إذا كانت المادة التي بين يديه قد استخدم فيها الذكاء الاصطناعي.
73% يحمّلون الوسيلة الإعلامية المسؤولية الكاملة عن استخدام هذه التقنية.
في المقابل، ورغم هذه المخاوف، لم يكن سوى 31% فقط من المشاركين يستخدمون تطبيقات الذكاء الاصطناعي حالياً في أنشطتهم المهنية لإعداد النصوص، تجميع المعلومات، أو الترجمة، ما يشير إلى أن غالبية المهنيين يدركون التحدي الأخلاقي والمهني القادم، حتى قبل أن ينخرطوا بشكل كامل في استخدامه.
"ChatGPT" نقطة اللاعودة: تسريع وتيرة الدمج التكنولوجي
كانت نقطة البداية لهذا التحول الجذري والواسع النطاق هي ظهور تطبيق "تشات جي بي تي" (ChatGPT) أواخر خريف عام 2022، وسرعان ما عمّم استخدامه في توليد المحتوى الإعلامي لدى عدد من وسائل الإعلام السيبرانية الكبرى.
الدراسات تشير إلى أن المؤسسات الإعلامية اليوم بدأت تتسابق للاستثمار في تطوير الأدوات الرقمية سهلة الاستعمال وذات المردود العالي، بهدف دمج طاقاتها التكنولوجية مع القدرة الإبداعية البشرية. ويشير الخبراء إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يقتصر دوره على تسهيل المهام الصحفية والإنتاج فحسب، بل يمتد إلى التثبت من دقة المعلومات، وبإمكان النسخ المتطورة منه التفاعل المباشر والحصري مع القارئ عبر خوارزميات وشبكات عصبية متقدمة.
ملامح المشهد الإعلامي في نهاية العقد: مذيعون افتراضيون وواقع بديل
يتفق المحللون على أن التغييرات العميقة التي سيحدثها الذكاء الاصطناعي ستشمل الهيكل التنظيمي لعملية الإنتاج في الوسائل السيبرانية، والبث الإذاعي والتلفزيوني، ومنصات التواصل الاجتماعي التابعة لوسائل الإعلام. كثير من الدارسين يجمعون على أن وسائل الإعلام التي لا تستثمر في هذه التطبيقات مصيرها الاندثار أو التهميش التام.
يؤكد الخبراء أن الذكاء الاصطناعي سيصبح "شريكاً لا غنى عنه" لوسائل الإعلام الرقمية، ليس فقط في إنتاج الأخبار والعناوين والرسوم البيانية، بل أيضاً في توليد الصور والأشرطة السمعية البصرية.
أما على صعيد الإذاعة والتلفزيون، فلن يقتصر التغيير على المضمون السردي؛ بل سيشمل ظهور مذيعين افتراضيين، وفيديوهات ينتجها الذكاء الاصطناعي بأصوات يكيّفها وفق مقتضيات المادة الإعلامية. ويتوقع المتخصصون أنه بحلول نهاية العقد الحالي، ستكون تطبيقات الذكاء الاصطناعي قادرة على إنتاج مواد إعلامية معقدة في مجالات البحث والتحقيق، وقد تصل إلى إنتاج عوالم افتراضية تولّد واقعاً بديلاً يصعُب تمييزه عن الواقع الحقيقي الملموس. ورغم أن الذكاء الاصطناعي ما زال عاجزاً عن إنتاج مواد معقدة بسردية متماسكة، إلا أن الخبراء يؤكدون أن هذه القفزة النوعية قاب قوسين أو أدنى.
الفأس ذات الحدين: الخير والشر في يد صانع القرار
تحذيرات الخبراء لا تتعلق فقط بالتطور التكنولوجي، بل بالضرورة الملحة لـ ضوابط قانونية واضحة وملزمة وسريعة التنفيذ. فهم يحذرون من أن الامتناع عن تأطير هذا الاستخدام قد يوقع قطاع الإعلام في حال من التخبط والفوضى، ممهداً لنهايته كما عرفناه حتى الآن.
العالمة البريطانية الراحلة مارغريت بودين، وهي مرجع عالمي في مجال الذكاء الاصطناعي، شبّهت هذه التقنية بـ "الفأس، يمكن أن تستخدمها للخير وللشر". وحذّرت بودين من خطأين شائعين حول الذكاء الاصطناعي: المبالغة في طاقته أو التقليل منها. ودعت إلى الاعتدال، مؤكدة أن فوائد الذكاء الاصطناعي تتجاوز بكثير أضراره المحتملة في قطاعات مثل الطب والمواصلات والبحوث العلمية والإعلام، شريطة توافر الضوابط اللازمة والإرادة لتفعيلها.
هل يحل الذكاء الاصطناعي محل الصحافي؟ جدل الـ "خبر" البشري
على الرغم من القدرات الهائلة المتوقعة، يظل هناك تيار يشدد على أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يحل محل الصحافي البشري. ويرى هذا الفريق أن الخبر في أساسه هو إنتاج بشري صرف؛ فهو "خبر" بفعل كونه فريداً، جديداً، وحصرياً، وينطلق من رسالة تنقل حدثاً وقع للمرة الأولى وتمت تغطيته على يد صحافي، وهو ما يعجز عنه الذكاء الاصطناعي.
بيد أن آخرين يتوقعون أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي بالتأكيد إلى خفض عدد الإعلاميين في الصحف والمؤسسات الإذاعية والتلفزيونية، خاصة وأن المواد التي تنتجها التطبيقات الإلكترونية باتت ذات نوعية عالية يصعب تمييزها عن المواد التي تخرج من الأقلام البشرية.
في النهاية، يبدو أن السؤال لم يعد يتعلق بما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيدخل غرف الأخبار، بل كيف سيتم استخدامه. فهل سيصبح أداة تمكين للصحافي البشري، أم أداة استبدال تقود إلى أزمة أخلاقية ومهنية غير مسبوقة؟ التحدي يكمن في إيجاد التوازن بين الكفاءة التكنولوجية والمسؤولية الإنسانية.