تدوين-فراس حج محمد
في صالون الحلاقة التقيت مع زميل دراسة، له ميول أدبية، كان يتابع ما أكتب قبل أن اضطر لإنهاء نشاطي على الفيسبوك. تحدثنا في أمور الأدب والشعر والكتابة وجني العوائد من ذلك، وأجندات الفضائيات، والاضطرار لتقديم التنازلات عن بعض الأفكار ليكون لك مكان فيها، أمر أيدته فيه كثيراً، فقد عايشته عند بعض المحللين السياسيين، ولعلمي أن لا إعلام دون انحياز واصطفاف، وقال: لا أتصور أن أراك تمدح نظاما مجرما أو حاكما عربياً، فإن اضطررت سيظهر على كلماتك وملامح وجهك. ابتسمت وأيدته تماماً.
يسهب صديقي في الحديث عن اللغة العربية وأن طلاب هذا اليوم لا يتقنون الحديث ولا الكتابة، ووصفني بأنني وأبناء جيلي من الكتاب نشكل حلقة وصل بين كتاب الستينيات والخمسينيات وبين هذا الجيل.
تحدثنا عن صديق آخر لنا يتذوق الشعر ويلقيه بطريقة جاذبة، على الرغم من أنه لم يحز تعليما جامعيّاً، لقد اتفقنا على هذه الملاحظة، اليوم لا يوجد شيء من هذا، وإن وجد فقليل جداً، لم ينته الأمر في صالون الحلاقة، وأخذت أفكر بعلاقة الأجيال معاً، لا بصراعها، وإنما كيف يمكن لها أن تتعايش.
جاء هذا كله وأنا منشغل بالعالم الروائي للصديق أحمد رفيق عوض، ما زلت أقرأ في رواياته الثلاث الأخيرة (الصوفي والقصر، والحياة كما ينبغي، ودابة الأرض) وأعيد فيها النظر، وأريد أن أقدم فيها شيئا آخر مختلفا عما قد يقدمه الآخرون، ليس بحثاً عن الفرادة والتميز، إنما من أجل فهم أعمق لصيرورة الأدب نفسه، وسيرورته بين الأجيال المختلفة مزاجا وطبيعة وتفكيرا، فتذكرت هذه الحكاية، وشرعت بكتابتها كما ولدت قبل عامين.
في الحرب الهمجية على قطاع غزة، الحرب التي أعقبت "طوفان الأقصى" بعد السابع من أكتوبر عام 2023، ظهر بشكل لافت الدكتور أحمد رفيق عوض، محللا سياسياً على قناة الغد الفضائية، وكنت من متابعيها الدائمين قبل أن أتحوّل إلى متابعة قناة العربي وقناة الجزيرة. ومن على شاشة الغد وصلتني مشاهد "العبور التشريني العظيم" صباح السبت في ذلك اليوم المشهود، أخذت بروعة ما شاهدت، وانتشيت، ولكن...!
تلا ذلك اليوم عامان، أصعب ما يمكن أن يتصوره إنسان على وجه البسيطة، انحشر عقلي وقلبي في مشاهدة الأخبار، وشيئا فشيئاً، تغيرت الحال من النشوة إلى الشعور بالمصيبة، لم أترك شاشة التلفاز لحظة واحدة، يمرّ بي الصديق أحمد رفيق عوض، يحلل سياسيا، ويقول رأيه، كان بين الأمل والألم، لم يُفْرِط في تفاؤله، لكنه لم يغرقنا في التشاؤم، كان يقرأ المشهد بعين موضوعية. هذه الموضوعية لم تكن لتغيب كذلك عن مقالته في صحيفة القدس التي كانت تحتل مكانها في أعلى الصفحة الأخيرة من الجريدة، التحليل المشاهَد على الشاشة، والمقال المقروء في الصحيفة، كفيلان بإعطاء صورة شبه واضحة عن أفكار أحمد رفيق عوض السياسية، وتحليله لوجهة النظر المعادية، وهي موجودة بوضوح شديد في رواياته السياسية التي كتبها قبل الحرب وفي أثنائها.
في أحد الأيام، ونحن نحاول أن ننسى آلام الحرب، ظهر الصديق أحمد رفيق عوض على شاشة الغد، وابني الصغير مجالسنا، فأشرت إلى الشاشة أن هذا المتحدث صديقي، وذكرت له اسمه وكنيته "أبا ضرار"، وأننا اشتركنا معاً في عدة أنشطة ثقافية، ومنها ما كان هذا الفتى يرافقني فيها مصوّرا وباثاً للنشاط على مواقع التواصل الاجتماعي. ابني على ما يبدو لم يعد يتذكر!
لم يلتفت إليّ، لكنه ببداهة وسرعة خاطر، قال: معك رقمه؟ ضحكت من هذا الجواب، وكأنه لا يكون صديقي إلا ومعي رقمه. ابني يندرج ضمن جيل يطلق عليه جيل ألفا، وهم من ولدوا عام 2011 وما بعد، وأنا من جيل أطلق عليه (X)، والدكتور أحمد رفيق عوض لا شك في أنه من جيل آخر، يطلق عليه "جيل طفرة المواليد". إذاً، العقليات تختلف، والاهتمامات تختلف على الأقل بين جيلنا، أنا والدكتور عوض وجيل ابني. ابني لم يعرّف الصداقة إلا بالرقمية، بالاتصال، بالتكنولوجيا، وهذا وإن كان غريباً عليّ، وسبب لي نوعا من الصدمة البسيطة، إلا أنه أعاد إليّ التفكير بكيفية تعريف الأشياء من جيل لجيل.
لا شك في أنّ أحمد رفيق عوض يفكر بالطريقة المختلفة التي تفكر فيها الأجيال من (X) وحتى ألفا، ولكن كل الأجيال التي تنتمي إلى جيل أسبق، اضطرت لأن تلحق بألفا أيضاً، فكيف تكون صديقي ولست أملك رقمك الشخصي للاتصال بك؟ وكيف لا تكون ضمن مراسليّ على الواتس أب، وألّا تكون عضوا في المجموعات التواصلية لهذا التطبيق، بعد أن خفت بريق الفيسبوك، وتجاوزناه؟ تذكروا أن أفراد الجيل اللاحق لجيلنا لم يستوعب ألا تكون صديقا فيسبوكياً. الآن، لستَ صديقا إن لم تكن قرينا واتسأبياً. تضيق المسافات أكثر بين الأجيال، وتأخذ أبعادا رقمية أكثر وأكثر.
من هذا المنطق تصبح كتابة الجيل السابق اليوم معضلة كبرى لجيل "الديجتال"، فكيف سيقرأ جيل ألفا ما كتبه جيل الطفرة، بل كيف سيفهم هذا الجيل- جيل ابني- طبيعة العلاقة التي تحكمني وصديقي أحمد رفيق عوض وكل الآخرين الذين ينتمون إلى الجيل نفسه، لكل جيل اهتمام ورؤيا وانشغالات ومهارات، فهل سيهتم جيل زد وما بعده بما كتبه جيل (X) وما قبله، لذلك ألاحظ أن أبنائي لا يهتمون بما أكتب، هؤلاء يريدون كاتبا من جيلهم، أو كاتباً يفكر بما يفكرون فيه، إذاً صار واجبا على الكتّاب أن يغيروا منهجهم الكلي في الكتابة إن أرادوا أن تقرأ لهم الأجيال الجديدة.
ابني ومعه كل أبناء جيل ألفا، يهتم بالحرب وبما تنتجه من فيديوهات وصور وألحان لها طابع استثنائي غير مقعّد حسب قواعد الأجيال السايقة، طابعها الحركة المثيرة المستفزة والكلمات الجديدة المنحوتة لتكون نبتا من نبات هذه المرحلة، لكنه لا يتابع المحللين السياسيين ولا يعرف أسماءهم، ولا يهتم بهم، وبصداقات آبائهم لهم، عندهم مصادرهم من "التك تك" ومن "اللايف" ومن الأغاني السياسية الجديدة، لهم مزاج مختلف جدا عنّا، فهل ستفلح روايات أحمد رفيق عوض بتغيير وعي هذا الجيل والأجيال اللاحقة، على الرغم من أن أبناء هذا الجيل يتمتعون بوعي متقدم حول كثير من المسائل السياسية والعدالة الاجتماعية، يظهر مع ابني خلال مناقشاتنا الأسرية، مع ابني صرت أفهم أكثر قول القائل: "لا تُربوا أولادكم كما ربّاكم آباؤكم، فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم".
الأمر الآخر اللافت للنظر في ما يكتبه الروائيون الكبار المنتمون إلى جيل الطفرة وجيل (X) كم يستطيعون التعبير عن هموم هذا الجيل، وكيف بدوا في رواياتهم، الآن أفكر بممثلي هذه الأجيال في روايات أحمد رفيق عوض: "الحياة كما ينبغي" و"دابة الأرض"، وأستبعد من البحث رواية "الصوفي والقصر" كونها رواية تاريخية، تنحو منحى آخر في التفكير وفي الآليات وفي المناقشة وفي الاهتمامات.
على أية حال، ابني الصغير نبهني إلى ضرورة ملاحظة سلوك جيله والجيل الذي سبقه جيل (Z) في ما يكتبه الروائيون، وبالمقابل لا بد من أن ينتبه الروائيون عندما يبنون شخصية روائية تنتمي إلى هذا الجيل في أن تكون بالفعل ممثلة له، ولما يفكر به، فهل يستطيع جيل الطفرة أن يكتب لجيل ليس يشبه؟
أعتقد أنه بالإمكان فعل ذلك، وإن كان يلزمه تدريب وإعادة صياغة وأن يكون هناك قرّاء من هذا الجيل يوجهون الكتّاب، بوصفهم محكمين بارعين، وإن كان من الأجدر أن يكون لهؤلاء كتاب خاصون، على غرار كتّاب أدب الفتيان وأدب الأطفال، وأدب الفنتازيا وأدب الخيال العلمي وغير ذلك من أنواع الأدب، وعلى ما يبدو فإن الأمر يلزمه موهبة خاصة.
هذه الحكاية الشخصية جعلتني أعيد النظر مثلاً في "ظاهرة أسامة المسلم" على الرغم من أنه ينتمي إلى جيل (X) فهو من مواليد عام 1977، ولكن معظم قرائه ينتمون إلى جيل (Z)، ويتحلّقون حوله بعشرات الآلاف، إنه بالفعل ظاهرة تستحق القراءة الموضوعية والتفكيك النقدي، لقراءة أدبه بطريقة نقدية بعيدة عن آليات نقد جيل الطفرة وجيل (X)، لأن ما يحدث لأسامة المسلم أشبه بالطوفان، يقلب موازين المنطق المعتاد، كما قلب "طوفان الأقصى" موازين العالم أجمع، وعلى الرغم من أن الطوفانين من حقلين مختلفين إلا أن "عابري الطوفان" يوم السابع من أكتوبر عام 2023 كان أغلبهم منتميا إلى جيل (Z)، وإن كان مهندسو الطوفان ينتمون إلى أجيال أسبق، وهذه شكلت صدمة سياسية عالمية، وكذلك طوفان أسامة، شكل صدمة للكتاب الأكثر كلاسيكية ومحافظة، لا سيما جيل الطفرة، هذا الجيل الذي لم يتساوق مع الطفرات التكنولوجية الرقمية وظل قابعاً في زمانه، مأسوراً في عقليته.
لقد بتّ على قناعة أن ابني اليوم يُهديني أهم فكرة يمكن أن يكون لها ما بعدها، وهذه هي سنة الحياة، شئنا أم أبينا، فلا يجوز أن نحكم على الأشياء والأفكار والكتب بمنطق المؤلف وحده، فثمة طوافين كثيرة في العالم، جعلت "طوفان الأقصى" أمرا مبررا جدا عند أبناء (Z) وألفا؛ لأنهم باختصار لا يفكرون بالطريقة التي نفكر فيها، وهذا سينسحب على قادة طرفي الصراع وسياسيهما، فثمة أجيال قادمة تريد حرية أكبر مما يظن هؤلاء القادة، وتريد أدباً له مذاق هذه الحرية التي لا تبقي ولا تذر من الماضي القديم في عقولهم أي أثر، وسيظلّ محفوظاً في بطون الكتب القديمة التي أضحت كلاسيكية عفا عليها الزمن!
هل يصدق ذلك على روايات أحمد رفيق عوض هذه (التي ذكرتها أعلاه)؟ ربما