الأربعاء  01 تشرين الأول 2025

العصر الجديد للإبادة الجماعية: التحديات الفكرية والسياسية بعد غزة

2025-10-01 08:05:58 AM
العصر الجديد للإبادة الجماعية: التحديات الفكرية والسياسية بعد غزة

تدوين- راما الحموري

يمثل كتاب "العصر الجديد للإبادة الجماعية: التحديات الفكرية والسياسية بعد غزة" للباحث مارتن شو، والصادر عن دار "أجندة بابليشينغ" (Agenda Publishing)، نقطة تحول حاسمة في النقاش الأكاديمي والسياسي حول مفهوم الإبادة الجماعية. يقف شو، وهو أحد أبرز المنظرين الاجتماعيين في هذا المجال، ليؤكد أن الدمار الهائل وغير المسبوق الذي أحدثته إسرائيل في قطاع غزة لم يكن مجرد صراع عسكري عابر، بل حدث أعاد بقوة مصطلح الإبادة الجماعية إلى صدارة الأجندة العالمية، مخلخلاً بذلك الأطر الفكرية والسياسية التي حاولت تهميش هذا المفهوم أو حصره في سوابق تاريخية بعيدة.

إبادة غزة وإعادة تفعيل المفهوم

كانت السنوات التي سبقت حرب غزة الأخيرة قد شهدت محاولات عديدة لتخفيف حدة مصطلح الإبادة الجماعية أو تفريغه من محتواه السياسي، بالتركيز المفرط على الشروط القانونية الصارمة لإثبات "النية المحددة" (Dolous Specialis). ولكن، وكما يجادل مارتن شو بقوة، فإن حجم الفظائع في غزة، بما في ذلك التدمير الممنهج للبنية التحتية، وتشريد الغالبية العظمى من السكان، وحصار المساعدات الذي أدى إلى مجاعة، أجبر الأوساط الفكرية والسياسية على الاعتراف بأن ما يحدث يتجاوز بكثير مفهوم "جرائم الحرب" التقليدي.

يدافع شو عن استخدام مصطلح الإبادة الجماعية، ويؤكد أهميته الحاسمة لفهم طبيعة الجرائم الإسرائيلية. بالنسبة لشو، لا يجب أن يُترك مفهوم الإبادة الجماعية أسيرًا للأروقة القانونية الباردة فحسب، بل يجب اعتباره مفهومًا اجتماعيًا وسياسيًا يصف عملية تدمير مجموعة قومية أو عرقية أو دينية أو إثنية بشكل كلي أو جزئي. إن إصرار شو على هذا المصطلح ليس مجرد اختيار لغوي، بل هو دعوة إلى الاعتراف بالمنطق الشامل للتدمير الذي يهدف إلى جعل الحياة مستحيلة على قطاع واسع من السكان، وتهديد وجودهم كجماعة.

التحدي الفكري: تجاوز الجمود القانوني

يبرز الكتاب التحدي الفكري الذي يواجه المنظرين في أعقاب غزة. لطالما كان شو يركز على مفهوم "الإبادات الجماعية الحديثة" (Contemporary Genocides) التي تحدث غالبًا في سياقات الحروب غير المتكافئة، حيث تكون الدولة المعتدية واثقة من إفلاتها من العقاب. إن أحداث غزة تفرض على المفكرين إعادة النظر في النماذج القديمة للإبادة الجماعية (مثل الهولوكوست)، وتطوير أطر نظرية جديدة تستوعب الإبادات التي تتم عبر القصف الجوي، والحصار، والتطهير القسري، والتي تتسم بطابع "الإنكار المعقول" (Plausible Deniability) من قبل مرتكبيها وداعميها.

يُشير شو إلى أن رفض الأكاديميين والساسة الغربيين الاعتراف بما يحدث في غزة كإبادة جماعية هو في جزء منه نابع من التبعية الفكرية للرواية الغربية التي تضع الدول الغربية وحلفاءها فوق المساءلة الأخلاقية والقانونية. هذا الجمود الفكري، وفقاً لشو، يهدد بتقويض أساس القانون الإنساني الدولي نفسه.

التواطؤ الغربي والمشاركة في الجريمة

لعل النقطة الأكثر إثارة للجدل والأهمية السياسية في كتاب شو هي تحليله لدور الغرب. لا يكتفي الكتاب بانتقاد الغرب لفشله في منع الجرائم، وهو الدور التقليدي المنوط به بموجب اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، بل يذهب شو إلى أبعد من ذلك ليؤكد أن الغرب يشارك أحيانًا في الإبادة الجماعية.

هذه المشاركة تأخذ أشكالاً متعددة:

الدعم العسكري واللوجستي: توفير الأسلحة والذخائر والدعم الاستخباراتي الذي يغذي آلة الحرب الإسرائيلية.

الحصانة الدبلوماسية: استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لعرقلة قرارات وقف إطلاق النار أو التحقيق، ما يمنح إسرائيل حصانة فعالة.

التبرير الإعلامي والسياسي: تبني الرواية الإسرائيلية وتهميش أو إنكار الرواية الفلسطينية وشهادات الفظائع.

يرى شو أن هذا التواطؤ، خاصة من القوى العظمى، يخلق "عصرًا جديدًا" للإبادة الجماعية، حيث تكون الدول التي تدعي أنها حامية النظام العالمي هي نفسها شريكة في تدميره. هذا يضع تحديًا سياسيًا وأخلاقيًا هائلاً أمام الحركات المناهضة للحرب ونشطاء حقوق الإنسان في الغرب، الذين عليهم الآن مواجهة حكوماتهم بشكل مباشر كشركاء في الجريمة.

السياق التاريخي: الإبادات المنسية والتواطؤ البريطاني

يحلل شو إبادة غزة ضمن سياق تاريخي أطول، بعيدًا عن عزلتها الظرفية. إن الإشارة إلى "الإبادات المنسية" تخدم غرضًا مزدوجًا: أولاً، تذكير بأن الجرائم المماثلة قد وقعت في الماضي دون أن تلقى الاهتمام أو المساءلة الكافية، مما يشير إلى نمط من الإفلات من العقاب؛ وثانيًا، وضع مأساة غزة في سلسلة من الأحداث التي شكلت النظام العالمي الحالي، وهو نظام يتسامح مع العنف الهيكلي ضد مجموعات معينة.

ويولي الكتاب اهتمامًا خاصًا لـ تاريخ التواطؤ البريطاني. من خلال تحليل دقيق للتاريخ الاستعماري والتدخلات اللاحقة، يوضح شو كيف أن جذور السياسات التي أدت إلى الوضع الحالي في فلسطين، وصولاً إلى الدعم السياسي والدبلوماسي غير المشروط لإسرائيل، تعود إلى إرث إمبريالي قديم. هذا التحليل التاريخي لا يهدف فقط إلى الإدانة، بل إلى فضح الاستمرارية بين الممارسات الإمبراطورية السابقة والدعم الغربي المعاصر، مما يجعل غزة ليست مجرد حدث معاصر، بل تتويجًا لقرون من السياسات القائمة على القوة والتفوق العرقي.

خاتمة: التحديات السياسية في العصر الجديد

يختتم كتاب مارتن شو بتقديم رؤية قاتمة ولكنها ضرورية حول التحديات التي يفرضها "العصر الجديد للإبادة الجماعية". التحدي السياسي الأكبر يكمن في كيفية بناء حركة عالمية للمساءلة قادرة على اختراق جدار الحماية السياسي والدبلوماسي الذي يوفره الغرب للمعتدي.

إن غزة، في نظر شو، تمثل نقطة انكسار: فإما أن يؤدي هذا الحدث إلى تفعيل حقيقي لمفاهيم العدالة والمساءلة الدولية، أو أن يؤكد سيادة القوة على القانون، ويشرعن بالتالي آليات الإفلات من العقاب في المستقبل. كتاب شو ليس مجرد دراسة نظرية، بل هو صرخة سياسية وفكرية تطالب بإعادة إحياء الضمير العالمي وتؤكد أن الإبادة الجماعية ليست مجريات من الماضي، بل هي خطر قائم وحاضر يتم تنفيذه بدعم من أقوى القوى في العالم. إنه يدعو إلى إعادة تأسيس الأخلاق في السياسة العالمية، ويشدد على أن الطريق إلى منع الإبادات الجماعية المستقبلية يمر عبر تسمية ما حدث في غزة باسمه الحقيقي: إبادة جماعية.