الثلاثاء  30 أيلول 2025

جدل صخرة الروشة.. معركة الرموز والهوية في مشروع الشرق الأوسط الجديد

2025-09-30 03:47:50 PM
جدل صخرة الروشة.. معركة الرموز والهوية في مشروع الشرق الأوسط الجديد
كاريكاتير: كمال شرف

تدوين - سوار عبد ربه

العدد 186 من صحيفة الحدث الفلسطيني

ليست قضية صخرة الروشة والجدل الدائر في لبنان حول رمزيتها الوطنية مجرد خلاف داخلي عابر، بل هي انعكاس لصراع أوسع يُعاد فيه تشكيل الوعي والهوية ضمن مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي لا يكتفي بإعادة رسم الخرائط الجغرافية، بل يتجاوزها إلى البنى الاجتماعية والثقافية. ولعل الموقف الرسمي اللبناني الرافض لاستخدام الصخرة لأغراض وصفها بالحزبية، يعكس مدى تموضع الدولة اليوم ضمن مساعي إنتاج مشهد عربي مفرغ من معاني المقاومة والتحرر، ومحاولة فرض رؤية تخدم مصالح أجنبية، تتقدمها الإرادة الصهيو-أميركية.

جذور الخلاف: الطائفية والانقسام السياسي في الشارع اللبناني

في 27 أيلول 2025، تحل الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد السيد حسن نصر الله إثر استهداف القيادة المركزية لحزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية، بقصف إسرائيلي استخدم فيه 80 قنبلة خارقة للتحصينات، زنة كل منها طن من المتفجرات. تأتي هذه الذكرى في سياق وطني مأزوم، يتسم بانقسام سياسي واجتماعي حاد، يتجاوز اللحظة ليعود بجذوره إلى البنية التاريخية للبنان، حيث التعددية الطائفية والاصطفافات السياسية المتشابكة.

وقبيل الذكرى، أعلن حزب الله عن برنامج فعاليات يمتد من 25 أيلول حتى 12 تشرين الأول، يتضمن إضاءة صخرة الروشة بصور الشهيدين السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين. أثار هذا الإعلان موجة اعتراض واسعة من ناشطين ومسؤولين، بحجة أن الصخرة تمثل رمزا وطنيا جامعا لا يجوز تسييسه. أحد المعترضين تساءل بحدة: "من أعطاكم الإذن للتصرف بهذه الوقاحة كأن لبنان ملكٌ لكم؟".

جمهور المقاومة يحيي الذكرى الأولى لاستشهاد السيد حسن نصر الله

تعود المسألة الطائفية لتفرض نفسها على الحدث، ليس بوصفها ملفا متجددا، لم يغلق بعد، بل كمكون بنيوي في العلاقات المجتمعية والسياسية داخل هذا البلد ذي البنية الاجتماعية المعقدة حيث تتقاطع الطائفية هنا مع الانتماءات السياسية، مما يعمق من حدة الانقسام المجتمعي، ويعيد إلى الأذهان مشاهد الحرب الأهلية (1975–1990)، التي لا تزال حاضرة في الذاكرة الجمعية كحدث مهدد بالعودة في أي لحظة.

من الشارع إلى الدولة

ولم يتأخر الجدل في الوصول إلى المستوى الرسمي، حيث أصدر رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، في 22 أيلول 2025، بيانا حاسما اعتبر فيه أن إضاءة صخرة الروشة دون إذن رسمي يعد خرقا قانونيا. وأوضح أن استخدام الصخرة كمعلم سياحي وطني يخضع لترخيص مسبق من الجهات المختصة، محذرا من استغلال المعالم العامة لأغراض سياسية أو حزبية.

التعميم الصادر عن الحكومة اللبنانية

وجاء في البيان: "بعد تزايد ظاهرة استخدام الأملاك العامة واستغلالها لأغراض تجارية أو منافع خاصة أو أهداف سياسية، وتكرار استغلال المعالم الوطنية لأغراض دعائية تحمل شعارات حزبية، وانطلاقا من النصوص القانونية التي تشترط الحصول على أذونات رسمية لاستخدام هذه المواقع، وحرصا على المصلحة العامة وحقوق الدولة والنظام العام، يُطلب من جميع الإدارات والبلديات والمؤسسات المعنية التشدد في منع استخدام الأماكن العامة أو الرموز الوطنية لأي غرض، دون ترخيص قانوني مسبق."

فعاليات سابقة وازدواجية في المعايير

لكن المفارقة أن صخرة الروشة شهدت فعاليات مشابهة في السابق، أبرزها إضاءتها بألوان العلم الفلسطيني في أكثر من مناسبة، كان آخرها عام 2024 دعما لأهالي غزة في مواجهة العدوان الصهيوني المتواصل. غير أن قضية فلسطين، لما تحمله من بعد إنساني وتحرري، تظل خارج المقارنة، وتمثل استثناء يحظى بإجماع نادر لا تنطبق عليه ثنائية الرفض والقبول.

لكن الصخرة نفسها أُضيئت أيضا في مناسبات لا تحمل ذلك البعد الأخلاقي أو التحرري، كما في احتفالات اليوم الوطني السعودي عام 2016، التي شملت عرض صورة العاهل السعودي وولي عهده، أو عند إضاءتها بعلم الإمارات عام 2018 ترحيبا بأولى رحلات طيران الإمارات إلى بيروت بعد سنوات من الانقطاع. وحتى عند إضاءتها بعلم فرنسا تضامنا مع ضحايا هجمات باريس عام 2015، جاء التبرير الرسمي على لسان محافظ بيروت بأن "الخسارة واحدة والحزن واحد"، في إشارة إلى التفجير الإرهابي الذي استهدف برج البراجنة في الفترة نفسها.

صخرة الروشة مضاءة بصورتي العاهل السعودي وولي عهده-2016

تظهر هذه الأمثلة أن استخدام الصخرة لأغراض رمزية أو سياسية ليس بالأمر الجديد، وأن الاعتراضات الأخيرة تتسم بازدواجية واضحة، إذ سبق استخدام الصخرة دون أن تثير ردود فعل مماثلة. ويبقى السؤال الجوهري: لماذا يُستثنى الشهيدان اللبنانيان من رمزية صخرة الروشة؟ ولماذا يعتبر التضامن في مناسبات أخرى مشروعا وغير مرفوض، بينما يعد انتهاكا عند الحديث عن المقاومة؟

الجواب، على ما يبدو، يكمن في أن الخصومة السياسية في لبنان هي التي تحدد معاني الرمزية، وسط سعي متواصل من بعض الأطراف لنفي صفة المقاومة عن لبنان، أو تصويره كبلد غير معني بها.

وتكشف هذه الحادثة أن الرمزية الوطنية ليست مفهوما ثابتا، بل مساحة صراع سياسي تتشكل حسب السياق السائد. وفي ظل استمرار الانقسام حول الهوية الوطنية نفسها، فإن كل رمز حتى لو بدا بسيطا يبقى معرضا للتجاذب، بل قد يتحول إلى أداة لتكريس الانقسام أكثر مما هو أداة للتوحيد.

الرمزية الوطنية ليست مفهوما ثابتا، بل مساحة صراع سياسي تتشكل حسب السياق السائد

وهنا، لا يبدو الجدل الذي أثارته خطوة حزب الله بإضاءة صخرة الروشة مجرد خلاف على استخدام معلم سياحي، بل هو في جوهره مواجهة رمزية أعمق، تتعلق بالشخصية التي اختيرت لتجسّد على هذا الرمز الوطني: السيد حسن نصر الله. فقد بدا أن الانقسام حول هذه الخطوة لا ينفصل عن الانقسام الأوسع حول شخصية السيد نفسه، الذي يعد رمزا وطنيا لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، فيما يشكل في المقابل مصدر توتر ورفض لدى أطراف سياسية ترى في حضوره تهديدا لرؤيتها الخاصة للبنان.

السيد حسن نصر الله: شخصية عابرة للطوائف

ووسط الانقسام التقليدي الذي يطبع المشهد اللبناني، تظل شخصية السيد حسن نصر الله استثناء لافتا، إذ استطاع أن يتجاوز حضوره الطائفي، وينال احتراما واسعا حتى في أوساط لا تؤيد حزب الله ولا تنتمي إلى الطائفة الشيعية. فمنذ بداياته، لم يكن السيد مجرد زعيم حزبي أو قائد ميداني، بل شخصية ذات كاريزما روحية وأخلاقية، جسدت في خطابها صورة "رجل الدين المقاوم"، القادر على مخاطبة جميع اللبنانيين بلغة تتجاوز الاصطفافات السياسية والطائفية.

وفي أكثر من مناسبة، عبر السيد حسن نصر الله عن رؤية واضحة لوحدة لبنان، ورفضه لأي مشروع يهدد نسيجه الوطني. ففي خطابه الشهير بعد انتصار المقاومة في تموز 2006، قال: "لبنان انتصر وماشي الحال وذاهبون نحو إعادة بناء، ونحن شعب واحد ونريد العيش سويا ونريد أن نكمل مع بعض"، في تأكيد على خيار التماسك رغم الجراح ومحاولات التفريق.

كما شدد في أكثر من موقف على رفضه لأي طروحات تقسيمية أو نزعات انعزالية، قائلا: "تقسيم البلد لن يحصل، والشعب اللبناني من كل الطوائف لن يسمح بذلك". وفي خطاب آخر، أدان التحريض الطائفي والمناطقي، معتبرا أن "من يريد أن يحرك الإقليمية والمناطقية بين اللبنانيين فهو يخدم أعداء لبنان"، واضعا بذلك معيارا وطنيا لوحدة الصف في مواجهة مشاريع التفتيت.

ولم يقتصر حضوره على الخطابات السياسية، بل عبر أيضا عن مفهوم جامع للوحدة الوطنية من خلال التهنئة بجميع المناسبات الدينية، واعتبار كل عيد ديني مناسبة وطنية بامتياز. كما أظهر تضامنا متكررا مع ضحايا التفجيرات الإرهابية ذات الطابع الطائفي، سواء في باكستان، معلولا، الموصل، دمشق وسواها، مؤسسا بذلك لنموذج "رجل الدين العابر للطوائف والحدود". ولا شك أن دعمه المتواصل للقضية الفلسطينية في مختلف مراحلها المفصلية، وآخرها جبهة الإسناد في معركة طوفان الأقصى، يعد أبرز تجل لهذا الحضور العابر لكل الرؤى الضيقة والانتماءات المحدودة.

خطاب سابق مفتاح لفهم الواقع الراهن

ورغم أن "الوحدة" شكلت الثيمة المركزية في خطابه، فإن السيد حسن نصر الله أظهر إدراكا عميقا لتعقيدات الواقع الإقليمي. ففي احتفال عيد المقاومة والتحرير الذي أُقيم في 25 أيار 2013، إحياء لذكرى الانتصار التاريخي عام 2000، قال بوضوح: "أنتم لا تفهمون هذه المقاومة ولا جمهورها ولا بيئتها ولا ثقافتها. مرت 30 سنة لم تفهموها، ولن تفهموها، لأنكم دائما تفهمون خطأ وتحسبون خطأ، وبالتالي نتائجكم تكون خاطئة".

جنوب لبنان- 25 أيار 2000

تُعاد قراءة هذه العبارة اليوم في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، لا سيما وأن توقيتها جاء في ذروة الحرب السورية (2011 - حتى الآن)، مع صعود الجماعات المسلحة وتحولها إلى أدوات في صراعات إقليمية ودولية. كان نصر الله يرى أن ما يحدث في سوريا لا يُمثل "ثورة شعبية" كما روج له، بل مشروعا سياسيا تقوده الولايات المتحدة والغرب، يهدف إلى إسقاط الدولة السورية، التي وصفها بــ "ظهر المقاومة" وخط إمدادها الاستراتيجي.

وقال بوضوح في ذلك الخطاب: "لم تعد سوريا ساحة لثورة شعبية ضد نظام سياسي، وإنما ساحة لفرض مشروع سياسي تقوده أميركا والغرب وأدواتهم في المنطقة. وكلنا يعرف أن مشروع أميركا في المنطقة هو مشروع إسرائيلي بالكامل."

تكتسب هذه المقاربة أهمية خاصة اليوم، في ضوء التطورات التي يُنظر إليها من قبل أنصار هذا التحليل كدليل على دقته. فمنذ 8 كانون الأول 2024، دخلت سوريا مرحلة انتقالية جذرية، بعد نجاح الجماعات المسلحة، التي تحولت إلى واجهات سياسية، في السيطرة على مفاصل الحكم. وقد أعادت دمشق تموضعها على الساحة الدولية، مادة يدها للولايات المتحدة برئاسة دونالد ترامب، الذي سارع إلى تقديم سلسلة تسهيلات لرئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، من أبرزها: رفع العقوبات الاقتصادية، منحه تأشيرة دخول إلى نيويورك، وإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، هي الأولى لرئيس سوري منذ عام 1967. بالإضافة إلى سلسلة لقاءات غير مسبوقة بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين بواسطة أمريكية، تمهيدا لاتفاق أمني قد يُفضي لاحقا إلى تسويات أوسع.

لبنانيا، تتضاعف أهمية خطاب السيد نصر الله في ضوء الصراع القائم حول سلاح المقاومة، خاصة بعد مقترح قدمه المبعوث الأميركي الخاص إلى المنطقة، توماس باراك، وتبنته الحكومة اللبنانية. ويهدف هذا المقترح إلى نزع سلاح حزب الله تحت مظلة "توافق داخلي"، لكنه جاء في واقع الأمر نتيجة ضغوط أميركية مباشرة.

في المقابل، ترفض المقاومة هذا الطرح رفضا قاطعا، وتعتبره مساسا بجوهر الأمن الوطني، وبمصدر قوة لبنان في مواجهة التهديدات الإسرائيلية المستمرة. ومع ذلك، تواصل الدولة اللبنانية، تحت ضغط دولي متزايد، السير في اتجاه تنفيذه.

إذن، لماذا اختار السيد حسن نصر الله في ذلك الخطاب تحديدا (عيد المقاومة والتحرير، 25 أيار 2013) أن يُصرح بأن خصومه "لا يفهمون المقاومة ولا جمهورها ولا بيئتها"؟

لم تكن تلك العبارة عفوية، ولا توقيت الخطاب مصادفة. فالسيد، المعروف بدقة إطلالاته وحساسيته تجاه اللحظات السياسية المفصلية، يحرص دائما على الظهور حين تستدعي اللحظة إعادة تعريف الموقف وتثبيت الاتجاه أمام جمهوره وخصومه على حد سواء.

في ذلك السياق، جاء الخطاب ليكرس وحدة جبهة المقاومة في مواجهة ما اعتبره مشروعا أمريكيا-غربيا متكامل الأبعاد، يستهدف إسقاط سوريا بوصفها "ظهر المقاومة"، تمهيدا لمحاصرة الحزب وبيئته. وقد حذر بوضوح من أن أي استهداف لسوريا أو لبنية المقاومة، هو استهداف للمشروع المقاوم برمته.

هذا الامتداد الشعبي والاجتماعي شكل على الدوام درعا سياسيا ونفسيا للمشروع المقاوم

وبالفعل، لم تمضِ سوى ثلاثة أشهر على استشهاد السيد حسن نصر الله، حتى انهار النظام السوري رسميا، وانتقلت السلطة إلى الجماعات المسلحة المدعومة إقليميا ودوليا، إيذانا بمرحلة انتقالية قلبت موقع سوريا في معادلة الصراع الإقليمي.

لكن دلالة العبارة لم تكن محصورة في الإطار السياسي والعسكري، بل حملت بعدا أعمق، فقد حرص السيد نصر الله على التشديد على "جمهور المقاومة وبيئتها"، هذا الامتداد الشعبي والاجتماعي الذي شكل على الدوام درعا سياسيا ونفسيا للمشروع المقاوم. واليوم يقف الجمهور، كما بالأمس، في مواجهة الضغوط والتهديدات، سواء محاولات نزع السلاح أو حتى إلغاء الرموز.

ومن هنا، يمكن فهم الرفض الشعبي داخل هذه البيئة لمحاولات منع ظهور صورة السيد نصر الله على صخرة الروشة. فالصورة، في نظر هذه البيئة، ليست مجرد عرض بصري على معلم طبيعي، بل تمثيل رمزي لهوية المقاومة، ورفض حاسم لسياسات الكيل بمكيالين التي ترى في صور الرؤساء والملوك العرب "تضامنا أخويا"، بينما تعتبر صورة مقاوم لبناني "انتهاكا للرمزية الوطنية".

إضاءة صخرة الروشة بصورة السيد الشهيد حسن نصر الله

ختاما، فإن القضايا التي تبدأ كمسائل اجتماعية أو رمزية، كالنقاش حول صخرة الروشة، لا تلبث أن تنزلق سريعا إلى ساحة التجاذب السياسي والطائفي، خاصة في ظل المزاج الشعبي المحتقن. وسرعان ما تتحول هذه القضايا إلى أدوات اشتباك تُستثمر في الخطابات، وتوظف ضمن الأجندات الأوسع للأطراف المتصارعة.

لكن الأخطر من ذلك، أن هذا الجدل لا يأتي في فراغ، بل يظهر في لحظة مفصلية يراد من خلالها إعادة تشكيل المعادلة اللبنانية، ضمن سياق أوسع لإعادة إنتاج "شرق أوسط جديد" يستجيب للمصالح الأميركية وحليفتها إسرائيل، ويُعيد تعريف مفاهيم السيادة والمقاومة والرمزية الوطنية بما يخدم هذا المشروع.